كثيرة ومتشابكة هي أدوار القوى الدولية في القارة السمراء؛ فبخلاف أنها تُعدّ منبعًا للموارد الطبيعية وساحةً للتنافس التجاري؛ إلا أنها تُعدّ كذلك مسرحًا للصراعات والمُنافَسات على فراغات القوة ودوائر الهيمنة.
ومن بين الأدوار التي تتنافس في إفريقيا هي أدوار القوى الصاعدة ومتوسطة القوة، في ظل تداخل أدوار اللاعبين أصحاب المصالح في الجوار الإقليمي، لا سيما تلك الدول التي تعتبر منطقة القرن الإفريقي امتدادًا طبيعيًّا لمصالحها؛ مثل مصر والسعودية والإمارات، فإلى جوار كونها دولة عربية؛ فإن مشكلات الصومال غالبًا ما تتحملها دور الجوار العربي، ومِن ثَمَّ تعمل على توفير الوظائف والمساعدات الإنسانية والتنموية لهم، في نطاق حدود إمكانات واهتمامات تلك الدول بالقضية الصومالية، التي ظلت الولايات المتحدة متداخلة فيها بصورة فاعلة بسبب موقعها الاستراتيجي.
ومع تكاثر الأزمات في الإقليم العربي في مرحلة ما بعد الثورات بدءًا من 2011م، فإن قضية الصومال اتخذت مكانة متأخرة في استراتيجيات الدول العربية القائدة في الإقليم، لا سيما مع سقوط أنظمة في كلّ من تونس ومصر واليمن وليبيا، وما تلاه من موجات ثورية في كلٍّ من العراق ولبنان والجزائر، ومِن ثَمَّ اتجهت بوصلة الدول العربية الساعية للهيمنة في العالم العربي إلى محاولة إعادة تشكيل النظام الإقليمي بما يتوافق مع مصالحها، لا سيما في مناطق القلب في كلٍّ من مصر والعراق والشام.
والقضية الصومالية برغم قِدمها نسبيًّا مقارنةً بالقضايا الأخرى في المنطقة؛ إلا أنها تتعلق بانهيار مؤسسات الدولة وضعف الموارد وصعود الحركات المسلحة التي باتت تُصدّر عملياتها إلى دول الجوار، ومِن ثَمَّ فإن الإبقاء على الساحة الصومالية تحت السيطرة بات مطلبًا لجميع القوى الإقليمية، فيما تراجعت آمال التنمية والتطوير إلى مكانة متدنية في سياسات تلك الدول.
وبالرغم من أن إفريقيا لا يبدو أنها تتسع لأبنائها في قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، إلا أنها تحمل متسعًا من مساحات التنافس الإقليمي والدولي على عدة مستويات. ومن بين الأدوار التي تلعبها القوى الإقليمية والدولية، يبرز الدور التركي كدور يعمل على إحلال السلام وفضّ النزاعات وتدريب الجيوش الوطنية. وبينما لا يخلو الأمر من تحقيق لمصالح الدولة التركية وتماشيًا مع أهداف سياساتها الخارجية، إلا أن التدخلات التركية سواء المباشرة أو المتعلقة بأعمال التدريب والاستشارات العسكرية والتواجد الصلب يُنْظَر لها على نطاق واسع على أنها تدخلات من دولة صديقة للقارة السمراء، تعمل كرافعة للتنمية والتعاون، وتعمل كذلك على تحقيق مصالح القارة الإفريقية وتعظيم قُدُراتها الجماعية للتصويت في المنظمات الدولية.
وبالرغم من الطبيعة البراغماتية للسياسة بشكل عام، وأنه لا توجد صداقات دائمة ولكن مصالح دائمة، إلا أن مخرجات السياسة الخارجية التركية في دوائر تدخلاتها تتسم دائمًا بوجود بُعْد أخلاقي قِيَميّ، وهذا البُعْد الأخلاقيّ القِيَمِيّ لا يخرج كذلك عن إطار تحقيق مصلحة الدولة التركية، فهو يصبّ كذلك في تلك الخانة، ويُقدّم نموذجًا جديدًا للسياسة الخارجية والتدخلات الإنسانية والأبعاد التنموية للسياسة الخارجية؛ بأن تكون رسالتها هي ذلك البُعد الأخلاقيّ والذي يناظر التدخلات الغربية ذات الغطاء الإنسانيّ والتنمويّ والدفاع عن حقوق الإنسان والمهمشين حول العالم.
فقد استطاعت تركيا أن تقدم ذلك النموذج في تدخلاتها في العالم الإسلامي كذلك بجيشها الضخم الذي يعد ثاني أكبر جيش في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما باتت تقدم وساطات في مناطق الصراعات بين مختلف القوى من أجل صنع وإحلال وتدعيم السلام في تلك المناطق الممتدة من أفغانستان وحتى القرن الإفريقي.
وقد ساهمت تركيا بقاعدتها العسكرية الكبرى في الصومال بمحاولة تدريب وتجهيز القوات الأمنية الصومالية من أجل فرض سيطرة الدولة على أراضيها، ومواجهة التحديات الأمنية، كما ساهمت التقنية التركية في مجال الطائرات المسيرة في تعزيز تلك القدرات العسكرية، حيث أشارت تقارير مؤخرًا إلى مشاركة الطائرات المسيرة التركية في مطاردة عناصر حركة الشباب في البلاد، ومساهمتها بقوة في العمليات العسكرية المدعومة من العشائر الصومالية، التي ضاقت ذرعًا بانتهاكات حركة الشباب لحقوق الشعب الصومالي وفرض إتاوات عليه في المناطق التي تسيطر عليها الحركة في جنوب ووسط البلاد.
وتعد مشاركة الطائرات المسيَّرة التركية في تلك العمليات نقلةً نوعيةً في مجال مكافحة الإرهاب ضد حركة الشباب المنتمية لتنظيم القاعدة، لا سيما في ظل انسحاب القوات الأمريكية التدريجي من المنطقة الممتدة من أفغانستان والعراق وحتى القرن الإفريقي، مع توكيل مهام الأمن في تلك المناطق إلى القوات المحلية أو إلى تحالف من القوات الإقليمية.
فالوجود التركي في منطقة القرن الإفريقي يمكن أن يُنْظَر إليه كذلك على أنه تعزيز لأمن منطقة الخليج، لا سيما بعد التقارب الخليجي التركي الأخير وتبادل الزيارات بين الجانبين، وكذلك اهتمام بعض الدول الخليجية باستيراد الطائرات التركية المسيرة (بيرقدار) التي أثبتت كفاءة في عدد من مسارح العمليات العسكرية في كل من أذربيجان وأوكرانيا وليبيا وغيرها من مناطق الصراعات. وقد تسلم الصومال أول شحنة من الطائرات التركية المسيرة في ديسمبر 2021م، وكان الهدف منها هو المساهمة في عمليات الاستكشاف والاستطلاع والمراقبة، بدون المشاركة الفعلية في العمليات العسكرية.
ومِن ثَمَّ فإن ذلك الوجود العسكري التركي في منطقة القرن الإفريقي يمكن النظر إليه كعامل مساعد في تهدئة الصراعات، والتعاون مع الدول الإقليمية المجاورة من أجل التنسيق وتوزيع الأدوار في مهمات تأمين تلك المنطقة الاستراتيجية التي تطل على أهم ممر ملاحي في العالم، كما أن ذلك يعزز من أمن ناقلات النفط الخليجية في ظل أزمة طاقة عالمية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقد صرّحت مصادر تركية بأن أنقرة قامت بتدريب ما يقارب ثلث إجمالي القوات العسكرية الصومالية التي تقدر بحوالي 16 ألف فرد. كما تمتد الشراكة التركية مع الصومال إلى مجالات الصحة والتعليم والبحث عن المياه لا سيما بعد الجفاف الذي ضرب البلاد عام 2011م.
كما أن ذلك الوجود التركي يساهم في تخفيف العبء عن الاتحاد الإفريقي ومهامه الأمنية المنتشرة في أنحاء القارة لإحلال السلام، في ظل التراجع المستمر في أعداد قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال وبعثته “أميصوم” التي تخطط للانسحاب الكامل من البلاد.
وتقوم تركيا -إلى جانب تدريب قوات الجيش الصومالي- بتدريب عناصر الشرطة وكذلك فِرَق الكوماندوز؛ حيث عملت الصومال على إرسال بعثات للتدريب في تركيا ثم إعادة إرسالهم مرة ثانية إلى الصومال لممارسة مهامهم الميدانية.
وتُعد القاعدة العسكرية التركية (تركصوم) هي الأكبر لتركيا خارج البلاد، وتعمل على تعزيز قدرات الجيش الصومالي في مجال مكافحة الإرهاب والعمليات الخاصة والقتال ضد التنظيمات المسلحة، كما تشارك تركيا كل من الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي في تحقيق تلك المهام من أجل إعادة تأهيل الجيش الصومالي.
وعلى المستوى العملياتي أرسلت تركيا كذلك أسلحة تكتيكية للجيش الصومالي مثل مدرعات مقاومة للألغام وناقلات جند، كما يستخدم الجيش الصومالي بنادق الجيش التركي MPT-76 الهجومية، كما عملت الشركات التركية كذلك على إدارة مطار مقديشو الدولي وكذلك ميناء مقديشو، كما شارك الضباط الأتراك في تدريب نظرائهم الصوماليين على عمليات الإغارة والمداهمة ومختلف أنشطة مكافحة الإرهاب.
ومن المتوقّع أن تؤدّي الجهود التركية إلى تعزيز الأمن في منطقة القرن الإفريقي، وكذلك تعزيز الشراكة التركية مع الدول الخليجية والاتحاد الإفريقي لإحلال السلام والأمن، لا سيما بعد التقارب الخليجي الأخير ومحاولة تعزيز التعاون بين الدول القائدة في المنطقة لاستبدال أنماط التنافس الإقليمي بأنماط تعاونية، ومحاولة تقريب وجهات النظر لا سيما فيما يتعلق بالتعامل مع الحركات المسلحة، وتعزيز قدرات الوساطة بين مختلف الجهات الفاعلة في إفريقيا وبين تلك الحركات من أجل نزع فتيل الأزمات ومواجهة التحديات التنموية وتطوير البنى التحتية ورفع مستوى معيشة المواطن الإفريقي في تلك المناطق التي تتماس مع دوائر العالمين العربي والإسلامي؛ حيث يصبّ ذلك التعاون كذلك في تعزيز دور الاتحاد الإفريقي والمساعدة في تنفيذ أجنداته الأمنية والاقتصادية.