تطرح الانتخابات العامة الكينية مثالاً واضحًا على أهمية السلطة القضائية في ضمان شرعية ومشروعية عملية التحول الديموقراطي. لقد أصدرت المحكمة العليا الكينية حكمين تاريخيين؛ أولهما حكم بإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2017م، والثاني حكم بتأييد فوز نائب الرئيس وليام روتو عام 2022م.
ولا يخفى أن الانتخابات التعددية تُعدّ سلاحًا ذا حدَّيْن؛ إذ على الرغم من أنها تُمثّل اليوم العلامة الأكثر وضوحًا على عملية انتقال إفريقيا إلى الحكم الديمقراطي، فهي أيضًا أكبر تهديد لها. لقد كانت الممارسات الانتخابية السيئة والفاسدة مصدرًا رئيسيًّا للصراعات في مرحلة ما بعد الانتخابات، والتي أدَّت بدورها إلى العنف الدموي وتدمير الممتلكات.
كان هذا هو الحال بشكل خاصّ في حالة الانتخابات الرئاسية. أسباب ذلك واضحة تمامًا؛ حيث تعتبر الرئاسة مستقرّ السلطة في الدولة الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وغالبًا ما تكون الانتخابات الرئاسية بمثابة مباراة صفرية. لا يكتسب الفائز فقط حق الوصول غير المحدود إلى موارد الدولة والتحكم فيها، ولكنه يتحكم أيضًا في استخدام القوة الإكراهية بحق البلاد والعباد.
ومن ناحية أخرى؛ فإنَّ خسارة الانتخابات الرئاسية تعني ترك الخاسر في العراء وحيدًا بدون ناصر له ولا معين. لذلك ليس من المستغرَب أن تكون معظم أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات في البلدان الإفريقية قد نشأت بسبب المخالفات الانتخابية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية. وعلى مرّ السنين ازدادت وتيرة الخلافات والنزاعات الانتخابية، فضلاً عن حدتها. وعلى الرغم من انتهاء معظم هذه النزاعات أمام المحاكم، لم تكن هناك محاولة منهجية لفَهْم كيفية تعامل المحاكم معها.
وعلى الرغم من مجموعة الآليات والإجراءات الموجودة في البلدان الإفريقية، باستثناء القرارات غير المسبوقة للمحكمة العليا الكينية والمحكمة الدستورية الملاوية بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية في عامي 2017م و2020م على التوالي، إلّا أنّ المحاكم أو هيئات التحكيم في جميع القضايا الأخرى أكّدت نتائج الانتخابات، وهو ما يعني إضفاء الشرعية عليها وتوكيدها.
القضاء وتثبيت نتائج الانتخابات:
في الخامس من سبتمبر 2022م رفضت المحكمة العليا -التي ترأسها قاضية- في كينيا بالإجماع الطعون على النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية، وأيَّدت فوز نائب الرئيس ويليام روتو.
وكان مرشح المعارضة رايلا أودينجا قد زعم حدوث مخالفات في انتخابات 9 أغسطس التي كانت سلمية. ومع ذلك شهدت دراما اللحظة الأخيرة انقسام أعضاء اللجنة الانتخابية؛ والذين تبادلوا الاتهامات بسوء السلوك.
لم تجد المحكمة أدلة يُعتدّ بها على الادعاءات المختلفة، ووصفت بعضها بـ “لا شيء أكثر من مجرد كلام فارغ”. كما أعربت المحكمة عن استغرابها لماذا شارك المفوّضون الأربعة المعارضون حتى الدقائق الأخيرة في عملية فرز الأصوات التي انتقدوها ووصفوها بأنها مبهمة. صحيح أن المحكمة أقرَّت بأن اللجنة الانتخابية “بحاجة إلى إصلاحات بعيدة المدى، لكنَّها أكدت في نفس الوقت: “هل علينا إلغاء الانتخابات على أساس الانقسام في قاعة اللجنة الانتخابية في اللحظة الأخيرة؟”
القضاء وإلغاء الانتخابات:
شهدت إفريقيا جنوب الصحراء خمس حالات على الأقل تم فيها إلغاء الانتخابات. كانت الحالة الأولى في عام 1993م عندما ألغت حكومة الجنرال إبراهيم بابانجيدا الانتخابات الرئاسية النيجيرية التي فاز بها مشهود أبيولا. وأعقب ذلك قرار عام 2010م الذي اتخذه المجلس الدستوري في كوت ديفوار، بإلغاء انتخاب الحسن وتارا، وتثبيت الرئيس المنتهية ولايته لوران جباجبو رئيسًا. والحالة الثالثة كانت في عام 2015م عندما ألغت لجنة الانتخابات في زنجبار انتخابات الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي. أما الحالتان الأخريان فهما قرار المحكمة العليا الكينية لعام 2017م وقرار المحكمة الدستورية الملاوية لعام 2020م بإلغاء الانتخابات في البلدين. لم يتم اتخاذ قرارات نيجيريا وزنجبار مِن قِبَل هيئات قضائية، وبالتالي لا علاقة لهما بالجهات القضائية.
في أغسطس 2017م، اتخذت المحكمة العليا الكينية قرارًا غير مسبوق عندما ألغت انتخاب الرئيس أوهورو كينياتا، مما يدل على أنه من الممكن للمحاكم في إفريقيا تطوير اجتهادات ذات صلة بالسياق وتعزيز مبدأ المساءلة. وأعلنت اللجنة المستقلة للانتخابات في 11 أغسطس 2017م أن الرئيس المنتهية ولايته، أوهورو كينياتا، هو الفائز الصريح؛ حيث حصل على 8,203،290 صوتًا، وهزم أقرب منافسيه، رايلا أودينغا، الذي حصل على 6،762،224 صوتًا. وبسبب عدم رضاه عن النتائج، قدم أودينجا وزميله في الترشح، ستيفن كالونزو موسيوكا، التماسًا إلى المحكمة العليا الكينية للطعن في انتخاب كينياتا.
كانت المسائل الرئيسية التي يتعين على المحكمة البت فيها هي: (1) ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2017م قد أُجريت وفقًا لمبادئ الدستور وقانون الانتخابات؛ (2) ما إذا كانت هناك مخالفات في إجراء هذه الانتخابات؛ (3) ما هو تأثير أيّ من هذه المخالفات، إن وُجدت، على نزاهة الانتخابات؛ و(4) ما هي الأوامر والإعلانات والإعفاءات اللاحقة، إن وُجِدَت، التي يجب أن تمنحها المحكمة.
وبأغلبية أربعة قضاة؛ رأت المحكمة : (1) أن الانتخابات الرئاسية في 8 أغسطس 2017م لم تُجْرَ وفقًا للدستور والقانون المعمول به، مما يجعل النتيجة المعلنة باطلة ولاغية؛ (2) أن المخالفات في الانتخابات كانت كبيرة وأثَّرت على نزاهتها، بغض النظر عن النتيجة؛ (3) أن أوهورو كينياتا لم يُعلَن بشكل صحيح كرئيس منتخب، وأن الإعلان باطل ولاغٍ؛ و(4) وجوب قيام اللجنة الانتخابية بإجراء انتخابات رئاسية جديدة في توافق صارم مع الدستور والقوانين الانتخابية المعمول بها في غضون 60 يومًا.
كانت هذه هي المرة الأولى التي تُبطِل فيها محكمة في أيّ مكان في إفريقيا انتخابات رئاسية، على الرَّغم من الطعن في العديد من هذه الانتخابات. لقد طوّرت المحاكم الإفريقية فقهًا قانونيًّا موحدًا غضَّ الطرف عن الممارسات الانتخابية السيئة، وأيَّد جميع الانتخابات الرئاسية، بغض النظر عن مدى خطورة الانحرافات والتجاوزات. وعليه فقد عكست المحكمة العليا الكينية، من خلال هذا القرار التاريخي، اتجاهًا عامًّا مفاده أنه يتعين على المحاكم دائمًا أن تقرّر لصالح شاغلي المناصب، بغضّ النظر عن الحقائق المقدَّمة والظروف المحيطة بالانتخابات. أوضح الحكم أن دور المحكمة هو خدمة الدستور والقانون بإخلاص.
المبدأ الذي يتم الاستشهاد به في كثير من الأحيان، ولكن نادرًا ما يتم احترامه، هو أن الدستور هو القانون الأسمى للبلاد. ولعل أكبر مساهمة للحكم في الفقه الانتخابي في إفريقيا هي التطبيق الصحيح لقاعدة التأثير الجوهري. يوضح القرار أن ما يهم هو العملية برُمّتها، وليس فقط ما يحدث في يوم الاقتراع. الانتخابات، كما لاحظت المحكمة، “ليست أحداثًا بل عمليات”.
قبل الانتخابات، تم تعديل قانون الانتخابات لإدخال نظام الإدارة الانتخابية المتكامل في كينيا، وكان القصد من ذلك استخدامه في تسجيل الناخبين بالنظام البيومتري، وفي يوم الاقتراع، في تحديد هوية الناخبين، وكذلك النقل الفوري لنتائج الانتخابات من مراكز الاقتراع إلى مركز فرز الدوائر الانتخابية والمركز الوطني لفرز الأصوات. تطلب نقل النتائج استخدام النماذج القياسية (النماذج 34 أ و 34 ب)، ولكن في كثير من الحالات لم يتم نقل النتائج بالطريقة التي يتطلبها القانون. لم تقدم اللجنة الانتخابية أيّ تفسير معقول لذلك، في حين زعم الملتمسون أن النظام قد تم اختراقه، وأن النتائج تم العبث بها لصالح الرئيس الحالي.
في حالة ملاوي؛ أجريت الانتخابات في مايو 2019م، وأعلنت مفوضية الانتخابات الفائز، آرثر موثاريكا، بنسبة 38.5% من الأصوات. وحصل أقرب منافسيه، لازاروس تشاكويرا وساولوس تشيليما، على 35.4% و20.2% على التوالي. وبسبب عدم رضاهما عن النتائج، قدّم زعيما المعارضة التماسًا إلى المحكمة العليا لإلغاء الانتخابات بزعم وجود مخالفات متعددة. كان أحد الادعاءات الرئيسية هو أن موظفي الانتخابات تلاعبوا بشكل غير قانوني بنتائج الانتخابات من خلال تغيير الأرقام على نطاق واسع. وجدت المحكمة أن استمارات نتائج الانتخابات التي استُخدمت في جدولة الأرقام الوطنية قد تم تغييرها بشكل غير قانوني.
بناءً على الأدلة المقدمة، توصلت المحكمة إلى استنتاج مفاده أن 24% من أوراق النتائج قد تم تغيير النتائج بها باستخدام سائل التصحيح (المعروف شعبيًّا باسم Tippex)، وتم تعديل 6% من النماذج يدويًّا، و4% من الاستمارات تفتقر إلى توقيعات من مسؤولي الانتخابات و6% من الاستمارات تفتقر لسبب غير مفهوم إلى توقيعات وكلاء الأحزاب السياسية. وبعد إثبات ذلك بالإضافة إلى أسباب أخرى، توصلت المحكمة إلى استنتاج مفاده أن مفوضية الانتخابات فشلت في إدارة انتخابات حرة ونزيهة باعتبار أن العملية الانتخابية تم إجراؤها على نحو مخالف لقوانين الانتخابات والدستور. وعليه ألغت المحكمة الانتخابات، وأمرت بإجراء انتخابات جديدة في غضون 150 يومًا.
ولا يخفى أن هذا النهج الفقهي للمحكمتين الكينية والملاوية جدير بالثناء، ويقدم مساهمة هائلة في دمقرطة حلّ الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها بإمالة الكفة لصالح إرادة الشعب. إنه خروج واضح عن الفقه السائد والذي يسرف في مراعاة مصالح النخبة الحاكمة. فيما يتعلق بالحد الأدنى لنزاهة الانتخابات، قررت المحكمة في مالاوي -بعد السابقة الكينية لعام 2017م- أن الأرقام ليست فقط هي الحاسمة في تحديد التأثير الكبير للمخالفات على نتائج الانتخابات.
رأت المحكمة أن جودة العملية الانتخابية مهمة أيضًا، إن لم تكن أكثر أهمية من الأرقام؛ فـ”الكم والجودة سواء بسواء”، هذا النهج مهمّ؛ لأنه يتطلب من المحكمة أن تأخذ في الاعتبار السياق الذي تُجْرَى فيه الانتخابات من أجل تحديد ما إذا كان من الممكن، في هذا السياق، ممارسة إرادة الشعب بحرية.
إن التركيز بشكل أساسيّ على الأرقام يُضْفِي شرعية فعَّالة على الغشّ في الانتخابات على نطاق واسع، دون النظر إلى البيئة التي أُجريت فيها الانتخابات؟
البعد الإقليمي للعدالة الانتخابية:
خاض الرئيس السابق لجمهورية النيجر من 1993م إلى 1996م، محمد عثمان، الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الثانية في فبراير 2021م مع الرئيس الحالي محمد بازوم. وبحسب النتائج النهائية التي أقرتها المحكمة الدستورية فقد حصل على 44.34٪ مقابل 55.66٪ لمحمد بازوم. وقرَّر محمد عثمان رفع دعوى أمام محكمة العدل التابعة للإيكواس للطعن على إعلان فوز محمد بازوم. بَيْد أنَّ محكمة العدل التابعة للإيكواس رفضت في حكم صدر في 31 مايو 2022م -بشأن قضية محمد عثمان ضد دولة النيجر- مزاعمه بانتهاك دولة النيجر لحقوق الإنسان الخاصة به في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وفقًا للمحكمة، المختصة بالنظر في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في أيّ دولة عضو؛ فإن دولة النيجر لم تنتهك، خلال هذه الانتخابات، أيّ حقوق للمرشح محمد عثمان.
وفي الختام، يمكن القول: إن آليَّات حلّ النزاعات الانتخابية في إفريقيا تظهر تطورًا نوعيًّا منذ التسعينيات وبداية ما يمكن تسميته المرحلة الدستورية الجديدة. ومع ذلك، فإن هذا الوضع ليس موحدًا ولا عامًّا؛ لأن الفوارق لا تعتمد على اختلاف الدول والأنظمة القانونية فحسب، ولكن وقبل كل شيء، فإن بعض البلدان لا تزال متخلّفة عن ركب التحوّل الديمقراطي في إفريقيا.
ويمكن أن يتم تحسين فعالية الآليات الإفريقية لإدارة النزاعات الانتخابية من خلال مساهمة المحكمة الإقليمية التي من شأنها أن تكون الوصي على تطبيق المعايير والمبادئ التي وضعتها الصكوك الإقليمية. وبالتالي، فإنَّ المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب تُواجه تحديًا كبيرًا للقيام بهذه المهمة التي كرَّست المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان نفسها لها منذ سنوات عديدة.