بالرغم من وجود أقلية مسلمة معتبرة في كينيا تبلغ حوالي 11% من عدد السكان، إلا أن دورها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لم يَكد يُذْكَر، كما أن تأثيرهم في المجال السياسي وعملية صنع القرار بصورة عامة غير ملموس، وهو ما كشفت عنه الانتخابات الأخيرة.
وبالرغم من وجودهم التاريخي في البلاد منذ استقلالها، إلا أنهم لا ينضوون تحت تنظيم سياسي موحّد يعمل على تنسيق جهودهم وترشيدها؛ من أجل الوصول إلى تحسين تمثيلهم السياسي والاجتماعي، وإلى الحفاظ على حقوقهم في ممارسة شعائرهم، وأن يكون وجودهم في مؤسسات الدولة ومراكز صنع القرار يعكس نسبتهم الديموغرافية.
وقد برز موضوع دور الدين في المجال العام في السنوات الأخيرة باعتباره مكونًا مهمًّا من مكونات تشكيل البيئة السياسية، لا سيما في المجتمعات التقليدية التي للدين فيها حضور بارز، خلافًا للمجتمعات الغربية الحديثة، وذلك فيما يُفضّل بعض علماء الاجتماع بتسميته بـ”حقبة ما بعد العلمانية”؛ حيث بات الدين اليوم أكثر اختلاطًا بقضايا السياسة والحكم والدولة ومؤسسات المجتمع المدني في تلك المجتمعات، كما يمكن اعتبار محاولات فَصْل الدِّين عن الحياة العامة بمثابة تقويض لعملية دَمْج الأقليات الدينية، وقدرتهم على التعبير عن هوياتهم الدينية بصورة مناسبة. ويركز الاهتمام الأكاديمي في هذا المجال على التقاطع بين الدين والحياة العامة بشكل كبير بين علماء الاجتماع (الدين) وعلماء السياسة.
وفي كينيا يتعايش المسلمون والمسيحيون وأصحاب الديانات الإفريقية التقليدية الأخرى في الجغرافيا الكينية بصورة سلمية، بالرغم من تمركز المسلمين في منطقة الشريط الساحلي الشرقي، ومطالباتهم السابقة بالانفصال عن كينيا، وذلك منذ الخطوات التي قطعها الكينيون منذ استقلالهم عام 1963م؛ حيث طالَب بعض المسلمين في المنطقة الشمالية من البلاد بالانفصال والانضمام إلى الصومال؛ خوفًا من أن يتم تهميشهم في دولة ما بعد الاستقلال التي ترأسها السياسيون المسيحيون، كما طالب سكان الساحل من المسلمين بالانضمام إلى زنجبار تحت قيادة سلطانها المسلم([1]).
ولكن الإصلاح السياسي في الدولة، ومساهمة المسلمين مع المواطنين الكينيين في عملية التحول الديموقراطي المستمرة، جعلتهم يتغاضون تدريجيًّا عن فكرة الانفصال، والتي ظلت حاضرة حتى تسعينيات القرن الماضي.
وتساهم المذهبية والطائفية في قَدْر من ذلك التفتُّت الذي تشهده الأقلية المسلمة؛ حيث إنَّ المسلمين السُّنة يُشكّلون حوالي 81% من إجمالي المسلمين، فيما يُعرِّف 7% أنفسهم بأنهم شيعة، أما البقية فهم إباضية مع بعض القرآنيين والطائفة الأحمدية. والشيعة بدورهم ينحدرون من الطائفة الإسماعيلية، وقد تأثروا بالتجار الذين قدموا من شبه القارة الهندية وغيرها من مناطق آسيا.
ولا تزال قضية دور الدين في المجال العام محل نقاشات بين الأكاديميين، فبالرغم من أن الدول العلمانية تحاول فَصْل الدين عن الدولة، وتَسُنّ القوانين المُنظّمة لدوره في المجال العام، إلا أن معظم السياسيين يقومون بمخاطبة الناخبين بناء على تجمعاتهم الدينية، لا سيما إذا كانت مؤثرة كما في الحالة الإفريقية، وفي كثير من الدول الإسلامية؛ فقضايا مثل الإجهاض وارتداء الحجاب وتقلد الرموز الدينية، وتعليم الدين في المدارس، وزواج الشواذ، وغيرها؛ لا تزال حاضرة في الحملات الانتخابية حتى في الدول الغربية ذات التجمعات الدينية الكبيرة. والاهتمام بموضوع الدين في المجال العام لا سيما في فترة الانتخابات في كينيا يؤكد على أهمية جوانب الهوية وما يترتب عليها من ممارسة للشعائر والاندماج المجتمعي؛ حيث يُدْخِل الكثير من المسلمين أولادهم وبناتهم في المدارس العامة في البلاد، رغم أن بعضها لا يقبل ارتداء الحجاب، والبعض الآخر -لا سيما في المدارس المسيحية- يقبل شريطة التزام الطالبة بمعايير خاصة بالزي، من بينها أنه يجب أن ترتدي الفتاة قميصًا قصير الأكمام على سبيل المثال([2])، وهو ما يؤكد على أن قضايا الدين والهوية والسياسات المحلية كلها تتداخل بصورة متشابكة.
وقد يكون مفهومًا ألا يكون للمسلمين في كينيا تأثير كبير في الانتخابات المحلية أو البرلمانية بالنظر إلى تشتُّتهم في محافظات الشمال والساحل الشرقي، إلا أن دورهم في الانتخابات الرئاسية يجب أن يكون ملموسًا بالنظر إلى نسبتهم، لا سيما إذا توحَّدت جبهتهم، وقاموا بالتصويت بصورة جماعية تعكس حجمهم، ومِن ثَم تلبّي مطالبهم الدينية وممارسة شعائرهم بحرية في مؤسسات الدولة.
وبسبب مطالب الانفصال القديمة، وكذلك بسبب قرب مسلمي الشمال من الدولة الصومالية، فقد وقعت الكثير من العمليات المسلَّحة داخل مناطق المسلمين، وتعرَّض المسلمون إلى الاستهداف بدءًا من 2014م في مدينة مبيكيتوني الساحلية التي تعرَّضت لهجمات وحشية قُتِلَ فيها العشرات من المدنيين العُزّل من المسلمين، وأعلنت الحكومة الكينية وقتها أن تلك الهجمات هي نتيجة لبعض “الاختلافات في السياسات المحلية”؛ لتنفي ضلوع منظمات خارجية في تلك العمليات، مثل حركة الشباب الصومالية، وأشارت إلى أن تلك العمليات ترجع على الأغلب إلى الاختلافات الدينية في المنطقة، بما يسلط الضوء على العلاقة المعقّدة ما بين المسلمين في المناطق الساحلية الشرقية وما بين الكينيين على مستوى أوسع من البلاد، كما يؤكد على ضعف الحكومة الكينية أمام تلك العمليات المسلحة، وعدم قدرتها على وقفها ومنع استهداف المسلمين هناك([3]).
وعلى الرغم من عدم وجود كيان سياسي جامع للمسلمين؛ إلا أن هناك المجلس الأعلى لمسلمي كينيا، والذي يحاول أن يجمع تحت طيّاته كافَّة المنظمات الإسلامية في البلاد بجمعياتهم الخيرية والمساجد والمؤسسات، في محاولة لحلّ مشكلات المسلمين الاجتماعية والدينية لهم، والبالغ عددهم حوالي 7 ملايين نسمة (من إجمالي حوالي 31 مليون كيني). وقد أُنشئ المجلس على يد مبعوث من المملكة العربية السعودية في عهد الملك فيصل -رحمه الله-، وذلك في عام 1973م؛ من أجل بناء جبهة موحدة للمسلمين في مجتمعهم والتعاون مع الحكومة الكينية والشركاء المحليين والدوليين الآخرين من أجل تنمية البلاد([4]).
ولكن حتى الآن لم ينعكس ذلك على وجود اتفاق حول الموضوعات الدينية والاجتماعية، وكذا في صورة ثقل سياسي للمسلمين يُمثّل جماعة ضغط في البلاد؛ من أجل لفت أنظار المرشحين في الانتخابات الرئاسية إلى طلباتهم ومشكلاتهم العامة.
وعلى الرغم من أن الرئيس المنتخب وليام روتو قد التقى بممثلي الطوائف الدينية فور فوزه بالانتخابات الرئاسية، إلا أن ذلك اللقاء كان بروتوكوليًّا وشكليًّا؛ حيث تعتبر القيادات السياسية في البلاد أن التحدي الداخلي ليس دينيًّا ولكنه قَبَليًّا، ومن ثَم فإن لفت الأنظار لقضايا المسلمين في البلاد بحاجة إلى مزيد من الجهد والتعاون من أجل تلبية مطالبهم وتهدئة مخاوفهم السياسية والدينية.
كما أن الجوار الكيني يؤثر بصورة كبيرة على الداخل وعلى الصراعات السياسية فيه، فالجوار الصومالي يُمثّل تهديدًا أمنيًّا بانتقال مقاتلي حركة الشباب، كما أن الحدود مع إثيوبيا تمثل تحديًا آخر؛ حيث شهدت مقاطعة مارسابيت الحدودية اشتباكات فرضت السلطات في أعقابها حظر التجوال لمدة 30 يومًا؛ حيث إن لكل دول الجوار امتدادات داخل الدولة الكينية، وهو ما ينعكس في صورة ولاءات قبلية للمرشحين في الانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى عمليات تهريب السلاح والتي تُعزّز من حالة عدم الاستقرار في البلاد؛ لا سيما بعد إعلان نتيجة الانتخابات بفارق ضئيل بين المرشحين، واعتراض أفراد من لجنة الانتخابات العليا على النتائج وعدم قبولهم بها، بما يفتح الباب أمام مزيد من الاشتباكات في الأفق القريب.
ومِن ثَم وفي حالة التصعيد الأمني في الداخل؛ فإن الأقلية المسلمة تظل أكثر عرضة للعمليات الانتقامية بسبب هشاشة وضعهم السياسي؛ حيث إن عدم تمثيلهم السياسي في الحكومة وفي مؤسسات الدولة وفي أجهزة صنع القرار يجعل من تأمين مصالحهم أكثر صعوبة، وفي كثير من الأحيان تقوم قوات الأمن ذاتها بارتكاب انتهاكات ضد المسلمين بحجة محاربة الإرهاب.
ففي عام 2015م اتهمت منظمة حقوقية إسلامية الحكومة الكينية بأنها تستخدم إجراءات مكافحة الإرهاب من أجل قَمْع نشاطاتها ومَنْعها من فَضْح ممارسات الشرطة الكينية، وأنها قد استهدفت مِن قِبَل قوات الأمن، بعد أن قامت الحكومة الكينية بتجميد عملها وتجميد أصولها في البلاد.
وقد أعلنت منظمة حقوق الإنسان الإسلامية Muslim Human Rights أنها ستلجأ إلى القضاء لإلغاء القرار الحكومي بتجميد عملها وأصولها البنكية، ووضعها على قائمة المنظمات الإرهابية المشتبه فيها، وذلك في أعقاب هجمات لحركة الشباب الصومالية على جامعة جاريسا الكينية، بالإضافة إلى جمعية حقوقية إسلامية أخرى واسمها “حقي”.
وقد اتَّهمت المنظمتان الحكومة الكينية بأنها تقوم باعتقالات تعسفية للمسلمين واختفاءات قسرية، كما مارست عمليات قتل ضم المسلمين لهم خارج نطاق القضاء. ففي أعقاب مصرع 147 مواطنًا كينيًّا في هجمات على جاريسا قامت الحكومة بوضع 86 مؤسسة وأفراد في قائمة المنظمات الإرهابية، وقالت الحكومة: إنها ستقوم بالتحقيق في تمويلاتها. كما قامت الحكومة الكينية باستهداف منظمة تحويل أموال دولية تابعة للمسلمين كذلك واسمها “حوالة” Hawala، وأغلقت فروعها التي تخدم الكينيين من أصول صومالية في شمال البلاد. وقد أدانت منظمة هيومان رايتس واتش تلك الإجراءات الحكومية في وقتها ووصفتها بأنها “مضايقات وترويع” للمنظمات غير الحكومية في البلاد([5]).
وبالرغم من الممارسات الديموقراطية في البلاد وإجراء العمليات الانتخابية في ظل نظام متعدد الأحزاب، إلا أن تلك الانتخابات كثيرًا ما تشوبها انتهاكات واسعة، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكذلك انتخابات 2017 و2007م، كما يتفشَّى الفساد في البلاد وتتغوَّل أجهزة الأمن على حقوق المواطنين لا سيما الأقليات، ومنهم المسلمون، ومِن ثَمَّ فإن النشاط السياسي للمسلمين في كينيا يمكن أن يساهم في تقليل الاستهداف الأمني لهم وتغوُّل السلطات الحكومية عليهم واستهدافهم وتجميد نشاطاتهم وجمعياتهم وأصولهم المالية، فالنشاط الاجتماعي وإنشاء المنظمات غير الحكومية والكيانات الدينية وحده لن يحقق لهم الحصانة أمام انتهاكات السلطة، فالنشاط السياسي المؤيّد بتلك المنظمات غير الحكومية وبوسائل إعلام وصحافة وناشطين في المجتمع المدني؛ سيؤدي إلى مزيد من احترام حقوقهم كأقلية، وكذلك إعادة النظر في وزنهم النسبي سياسيًّا، وتقليل مخاوفهم، والتعامل معهم كجماعة ضغط تستطيع ترجيح كفة أحد المرشحين في الانتخابات الرئاسية، لا سيما في ظل ضيق الفارق بين المرشحين كما ظهر في الانتخابات الأخيرة، ومِن ثَمَّ سيؤدي على المدى البعيد إلى تعظيم تأثيرهم في السياسات المحلية في كينيا.
[1] Hassan Juma Ndzovu, Kenya’s Muslims: a divided community with little political clout, The Conversation, August 7, 2022, on: https://theconversation.com/kenyas-muslims-a-divided-community-with-little-political-clout-184436
[2] Christian Science Monitor, In Kenya, religious coexistence feels pressure of stronger Muslim identity, on https://www.csmonitor.com/World/Africa/2015/0329/In-Kenya-religious-coexistence-feels-pressure-of-stronger-Muslim-identity
[3] Justin Willis, Hassan Mwakimako. Islam, Politics, and Violence on the Kenya Coast. [Research Report] 4, Sciences Po Bordeaux; IFRA – Nairobi, Kenya; Observatoire des Enjeux Politiques et Sécuritaires dans la Corne de l’Afrique – Les Afriques dans le monde / Sciences po Bordeaux. 2014.
[4] Hassan J. Ndzovu, Muslims in Kenyan Politics Political Involvement, Marginalization, and Minority Status, Northwestern University Press Evanston, Illinois, 2014, p. 153.
[5] The Guardian, Muslim human rights group accuses Kenyan government of harassment, 23 Jun 2015, on: https://www.theguardian.com/world/2015/jun/23/muslim-human-rights-group-accuses-kenyan-government-of-harassment