لا يمكن فَصْل المكوّن العسكري والأمني عن التنافس الدولي الراهن والمتسارع في القارة الإفريقية بين الولايات المتحدة وكتلة الحلفاء التقليديين لها (الغرب واليابان بالأساس)، ومجموعة الدول التي يُمثّل نفوذها في القارة الإفريقية تهديدًا لمصالح هذه الكتلة بدرجات متفاوتة؛ لا سيما روسيا والصين.
وفي مواجهة ما تعتبره “القوى الغربية” افتئاتًا على نفوذها التقليدي مِن قبيل تمدّد النفوذ الأمني والعسكري الروسي في حزام ممتدّ من الدول الإفريقية من ليبيا إلى إقليم الساحل وإقليم القرن الإفريقي ودول في جنوبي إفريقيا ووسطها؛ ومراكمة الصين وجودها العسكري والأمني في القارة الإفريقية عبر مسارات متشابكة مع مبادرة الحزام والطريق؛ فإن الاستراتيجيات الغربية بدأت في التنبُّه، مرحليًّا على الأقل، لضرورة تبنّي سياسات عسكرية وأمنية “غير تقليدية”؛ مما عزَّز عسكرة التنافس الدولي بشكل متسارع في المرحلة الحالية، وتعزيز توقُّعات تصعيد هذه العسكرة وصولًا لتعقيد المصالح المتضاربة بين أطراف هذه العسكرة، وتعميق هامشية الاستجابة الإفريقية كمُتلَقٍّ “صافٍ” لهذه السياسات وليس متفاعلًا معها، سواء في صياغاتها أم في ترتيبات تطبيقها في حالات كثيرة (كما في نموذج إقليم الساحل).
إفريقيا في “مفهوم الناتو 2022م”:
بدأ حلف شمال الأطلسي “الناتو” (North Atlantic Treaty Organization) في دعم مقاربته في إفريقيا بدعم الاتحاد الإفريقي منذ العام 2005م. وتمثلت هذه البداية بمستوى متواضع قاصر على طلب الاتحاد الإفريقي من حلف الناتو تقديم دعم لوجستي ودعم جويّ لعمليات الاتحاد في السودان، وتطوّرت العلاقة منذ ذلك الوقت، مع التزام حلفاء الناتو بتوسيع هذه العلاقات؛ بدايةً من دعم الاتحاد الإفريقي إلى التعاون معه “لجعله جزءًا لا يتجزأ من جهود الناتو للعمل بشكل أقرب مع الشركاء في مواجهة التحديات الأمنية النابعة من الجنوب”([1]).
وتجسَّد التعاون بين الناتو والاتحاد الإفريقي في ثلاثة مجالات رئيسة؛ هي:
1- الدعم العملياتي (ويشمل عمليات النقل الجوي والبحري، ودعم التخطيط لبعثة الاتحاد في الصومال).
2- الدعم التدريبي (يشمل دعوة ضباط الاتحاد الإفريقي لحضور دورات بمقار التدريب والتعليم التابعة للناتو عبر “فِرَق التعليم والتدريب المتنقلة” Mobile Education and Training Teams).
3- المساعدات الهيكلية (وتشمل دعمًا مكثفًا لمفهوم قوة الاستعداد الإفريقية ومشروعاتها ذات الصلة؛ مثل: المناورات، والإنذار المبكر، والاستعداد والجاهزية للكوارث).
كما أنشأ الناتو مكتب اتصال في مقر الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا يتولى مهمة تقديم الدعم من خبراء متخصصين وبناء على طلب الاتحاد الإفريقي. كما يُنسّق الناتو عمله المتعلّق بالاتحاد الإفريقي مع الأطراف الثنائية والمنظمات الدولية الأخرى، وأبرزها الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. كما اتفق الناتو والاتحاد الإفريقي في العام 2020م على “سلسلة جديدة من الإجراءات لتعميق تعاونهما”، وفي العام التالي (2021م) قدَّم الناتو للاتحاد ما عُرِفَ بـ”خطة التعاون NATO-AU Cooperation Plan” بهدف التعزيز التدريجي للتعاون العسكري بين الجانبين([2]).
وعلى هامش قمة مدريد الأخيرة (يونيو 2022م) لمراجعة استراتيجيات “الناتو” العالمية في الفترة المقبلة؛ قدم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية Center for Strategic and International Studies (CSIS) دراسة إطارية عن رؤية الناتو للعالم بعد قمة مدريد، وكشف ما يُسمَّى بـ “مفهوم التحالف الاستراتيجي الثامن” في وقت حَرِج بالنسبة للأمن الأوروبي. وركز فيما يخص “إرساء مفاهيم إقليمية جديدة” على أقاليم البحر الأسود، والبحر المتوسط، ودول غربي البلقان، ووسط أوروبا”. ولم يرد في الورقة أيّ اهتمام بإفريقيا إلا من جهة أنشطة روسيا في القارة “عبر مرتزقة مجموعة “فاغنر” التي أضعفت وقادت إلى اضطراب العمليات الأوروبية داخل الساحل”. وإن هذا النشاط ستكون له -على الأرجح- عواقب على الأمن الأوروبي؛ مما يتطلب مستقبلًا دورًا أكبر للناتو([3]).
وتضمَّنت الوثيقة الصادرة عن قمة الناتو الأخيرة في مدريد تحت اسم NATO 2022 Strategic Concept إشارات متفرقة وطفيفة للقارة الإفريقية. وتحت العنوان الفرعي البيئة الاستراتيجية ورد ذِكْر إفريقيا في إحدى نقاطه (النقطة 11): إن (مظاهر) الصراع والهشاشة وعدم الاستقرار في إفريقيا (والشرق الأوسط) تؤثر مباشرة على أمننا وأمن شركائنا. إن جوار الناتو الجنوبي، لا سيما أقاليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل، يواجه تحديات أمنية وديمغرافية واقتصادية وسياسية متشابكة. وعمق تلك المشكلات تأثير التغيُّر المناخي والمؤسسات الهشّة والطوارئ الصحية وعدم الأمن الغذائي. ويوفّر هذا الوضع أرضًا خصبة لانتشار الجماعات المسلحة غير الشرعية، بما فيها التنظيمات الإرهابية. كما يُمكّن هذا الوضع من عدم الاستقرار والتدخل القسري مِن قِبَل منافسين استراتيجيين (روسيا والصين)([4]).
وتحت عنوان فرعي عن منع الأزمة وإدارتها في النقطة (39)؛ تم تناول الأمن الإنساني كملف محوريّ في سلوك “الناتو”، ومقاربته عبر العمل مع “اللاعبين الدوليين الآخرين” بمن فيهم “الاتحاد الإفريقي”. وفي بند “الأمن التعاوني” cooperative security([5])؛ ثم في النقطة (45) التي تناولت بالأساس إقليمي “غربي البلقان والبحر الأسود” اللذين يتمتعان بأهمية استراتيجية في رؤية “التحالف”، وعمله على مواصلة دعم التطلعات الأوروبية- الأطلسية للدول المعنية، جاء فيها: “ولسوف نعمل مع الشركاء لمواجهة التهديدات والتحديات الأمنية المشتركة في الأقاليم ذات الاهتمام الاستراتيجي للتحالف؛ بما فيها أقاليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل”([6]).
وثيقتا الكونجرس والبيت الأبيض: مكارثية عسكرية أمريكية في إفريقيا
أقرَّ الكونجرس الأمريكي في نهاية أبريل 2022م ما عُرِفَ “بقانون الأنشطة الخبيثة لروسيا في إفريقيا” Countering Malign Russian Activities in Africa Act الذي قضى بتوجيه وزير الخارجية إلى “إعداد وتطوير استراتيجية وخطة تطبيقية مكتملة وتسليمها إلى الكونجرس؛ بحيث تحدّد جهود الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ والأنشطة الخبيثة للاتحاد الروسي وحروبه بالوكالة في إفريقيا ولأغراض أخرى”([7]).
وتعاظم مكوّن “العسكرة” في السياسات الأمريكية والغربية رغم استمرار اعتبار الولايات المتحدة، وخلفها العديد من القوى الغربية واليابان، أن الأولويات الكبرى هي مسائل التحوُّل الديمقراطي، والانتخابات الحرة في إفريقيا، وربطها بسياساتها المختلفة تجاه القارة، ويبدو أن الملف العسكري سيتوازى في أهميته مع ملف الديمقراطية التقليدي ودائم الحضور في المقاربة الأمريكية وفق ما كشف عنه البيت الأبيض (8 أغسطس) من وثيقة “استراتيجية الولايات المتحدة نحو إفريقيا جنوب الصحراء”([8])، والتي جاءت كاستجابة شاملة لقانون الكونجرس بشأن روسيا المشار له (أبريل 2022).
وركزت الاستراتيجية على أهمية هذه المنطقة (إفريقيا جنوب الصحراء) في تقدم أولويات واشنطن العالمية، وبما تملكه من ميزات وما تشهده من أسرع معدلات نمو سكاني في العالم وأكبر مناطق التجارة الحرة والنظم البيئية الأكثر تنوعًا، عِوَضًا عن كونها واحدة من أكبر مجموعات التصويت الإقليمية في الأمم المتحدة. وأنه من المستحيل (على الولايات المتحدة) مواجهة التحديات الراهنة دون إسهامات وقيادة إفريقية.
وتُعيد الاستراتيجية تأطير أهمية الإقليم بالنسبة لمصالح الأمن القومي الأمريكية كما تصوغ “رؤية جديدة” لكيفية الانخراط في إفريقيا وأطرافه، ووضع مجالات تركيز أخرى. وحددت الاستراتيجية أربعة أهداف لتعميق الأولويات الأمريكية مع الشركاء في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الأعوام الخمسة المقبلة (2022-2026) وهي: تعزيز الانفتاح والمجتمعات المفتوحة؛ تقديم عائدات ديمقراطية وأمنية؛ تحقيق تقدم في التعافي من الجوائح والفرصة الاقتصادية؛ ثم دعم الحفاظ على البيئة والتكيف المناخي والانتقال العادل لمصادر الطاقة.
وترى إدارة بايدن أن الاستراتيجية تمثل “مقاربة جديدة” قوامها تقوية الشراكات المهمة، ومواجهة الولايات المتحدة الأزمات والتهديدات الآنية، والسعي لربط الجهود قصيرة الأجل بنظيرتها بعيدة الأجل لتعزيز قدرات إفريقيا على حل المشكلات العالمية.
وتكمن قوة الاستراتيجية في “تصميمها على الانتقال من السياسات التي تعامل إفريقيا جنوب الصحراء دون قصد كعالم منفصل”، والسعي الحثيث لمسايرة التحولات العميقة في القارة والعالم، كما “تدعو الاستراتيجية للتغيير؛ لأن الاستمرارية غير كافية لتلبية المهمة المقبلة”.
وكشفت الاستراتيجية عن تبنّيها مقاربة لإعادة التركيز، وتجديد وتقوية البرامج الأمريكية القائمة، وتطوير مبادرات جديدة، واتباع خطوات محددة من قبيل: تجديد جهود الدبلوماسية العامة وتحديث أدواتها؛ ودعم التنمية المستدامة والصمود في ظل تداعيات كوفيد-19 التي قضت على مكاسب تنموية إفريقية طوال العقدين الفائتين، وتعميق العمل مع الحكومات والمنظمات الإقليمية لدعم “مُسرّعات” التنمية المستدامة؛ وتدقيق أدوات الدفاع الأمريكية وإعادة استثمارها لدعم جهود الجيوش وقوات الأمن النظامية الأخرى كشرط ضروري لدعم مجتمعات منفتحة وديمقراطية وصامدة وقادرة على مواجهة تهديدات عدم الاستقرار، ومثلت هذه الأداة الاختراق الأبرز حتى الآن في الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا؛ إذ ستعول على مراجعة أدوات الارتباط بالجيوش الإفريقية لا سيَّما برامج دعم بناء القدرات المؤسساتية ومكافحة الفساد وتعميق إصلاحات القطاع الأمني والاتساق مع استراتيجية الدفاع القومي 2022 التي تخوّل وزارة الدفاع الأمريكية التعاون مع الشركاء الأفارقة لكشف وإبراز مخاطر “الأنشطة الصينية والروسية السلبية في إفريقيا”؛ تقوية التجارة والعلاقات التجارية عبر مبادرات رئاسية مثل Power Africa ومبادرات التحول الرقمي وغيرها؛ وإعادة التوازن بالمنافذ الحضرية بما يتسق مع التزام الرئيس بايدن بالاستثمار في قطاعات مهمة في المناطق الحضرية الإفريقية، مثل الوصول للطاقة، والتغير المناخي، والتكيف البيئي، والنقل، والمياه وإدارة المخلفات. وهكذا يتوقع ألا يشهد مسار الديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء تغيُّرًا جذريًّا في الفترة المقبلة باستثناء ما قد يتحقّق بناءً على تفاعلات داخلية أو أحداث سياسية غير متوقَّعة في الغالب.
إفريقيا وتصاعد العسكرة: تكرار الفشل
إذا تم وضع هذه التوجهات الأمريكية والغربية تجاه تعظيم المكون العسكري والأمني في سياساتها في القارة الإفريقية في الفترة المقبلة إلى جانب التعاظم الملحوظ بالفعل في الأدوار المناظرة مِن قِبَل روسيا -أكبر مُورّد للسلاح للقارة الإفريقية في الأعوام الأخيرة- والصين، وطبيعة الاستجابة الإفريقية التي تأمل وتعوّل كثيرًا في الاستفادة من “مناخات الحرب الباردة”؛ فإنَّ المُحصّلة شبه الحتمية تشير إلى مزيد من استنزاف مُقدّرات القارة الإفريقية السياسية والاقتصادية والأمنية في المدى القريب في ضوء عدة اعتبارات؛ أهمها عدم وجود مظلة منظماتية فعَّالة في الحفاظ على المصالح الأمنية والعسكرية لدول القارة بشكل جماعي؛ واستمرار تشوُّهات هيكلية في إدارة الاتحاد الإفريقية لارتباطات القارة الأمنية والعسكرية لصالح أجندات “القوى الكبرى”، وعدد من القوى الإقليمية التي تتسبب بالفعل في أكبر موجات عنف وعدم استقرار في القارة بغطاء “مؤسساتي” من الاتحاد الإفريقي نفسه، وضمان عدم مساءلتها أو مراجعة انتهاكاتها؛ وعدم وجود خطط واستراتيجيات “إفريقية” للتعامل بشكل جماعي مع سياسات “القوى الكبرى” وتقسيماتها الجغرافية المتباينة لأقاليم القارة الإفريقية (بين جنوب الصحراء، ومجموعة إفريقية في إقليم المحيط الهندي- الباسيفيك، ودول جسر مبادرة الحزام والطريق، وشمال إفريقيا، وما إلى ذلك).
وهكذا فإن تكرار الفشل الإفريقي في مسار عسكرة التنافس الدولي على القارة يبدو سيناريو مرجحًا إلى أبعد حدّ، ويتزايد تكريسه حسبما تُؤشّر سياسات عدد كبير من الدول الإفريقية؛ سواء بحجم إثيوبيا أو الكونغو الديمقراطية (بإطلاق العنان لعنف إثني في موجات متكررة استنادًا لتصوُّر عجز أيّ تدخل دولي وشيك، وإعادة التحالفات بناء على محاصصة استغلال الموارد)، أم جزر القمر وغينيا بيساو (بدراسة أفكار الصين المتمثلة في إقامة قواعد بحرية عسكرية بهما)، كما أن أغلب القادة الأفارقة يتابعون مسار “عسكرة التنافس” بذهنية الستينيات والسبعينيات، ما يجعلهم خارج التصور الواقعي لطبيعة العسكرة الراهنة ومخاطرها الحقيقية.
[1] Cooperation with the African Union, North Atlantic Treaty Organization, June 17, 2022 https://www.nato.int/cps/en/natolive/topics_8191.htm
[2] Cooperation with the African Union, North Atlantic Treaty Organization, June 17, 2022 https://www.nato.int/cps/en/natolive/topics_8191.htm
[3] Sean Monaghan and Ed Arnold, Indispensable NATO’s Framework Nations Concept beyond Madrid, Center for Strategic and International Studies (CSIS) (2022), p. 10.
[4] NATO 2022 Strategic Concept, Adopted by Heads of State and Government at the NATO Summit in Madrid 29 June 2022, p. 4. https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/2022/6/pdf/290622-strategic-concept.pdf
[5] Ibid, p. 9.
[6] Ibid, p. 11.
[7] H.R. 7311 (RFS) – Countering Malign Russian Activities in Africa Act, Gov. Info, April 28, 2022 https://www.govinfo.gov/app/details/BILLS-117hr7311rfs
[8] The White House, U.S. Strategy Toward Sub-Saharan Africa, August 2022 https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2022/08/U.S.-Strategy-Toward-Sub-Saharan-Africa-FINAL.pdf