شهدت سيراليون اضطرابات غير عادية خلال الأسبوع الماضي بسبب احتجاجات تحوَّلت إلى أعمال عنفٍ؛ حيث دعا بعض المحتجّين الرئيس السيراليوني “جوليوس مادا بيو” إلى الاستقالة. وأفادت مصادر أمنية أن ما لا يقل عن 27 شخصًا لقوا حتفهم نتيجة الاشتباكات بين المتظاهرين وضباط الشرطة, ولا يزال الهدوء يخيّم على العاصمة فريتاون؛ بسبب الصدمة التي أصابت السكان الذين تحصنوا ببيوتهم، وظلوا خلف أبوابهم المغلقة.
وإذا كانت مدن أخرى في سيراليون قد شهدت خلال السنوات الأخيرة احتجاجات منعزلة قُتِلَ فيها عدد قليل من الناس؛ فقد أرجعت بعض التقارير أسباب خروج مئات المحتجين في الأسبوع الماضي إلى إحباط النسبة الكبرى من المواطنين من الصعوبات الاقتصادية، وفشل الحكومة في التخفيف من تأثير ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
وتركزت احتجاجات الأسبوع الماضي في قلب معاقل المعارضة شمال البلاد وفي العاصمة “فريتاون”, وذلك بعدما توقع الكثيرون وقوع احتجاج يوم 8 أغسطس 2022م، ولكن الانتشار المكثّف لقوات الأمن في جميع أنحاء البلاد حالَ دون ذلك. فخرج الناس في 10 أغسطس في عدة أحياء وأماكن أخرى دون إعلان مسبق.
وشملت حصيلة القتلى في الاحتجاجات مدنيين وضابطي الشرطة قتلوا في “فريتاون” وبلدة “كامكْوي” ومدينة “ماكيني” شمال سيراليون. وتم احتواء الوضع ووقف العنف من خلال فرض حظر التجول وقطع الإنترنت لمدة ساعتين يوم الأربعاء، ومرة أخرى في اليوم التالي.
ما أسباب الاحتجاجات العنيفة؟
وعد الرئيس السيراليوني “جوليوس” بإجراء تحقيق كامل في تداعيات الاحتجاجات العنيفة التي وقعت الأسبوع الماضي، ولكنه أيضًا في تصريحات صارمة اتَّهم أحزاب المعارضة بالوقوف وراء الحادثة واصفًا إياهم بـ “أعدائه السياسيين”، الذين يعتزمون تدمير السلام والأمن والاستقرار الذي ينعم به السيراليونيون, وأنهم يحاولون الإطاحة بإدارته عبر تمرُّد واحتجاجات؛ حيث كانت المعارضة تثير التوترات “في وقت سابق” قبل الاحتجاجات.
وعلى حدّ تعبير الرئيس “جوليوس”: ما حدث “لم يكن احتجاجًا على ارتفاع تكاليف المعيشة الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية”. بل كان العصيان والاحتجاج بهدف الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًّا. وقد دبَّره أعضاء حزب “مؤتمر عموم الشعب” (APC), أكبر حزب سياسي معارض في سيراليون والذي يتمتع بأغلبية المقاعد في البرلمان، ويتولى أحد أعضائه منصب رئيس البلدية في “فريتاون”؛ حيث جرت معظم الاحتجاجات.
أما وزير الشباب السيراليوني “محمد أورمان بنغورا”؛ فقد وصف الاحتجاجات بأنها “أعمال إرهابية”؛ لأن “هناك فرقًا بين الاحتجاجات وأعمال الشغب وأعمال الإرهاب. يختلف الاحتجاج عن التصرف كإرهابي… ضد الدولة وقتل ضباط الشرطة والشباب الأعزل”.
وبعد تصريحات الرئيس “جوليوس” أصدر حزب APC المعارض بيانًا عن الأحداث؛ حيث طالب المواطنين بالالتزام بسيادة القانون. وأضاف البيان: “نشجّع جميع أصحاب المصلحة على تهدئة التوترات والامتناع عن الخطاب العدواني (أو) التصريحات التي لا أساس لها”. كما أكّد الحزب أنه “بصفتنا حزبًا سياسيًّا, نواصل إعادة تأكيد وتعزيز التزامنا بالسلام والتماسك الوطني على المدى الطويل”.
وقد كان موقف بعض المحللين في سيراليون أن الرئيس “جوليوس” نفسه يُسيِّس الوضع لصالحه متجاهلاً حقيقة أن مواطني البلاد يعانون من أزمات معيشية واقتصادية. ولعلَّ ما يُعضّد هذا أن أحزاب المعارضة التي اتَّهمها الرئيس قد نَفَت مسؤوليتها عن الاحتجاجات العنيفة, كما أن هذه الأحزاب لا تملك برامج بديلة عما يقدّمه الرئيس وحزبه الحاكم؛ إذ لا توجد اختلافات أيديولوجية كبيرة بين الحزب الحاكم ومعظم الأحزاب المعارضة في البلاد, مما جعل الرأي السائد يميل إلى أن أحزاب المعارضة لم تُنظَّم الاحتجاجات حتى وإن كانت قد تستفيد منها.
العنف السياسي في سيراليون:
كانت دولة سيراليون من الدول الإفريقية التي تتمتع بالاستقرار النسبي خاصة منذ نهاية الحرب الأهلية في البلاد بين عامي 1991 إلى 2002م والتي خلَّفت حوالي 120 ألف قتيل. وشهدت البلاد انتقالاً سلميًّا للسلطة عام 2018م عندما فاز الجنرال السابق والرئيس الحالي “جوليوس مادا بيو” برئاسيات البلاد.
ومع ذلك أشارت الدراسات والتقارير الحديثة إلى تراجع نسبة الاستقرار السياسي في سيراليون؛ ففي عام 2020م أظهر مؤشر الاستقرار السياسي للبنك الدولي -الذي يتبنَّى قياس 2.5- لضعف الاستقرار و2.5 لقوة الاستقرار- أن سيراليون دولة ضعيفة في هذا المجال.
وكشفت بيانات خاصة عن الفترة ما بين 1996م إلى 2020م إلى أن متوسط قيمة الاستقرار السياسي للبلاد خلال تلك الفترة كان 0.5- نقطة مع حد أدنى بـ 2.17- نقطة في عام 1998م وحد أقصى بـ0.04- نقطة في عام 2017م, بينما كان أحدث مؤشر من عام 2020م هو 0.24 نقطة.
ومما يعطي حادثة الأسبوع الماضي بُعدًا آخر أن سيراليون تعتزم إجراء انتخابات في العام المقبل ويُتوقَّع ترشُّح الرئيس “جوليوس” فيها لفترة رئاسية جديدة. وتُؤشّر حوادث السنوات القليلة الماضية إلى تصاعد العنف السياسي في البلاد؛ حيث أفادت إحصاءات ACLED وWANEP-SL وSL-LED بتزايد العنف السياسي بشكل مطرد منذ عام 2014م, وبلغ مستوى العنف ذروته في عام 2018م.
وبحسب تقرير ACLED؛ كان التنافس السياسي وراء غالبية أعمال العنف السياسي في سيراليون. وتضمَّنت أنواع العنف الذي تم رصده: العنف المجتمعي, واعتداء قوات أمن الدولة على المدنيين, وأعمال الشغب والاحتجاجات على القضايا الوطنية, والعنف المصاحب للمنافسة السياسية. ويشمل النوعان الأخيران من العنف ما حدث أثناء الانتخابات الوطنية والانتخابات الفرعية والمحلية, إضافةً إلى العنف بين الأحزاب السياسية وبين أعضاء الحزب الواحد.
ويلاحظ أيضًا أن السياسة المحلية في سيراليون بدأت تتأثر بتطورات السياسة الوطنية؛ حيث أصبحت النزاعات المجتمعية الطفيفة ترتبط بالتوترات المركزية الوطنية بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، بالإضافة إلى الخلافات بين أعضاء وقادة كلا الحزبين.
التعامل مع الأزمة الاقتصادية:
لقد تحسّن الوضع المعيشي والاقتصادي في سيراليون بشكل تدريجي منذ نهاية الحرب الأهلية عام 2002م. ولكنَّ نسبة النمو الاقتصاد في البلاد لا تتماشى مع الواقع المعيشي الحالي، ولا تواكب التحديات الجديدة, كما أن إمكانات البلاد الاقتصادية الكاملة لا تزال غير مستغلَّة.
وعلى مرّ العقدين الماضيين واجهت سيراليون تحديات اقتصادية كثيرة نتيجة الركود والبطالة وانخفاض الإنتاجية, كما واجهت التحديات الاجتماعية المتمثلة في الفقر وعدم المساواة اللذين لا تتناسب جهود مكافحتهما مع النمو السكاني. بالإضافة إلى الإهمال النسبي للتعليم مِن قِبَل الحكومة منذ نهاية الحرب الأهلية مما أدَّى إلى نقص المهارات وضعف التعامل مع الأزمات الصحية الطارئة، كما هو الحال أثناء مواجهة وباء “إيبولا” بين 2014 و2016م.
وقد شهدت سيراليون منذ عام 2016م خططًا ومساعي مختلفة لإعادة بناء البلاد؛ حيث تأثرت بدرجة كبيرة بتداعيات وباء “إيبولا”، وانخفاض أسعار السلع الأساسية العالمية، وتداعيات وباء كوفيد-19 التي عطَّلت التجارة والاستثمار، وأضرت بالصادرات في البلاد.
وقد توقَّع البنك الدولي في 2022م تعافي الاقتصاد السيراليوني، وبلوغ متوسط نموّ ناتجها المحلي الإجمالي الحقيقي 4.4 خلال الفترة 2022 و2024م؛ وذلك بسبب المساهمات المتوقعة من قطاعات التعدين والزراعة وجهود الانتعاش في السياحة والتصنيع. واضطرت حكومة البلاد في يوليو الماضي (2022م) إلى خفض ثلاثة أصفار من عملتها “ليون” من أجل استعادة الثقة فيها بعدما ضربها التضخم.
في المقابل هناك من يرى أن ما تحتاج إليه سيراليون هي إصلاحات راديكالية من أجل تغيير مسار الوضع؛ لأن اقتصاد البلاد رغم اعتماده على المعادن يكافح من أجل الانتعاش، ولا تزال النسبة الكبرى من السكان البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة تعيش تحت خط الفقر. وتحتل البلاد في مُؤشّر التنمية البشرية للأمم المتحدة المرتبة 182 من أصل 189 دولة.
وقد استاء بعض السيراليونيين من تصريحات الرئيس “جوليوس” التي اتهم فيها المعارضة بمحاولة الإطاحة بحكومته؛ إذ توقع الكثيرون من الرئيس أن يقر في خطابه بالأزمة الاقتصادية، ويوضح للمواطنين والمحتجين ما تقوم به حكومته لتخفيف حدة الوضع الذي كان سببًا للاحتجاج.
من جهة أخرى تفيد تصريحات الرئيس “جوليوس” أنه ينكر الواقع الذي يعيشه شعبه، رغم أن بيانات حكومته الأخيرة أفادت بتضاعف مؤشر أسعار المستهلك منذ توليه رئاسة البلاد في أبريل 2018م إلى يونيو الماضي (2022م). والمنحة التي قدّمها البنك الدولي لسيراليون البالغة 40 مليون دولار أمريكي بغرض توفير دعم للمستهلكين الفقراء ومحدودي الدخل، وخلق فرص عمل للشباب لم تخفّف الوضع المعيشي؛ حيث سجّلت البلاد بعد المنحة في مارس أعلى زيادة شهرية في مؤشر أسعار المستهلكين منذ عام 2018م لشهور متتالية. بل أظهرت البيانات الواردة في تقرير مؤشر أسعار المستهلكين أن الارتفاع المستمر في أسعار المستهلكين بدأ على الأقل منذ عام 2018م، أي قبل أزمة كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية.
وإذا كان البعض يشدّد على جهود حكومة “جوليوس” في تخفيض أسعار الوقود مرتين خلال الشهر الماضي، إلا أنهم انتقدوا رئيس الدولة أيضًا بسبب كثرة أسفاره خارج البلاد ورحلاته مع أفراد أسرته والتي تنفق حكومته ملايين الدولارات عليها؛ رغم قلة فائدة هذه الرحلات للمواطنين. وبدلاً من توجيه أموال الرحلات إلى التعليم ورفع أجور المعلمين والأطباء الذين يهددون بالإضراب؛ يؤطّر الرئيس وإدارته جميع المشكلات الاقتصادية والتنموية التي تواجه البلاد على أنها ظاهرة عالمية وليست حالات خاصة بسيراليون.
وأخيرًا, ليست سيراليون الدولة الوحيدة التي تعاني من احتجاجات عنيفة أو مختلف الأنواع من العنف السياسي؛ ولكنَّ صِغَر حجم البلاد وعدد سكانها مقارنة بتزايد وتيرة العنف السياسي فيها يُنذران بخطر مما يوجب أخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي انجرار البلاد إلى صراع آخر يؤخّر التقدم والتنمية والحكم الرشيد.
_______________________
المراجع:
Sierra Leone: Civilians and police killed in anti-government protests:
When Emerging Democracies Breed Violence: Sierra Leone 20 Years after the Civil War:
Sierra Leone president accuses opposition of insurrection:
Sierra Leone’s president threatens further crackdown on protesters after security forces kill 21:
Ebola Response in Sierra Leone: