عادت إريتريا لتصدُّر المشهد في القرن الإفريقي منتصف سبتمبر الجاري بإعلانها التعبئة العسكرية العامة في البلاد؛ لتعزيز قدرات الجيش الإريتري في مساعدته لقوات الحكومة الفيدرالية الإثيوبية ضد “قوات المتمردين” في إقليم التيجراي؛ وبات التدخل الإريتري في الشؤون الإثيوبية الداخلية أمرًا واقعًا، ولا يُقابَل بأيّ تعليقات أو إدانة مِن قِبَل مؤسسات قارّية مثل الاتحاد الإفريقي أو “إيجاد”، كما أن القوى الكبرى المعنيَّة بشؤون القرن الإفريقي باتت تُقرّ سياسات الأمر الواقع في الإقليم بشكلٍ غير مسبوق وترك الأمور تمضي في مسارات العنف الأهلي والاكتفاء بمواقف رسمية معلنة، بالتوازي مع مسار الحفاظ على مكاسب اقتصادية واستراتيجية مستمرة؛ كما في مثالي الصين والولايات المتحدة (سواء في الامتيازات الاقتصادية المتعاقبة أو المحاصصة في قطاعات الاتصالات والبنية الأساسية والطاقة).
وعزَّز هذا الوضع مواصلة أسمرا سياساتها التدخلية في مختلف قضايا دول الجوار مثل عرقلة مسار تطوُّر بناء الجيش الفيدرالي الصومالي الموحّد عبر احتجاز أكثر من خمسة آلاف جندي صومالي في إريتريا بعد تدريبهم (الذي كان من المفترَض أن يتم في دولة خليجية أو تركيا قبل أن يستقر بهم المقام في إريتريا)؛ وفي التدخل في الشأن السوداني بمقاربة تميل لزعزعة العملية السياسية الجارية من بوابة التدخل في ملف “شرق السودان”.
وواصل الرئيس أسياس أفورقي سياساته الخارجية الناجحة في المراوغة، وربما بإدراكٍ واعٍ لديناميات السياسة الدولية في القرن الإفريقي بما يفوق كثيرًا أيّ توقُّعات بخصوص أفورقي، بالإضافة إلى جذب استثمارات صينية هائلة ستُدِرّ على نظامه نحو 700 مليون دولار سنويًّا (ما يمثل زيادة بنحو 12.5% قياسًا إلى الناتج المحلي الإجمالي لإريتريا المتوقع في العام الجاري 2022م عند 5.6 بليون دولار).
الحرب في جبهة إقليم تيجراي:
انتشرت قوات الأمن في كافة أرجاء إريتريا؛ لتوقيف المواطنين، وفحص أوراق موقفهم من أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها، وباقي مدة الاحتياط، (يستمر استدعاء المواطنين الإرتيريين ضمن قوات الاحتياط حتى بلوغ سن 55 عامًا).
وبدأت بالفعل إجراءات التعبئة العامة، وإرسال أعداد كبيرة من المجنّدين إلى الحدود مع إثيوبيا، وعلى امتداد حدود إقليم التيجراي تحديدًا، لتستأنف إريتريا سلسلة مواجهاتها العسكرية منذ استقلالها مع جميع دول الجوار (اليمن في العام 1995م، والسودان في العام 1996م، وجيبوتي 2008م، ثم في إقليم التيجراي منذ نهاية العام 2020م)؛ بينما تدارك وزير الإعلام الإريتري هذه الأنباء (19 سبتمبر الجاري)؛ مؤكدًا بأنه لم يتم استدعاء سوى أعداد “ضئيلة” من قوات الاحتياط، ونفى فكرة التعبئة العامة([1]).
وهكذا فقد جدّد أفورقي عمليًّا انخراط قوات بلاده في الصراع الدائر في إقليم التيجراي بإرساله بعض الفرق العسكرية إلى الحدود الجنوبية مع إثيوبيا بعد منتصف سبتمبر الجاري، وأكَّدت مصادر عسكرية ودبلوماسية متنوعة تلك المعلومات، مضيفةً بأن القوات الإريترية تحرَّكت بالفعل إلى مواقع استراتيجية فيما يُمثّل تصعيدًا خطيرًا للصراع([2]).
وأكَّدت مصادر إعلامية غربية وإقليمية إطلاق إريتريا هجومًا كاملاً على امتداد حدودها مع إثيوبيا (بما في ذلك الحدود مع إقليم العفر وليس التيجراي فحسب)؛ لمواجهة قوات التيجراي، بينما بادرت السلطات التيجراوية بالتنبيه على مواطنيها بالاستعداد للحرب.
وأكد جيتاتشو ردا الناطق باسم جبهة تحرير التيجراي أن “إريتريا تنشر جيشها بالكامل والاحتياطي”، مضيفًا بأن “قوات الإقليم تدافع ببطولة عن مواقعها”. كما تحدث مسؤولو جبهة تحرير التيجراي عن أن الإقليم يواجه “تحديًا وجوديًّا”؛ وأكَّد هذه الأنباءَ مراسلون لوكالات أنباء عالمية، وأشاروا إلى إقدام القوات الإريترية على ضرب مناطق “مجاورة لمدينة أديجرات” في شمالي إثيوبيا([3]).
وفيما خفت صوت الحكومة الإثيوبية في التعليق على الحرب؛ ظهرت أسمرا ووزير إعلامها يمين جبرميسكل لتبدو الطرف الأكثر اكتراثًا بالحرب في إقليم التيجراي، في مؤشر إلى وكالة إريترية في هذه الحرب، وعجز القوات الفيدرالية الإثيوبية عن الاستمرار في عمليات (آنية أو مرتقبة) على أكثر من جبهة.
وأكد جبرميسكل في حديث بثته Tesfanews أن بلاده “ليس لها مصلحة خاصة في إقليم التيجراي”، بل إن تحرك الجيش الإريتري هو بمثابة “دفاع عن النفس، وعن سيادة إريتريا”. وأضاف أن “جبهة تحرير التيجراي تنتهك اتفاق السلام بين إريتريا وإثيوبيا” (غير المعلن تفاصيله رسميًّا حتى الآن)، و”أنها تتبنى أجندة عدائية نحو إريتريا، تشمل ضم أقاليم إريترية وتغيير النظام في أسمرا، وتدمير هوية إريتريا الوطنية”([4]).
ويؤشر الموقف الإريتري، واكتفاء واشنطن بإعلانها “تتبع تحركات القوات الإريترية داخل الأراضي الإثيوبية”، إلى وجود ترتيبات قائمة بالفعل حسب اتفاق السلام (2018) بضمانات إقليمية وأمريكية لا تزال سارية حتى الآن.
الأزمة الصومالية: عرقلة مسار بناء الجيش الصومالي الموحد
يرى “ألكس دي وال” أنَّ وقوع الصومال في دائرة نفوذ أسياس أفورقي في عهد الرئيس السابق محمد فرماجو كان محصِّلة لتصعيد آبي أحمد رئيسًا للوزراء في إثيوبيا في العام 2018م، وإعلانه مع أفورقي نهاية الصراع بين بلديهما (مع عدم كشف تفاصيل هذه الصفقة حتى للاتحاد الإفريقي أو البرلمان الإثيوبي حتى الوقت الراهن)، في صفقة حظيت بتقدير دولي دون أيّ أساس واقعي؛ ودعمتها أطراف إقليمية ماليًّا، إضافةً إلى الدور الواضح لمساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية تيبور ناجي الذي دفع بقوة باتجاه علاقات ودية مع إريتريا، وابتدأتها واشنطن برفع العقوبات عن الأخيرة؛ وهكذا يسَّر التحالف الأمني مع إثيوبيا وبروز حلف من المستبدين([5]) تعميق هيمنة إثيوبيا وإريتريا على سياسات الصومال الخارجية والداخلية منذ العام 2018م.
وبعد نجاح الرئيس الصومالي الحالي حسن شيخ محمود في إقصاء فرماجو في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بدأت مقديشو جهود “إعادة ضبط” علاقاتها الخارجية لا سيما مع دول الجوار؛ وحشد محمود قبل توليه الرئاسة مواقف كبار قادة المعارضة للضغط على فرماجو لإعادة آلاف الجنود الصوماليين الذين أُرسلوا إلى إريتريا لأغراض التدريب العسكري، وتردَّد وقتها توجيههم للمشاركة في العمليات القتالية في إقليم التيجراي في صفوف القوات الإريترية والإثيوبية الفيدرالية، لكنَّ فرماجو تجاهل جميع هذه الضغوط، وطرح الرئيس شيخ محمود المسألة خلال زيارة له لإريتريا، لكنه لم ينجح في حسم قرار أفورقي بإعادة هؤلاء الجنود. وخلال وجود الأول في الولايات المتحدة منتصف سبتمبر الجاري طرَح المسألة، وأشار إلى “نوايا إريتريا الطيبة” بتدريب أكثر من خمسة آلاف جندي من قوات الصومال المسلحة، وطلب بشكل مباشر دعم الولايات المتحدة في حلّ هذه “الأزمة”، وعودة الجنود الصوماليين للانخراط بشكل رئيس في الحرب ضد جماعة الشباب([6]).
مساعي الوساطة الإقليمية: الحالة السودانية
حاول أسياس أفورقي استدامة نفوذه التقليدي في عدد من الملفات الإقليمية، ومن بينها الوساطة بين حليفته إثيوبيا والسودان الذي يبتعد أكثر فأكثر عن فلك المحور الإثيوبي- الإريتري (وهي السياسة الأكثر وضوحًا منذ أكتوبر 2021م). وقد باءت جهود أفورقي في الوساطة في مسألتين معنيتين بالسودان أولهما الوساطة بينه وبين إثيوبيا في النزاع الحدودي المحتدم بينهما بعد تقارير مؤكدة عن تبنّي إريتريا الموقف الإثيوبي بشكل تام عبر تجميد أيّ تحركات سودانية لاستعادة سيادة السودان على أراضيه ومواصلة التحشيد الإريتري في إقليم الأمهرا لدعم أي تحركات عسكرية إثيوبية كانت متوقعة في ذروة الصدام بين البلدين.
أما الملف الثاني فتمثل في جهود أسمرا وتدخلها لحل أزمة “شرق السودان”؛ عبر طرح استضافتها (في أغسطس 2022م) لقادة شرق السودان، وبادرت الخرطوم في ردّ حاسم بمنع أيّ زيارات يقوم بها القادة السودانيون إلى إريتريا (مع ملاحظة أن أسمرا استثنت دعوة أيّ قوى موقّعة على اتفاق جوبا للسلام من أعضاء الجبهة الثورية السودانية)([7]).
ومثَّل الرفض السوداني نهايةً لدعوات إريترية متكررة في الشهور الأخيرة للتدخل في الشؤون السودانية من بوابة رعاية جهود وساطة بين “الفرقاء السياسيين”، كان أبرزها “مبادرة سلام” أطلقها أفورقي في أبريل 2022م عبر وفد رسمي إريتري التقى برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في الخرطوم (مرتين في غضون أسبوع واحد)؛ لمناقشة الوضع السياسي في السودان، “والتعبير عن تضامن الحكومة الإريترية مع البرهان في جهوده لتجاوز الأزمة الدائرة”([8]).
أسمرا ومسار “التنافس الصيني الأمريكي” في القرن الإفريقي:
وسط تراجع النفوذ الصيني بشكل ملحوظ في الصومال، وخفوت صوت دعم بكين لنظام آبي أحمد في الحرب الدائرة في إقليم التيجراي، والهدوء المرحلي لمجمل التحرُّكات الصينيَّة في القرن الإفريقي منذ مؤتمر السلام الأول الذي رعته الصين (أديس أبابا 20-21 يونيو 2022م)، ولم يسفر عن خطة عمل واقعية لإحلال السلام في الإقليم، أو بيان دور الصين المرتقب بعيدًا عن دعم سياسات نظام آبي أحمد وأفورقي. وفي خضم إرهاصات أزمة إقليم التيجراي الراهنة، وانخراط أسمرا عسكريًّا في الصراع؛ التقى الرئيس أفورقي (16 سبتمبر الجاري) بمبعوث الصين الخاص للقرن الإفريقي شيويه بينج (الذي توجّه بعدها إلى الخرطوم؛ حيث التقى عضو مجلس السيادة الانتقالي الفريق شمس الدين كباشي)، وعدّ الزيارة مناسبة لتعميق الصلات الاستراتيجية بين إريتريا والصين، ولَفَت إلى الأهمية العالمية للمؤتمر القومي العشرين للحزب الشيوعي الصيني المقبل([9]).
وجاءت الزيارة تتويجًا لتحقيق الصين مكاسب اقتصادية واستثمارية مهمة في إريتريا بعد نجاح بكين في إقناع الأخيرة بتكوين مشروع مشترك joint-venture (بنسبة 60-40%)؛ تغطّي جميع مواقع التعدين في إريتريا الغنية بمعادن الذهب والنحاس والزنك والفضة عبر شركة Asmara Mining Share Company (AMSC) الصينية الإريترية التي كوّنت لهذا الغرض؛ ويُتوقع أن تُدِرّ لنظام أفورقي دخلًا سنويًّا صافيًا قدره 692 مليون دولار لمدة 17 عامًا متتالية، وهو مشروع بالغ الأهمية لنظام أفورقي في هذه المرحلة الاقتصادية الصعبة التي يواجهها العالم، وكذلك مواجهة العزلة التي عاد لها عقب مشاركته في حرب التيجراي([10]).
خلاصة:
يبدو أنَّ الصِّلة العضوية بين الرئيس الإريتري أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قد فاقت عمليًّا الكثير من التحليلات والتصورات؛ ويُعزّز ذلك انتهاج الثاني نفس سياسات الأول؛ وكمثال على ذلك فإن حالة “الفراغ الدستوري” التي تشهدها إريتريا منذ ثلاثة عقود (لا يوجد دستور إريتري حتى الآن، ولم تَجْرِ أيّ انتخابات نيابية أو رئاسية، ولا يوجد مجلس تشريعي أو موازنة معلنة)([11])، تتكرر بشكل مدهش في إثيوبيا مع استمرار تبنّيها -وهي واحدة من أكبر الدول الإفريقية- دستورًا مؤقتًا يمكن عبره للنظام الحاكم امتلاك شرعية سياسية رغم العوار الواضح بها، كما في الحالة الإريترية.
إن تصدُّر إريتريا مشهد الحرب في إقليم التيجراي الإثيوبي يبرهن على هذه الصلة العضوية وعلى قدرة إريتريا -بمسوغات متعددة وتفاهمات أكثر تعقيدًا مع أطراف وقوى خارجية- على مواصلة دبلوماسيتها الإقليمية القائمة، منذ حصولها على الاستقلال في واقع الأمر، على إثارة التوتر بدرجات مختلفة وتحقيق مكاسب متراكمة من هذا التوتر؛ إما على نحو مباشر أو “وظيفيًّا” عبر إرفاد قوى إقليمية ودولية بدعم كامل لأجنداتها وأولوياتها في القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
هوامش:
[1] BBC News Tigrinya, Eritrea’s mass mobilisation amid Ethiopia civil war, BBC, September 16, 2022 https://www.bbc.com/news/world-africa-62927781
[2] Eritrea plunges back into Ethiopia’s Tigray war, The Africa Report, September 22, 2022 https://www.theafricareport.com/243358/eritrea-plunges-back-into-ethiopias-tigray-war/
[3] Eritrea accused of launching full-scale offensive on Ethiopia’s Tigray region, Euro News, September 21, 2022 https://www.euronews.com/2022/09/21/eritrea-accused-of-launching-full-scale-offensive-on-ethiopias-tigray-region
[4] Eritrea’s goal in the war with the Tigray rebels forces, Borkena, September 18, 2022 https://borkena.com/2022/09/18/eritreas-goal-in-the-war-with-the-tigray-rebels-forces/
[5] Alex de Waal, The Despotism of Isaias Afewerki: Eritrea’s dictator makes his move on Tigray, The Baffler, September 2, 2022 https://thebaffler.com/latest/the-despotism-of-isaias-afewerki-de-waal
[6] Why Eritrea delayed sending back Somali soldiers it trained? Garowe Online, September 19, 2022 https://www.garoweonline.com/en/news/somalia/why-eritrea-delayed-sending-back-somali-soldiers-it-trained
[7] Khartoum prevents eastern Sudan leaders from visiting Eritrea, Sudan Tribune, August 4, 2022 https://sudantribune.com/article262349/
[8] Eritrea presents new peace initiative to end Sudan’s political strife, Sudan Tribune, April 16, 2022 https://sudantribune.com/article257754/
[9] Eritrea: President Isaias met and held talks with China’s Special Envoy, African Business, September 17, 2022 https://african.business/2022/09/apo-newsfeed/eritrea-president-isaias-met-and-held-talks-with-chinas-special-envoy/
[10] China accelerates its expansion in Eritrea, Le Journal de L’Afrique, June 22, 2022 https://lejournaldelafrique.com/en/china-accelerates-its-expansion-in-eritrea/
[11] Alex de Waal, The Despotism of Isaias Afewerki: Eritrea’s dictator makes his move on Tigray, The Baffler, September 2, 2022 https://thebaffler.com/latest/the-despotism-of-isaias-afewerki-de-waal