بحلول العام 2023م يكون الرئيس الإريتري أسياس أفورقي (مواليد فبراير 1946م) قد أكمل عقده الثالث في حكم إريتريا (التي يبلغ عدد سكانها 3.6 مليون نسمة) رئيسًا وحيدًا لها منذ الاستقلال (1993م).
وتُعدّ إريتريا-أفورقي من أكثر دول العالم معاناةً من القمع في العالم، وتُوصف في الإعلام الغربي “بكوريا الشمالية الإفريقية”، وتُحكَم البلاد بقبضة أفورقي الحديدية، ويُقدّر ناتجها المحلي الإجمالي بنحو 2.48 بليون دولار. وقد توسَّع الاقتصاد الإريتري في العام 2021م بنسبة 2.9%، ويتوقع أن يرتفع هذا العام بنسبة 4.8% وفقًا لصندوق النقد الدولي.
ويُعدّ الاقتصاد الإريتري من أكثر الاقتصادات اضطرابًا في العالم؛ بسبب موجات الجفاف المزمنة، والتغيُّر البالغ الارتفاع في الناتج الزراعي. وعلى سبيل المثال فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في العام 2014م بنسبة 31% قبل تدهوره بحدة بنسبة -20.6% في العام 2015م، وتدهور مرة أخرى في العام 2017م بنسبة -10% قبل قفزه مجددًا في العام 2018م بنسبة 13%([1]).
أفورقي وآبي أحمد: استمرار التحالف غير المقدس؟
أكدت الشواهد الأخيرة، لا سيما منذ وصول آبي أحمد لرئاسة الوزراء في إثيوبيا (2018م)، انتهاج أسمرا سياسة خارجية انتهازية لتحقيق التفوق الإقليمي على حساب إثيوبيا بشكل خاص. وواصل أفورقي سياسات كسب أرض جديدة للنفوذ في القرن الإفريقي من بوابة التدخل في الصراعات الأخرى، كما تم في الشأن الصومالي منذ مطلع الألفية الحالية، وضخ أفورقي كميات كبيرة من الأسلحة لأطراف النزاع الصومالي (خاصة جماعة الشباب)، بالمخالفة لقرارات مجلس الأمن بالأمم المتحدة. وتبلورت هذه الانتهازية في الموقف من إثيوبيا بالتزامن مع الاضطرابات التي شهدتها حتى وصول آبي أحمد([2])، وحاجة الأخيرة إلى دعم خارجي على حساب أجندته المحلية التي لم ينجح في فرض أغلب بنودها، وأبرزها إجراء انتخابات وطنية شاملة وتحوُّل ديمقراطي سلس.
ورغم التقارب بين نظامي أفورقي وآبي أحمد؛ فإنه لا تزال هناك مخاوف معتبرة من تجدُّد الصدامات بين قوات التيجراي والقوات الإريترية؛ لدرجة الصراع المفتوح بين القوتين، بينما لا تزال الحكومة الفيدرالية –حتى منتصف العام الجاري- تحاول استعادة الخدمات في إقليم التيجراي مثل الكهرباء والاتصالات والبنوك، مع ملاحظة أن أي امتيازات قد تقدّمها الحكومة الفيدرالية (سواء بشكل ثنائي في محادثات مع قادة التيجراي أو ضمن “الحوار الوطني الإثيوبي” العام) لحكومة إقليم التيجراي، لا سيما بخصوص غربي الإقليم الذي تطالب مجموعات الأمهرا بحقها فيه، سيُضْعِف حتمًا قاعدة سلطة آبي أحمد التي اعتمدت خلال الحرب الأخيرة على الدعم من هذه المجموعات([3]).
ويشترك أفورقي وآبي أحمد في هدف رئيس، وهو الاستيعاب الكامل لإقليم التيجراي وشعبه في الدولة الإثيوبية؛ كشرط وحيد لتخلّي مواطني إريتريا من إثنية التيجراي عن “هويتهم” المتميزة، الأمر الذي طالما عدَّه نظام أفورقي عائقًا أمام تعزيز هوية إريترية مشتركة بين مكونات بلاده([4]). كما أن هذا الاستيعاب سيخلّص نظام آبي أحمد وقاعدة دعمه من الأمهرا من منافسهم التاريخي الذي استمر في الحكم ثلاثة عقود قبل وصول آبي أحمد لرئاسة الوزراء.
الصومال: ملفات مرتبكة
توجّه الرئيس الصومال حسن شيخ محمود لزيارة أسمرا قرب منتصف يوليو الجاري في زيارة استغرقت أربعة أيام كاملة؛ وقَّع خلالها مع أسياس أفورقي اتفاقًا يُغطّي مسائل الدفاع والأمن والتعاون الدبلوماسي والسياسي. واتفق البلدان في مذكرة التفاهم التي تضمنت سبع نقاط على تعزيز التعاون الدفاعي والأمني “لتأمين السِّلم والاستقرار والأمن”. كما اتفقا على تقوية التعاون الدبلوماسي والسياسي “لحماية مصالحهما الوطنية وتعميقها”، وتعزيز العلاقات بين الشعبين “استنادًا للصلات التاريخية والأخوية والمصالح المشتركة التي يقتسمانها”، وإقرارًا بأن القتال الناجح ضد الإرهاب في الصومال شرط أساسي للسلام والاستقرار والأمن “ليس في الصومال فحسب، ولكن في القرن الإفريقي”([5]).
ويوجد نحو 5200 جندي صومالي يتدربون في إريتريا منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام (على ثلاث دفعات؛ الأولى في أغسطس 2019م، والدفعتان الثانية والثالثة في فبراير ويونيو 2020م)، وهو الرقم الذي أكده الرئيس الصومالي السابق محمد عبد الله “فرماجو” قبل نهاية رئاسته، وسط تأكيدات مصادر صومالية معارضة له وقتها بمشاركة هذه القوات في حرب إقليم التيجراي في صفوف القوات الإريترية وقوات آبي أحمد؛ مما أثّر بقوة على شعبية “فرماجو” وقتها، واتهامه بالمشاركة في الحرب بشكل سري، واستغلال موارد الدولة لصالحه الشخصي.
وقد حضر الرئيس الصومالي خلال زيارته استعراض القوات الصومالية “وهنّأهم على إكمال تدريبهم العسكري” في إريتريا. وحسب بيان للرئاسة الصومالية؛ فإن الرئيس جدد تعهده بإعادة هؤلاء الجنود إلى الصومال (في إشارة إلى إشكالية واضحة لانتماء هذه القوات لعهد تحالف فرماجو- أفورقي بالأساس)، وأن الحكومة لديها خططًا لتحقيق الاستقرار في البلاد، وتحرير المناطق الخاضعة لسيطرة “جماعة الشباب”([6]).
ورغم البيان “الودي” فإنه لم يتضح فعليًّا موعد محدد لعودة هؤلاء الجنود (الذين ذكرت مقديشو في مايو الماضي وفاة أعداد منهم خلال التدريب أو وفاة طبيعية)([7])، مما يرجّح معه وجود مسار تفاوضي بشأن هذا الملف وربطه بقضايا وترتيبات ثنائية أخرى، على نحو يتسق تمامًا مع سياسات أفورقي في القرن الإفريقي وتجاه الصومال الذي عُدَّ “حديقة خلفية” لإريتريا حسب تصورات أفورقي طوال عهد الرئيس السابق “فرماجو”.
ورغم ما أثارته الزيارة من تعقيدات في المشهد السياسي الصومالي بين طمأنة أهالي الجنود الصوماليين، وعدم وضوح احتمالات عودة هؤلاء الجنود فعليًّا فإن الزيارة نفسها قد أثارت جدلًا حول الدور الإقليمي الإريتري المثير لمخاوف بعض القوى الأخرى وحتى تخوفات بعض القوى الصومالية من قدرة أفورقي على استغلال هشاشة أوضاع بلادهم للتدخل في شؤونها([8]).
أسياس أفورقي وإسرائيل: نهاية تحالف تقليدي؟
في منتصف يوليو الجاري أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الخارجية يائير لابيد قراره بغلق السفارة الإسرائيلية في أسمرا، وتسريح موظفيها على خلفية تأجيل إريتريا استقبالها السفير الإسرائيلي لمدة عامين تقريبًا.
وجاء إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي -حسب المراقبين- على نحو متعجّل وغاضب، لا سيما أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد عيّنت سفيرها في أسمرا منذ يوليو 2020م وأخطرت حسب الأعراف الدبلوماسية السلطات الإريترية رسميًّا التي لم تصادق بدورها على طلب إسرائيل باستقباله رسميًّا مما اعتبرته تل أبيب خروجًا عن البروتوكول الدبلوماسي. وأشار مراقبون إسرائيليون إلى رجحان فرضية وجود توتر إسرائيلي إريتري على خلفية ما تعتبره أسمرا “تقاربًا إسرائيليًّا سودانيًّا”، والذي يعد بمثابة تهديد حقيقي لدور إريتريا الإقليمي وتحجيمًا لدورها في الملف السوداني بشكل غير مسبوق منذ سقوط الرئيس المعزول عمر البشير([9])، وهو تفسير تعزّزه حالة الجمود الراهنة في دبلوماسية إريتريا تجاه المرحلة الانتقالية في السودان منذ تجاهل الخرطوم مبادرة الأولى التي قامت بها في منتصف أبريل 2022م التي نفت أسمرا وقتها أن تكون مدعومة من دول خليجية([10]).
وسيكون للتوتر الدبلوماسي الحالي بين البلدين –حال عدم تداركه مِن قِبَل نظام أفورقي- تداعياته السلبية الخطيرة على هذا النظام بالنظر إلى طبيعة التحالف الذي ظل قائمًا بين البلدين ومكّن نظام أفورقي من تحمُّل تداعيات العقوبات الدولية في منعطفات كثيرة منذ نحو ثلاثة عقود.
مستقبل نظام أسياس أفورقي:
ثمة ملاحظة مبدئية عند أيّ تناول لمستقبل نظام أفورقي على النحو الذي تكرر في الأعوام الأخيرة، وهي أن العامل الأبرز في بقاء هذا النظام -رغم العقوبات الدولية المتعاقبة وانتهاجه سياسات داخلية أفقدته قاعدة متزايدة من الدعم الشعبي بمرور السنوات- يتمثل –إلى جانب الموقع الاستراتيجي بالغ الأهمية على أهم طرق الملاحة البحرية في العالم بسواحل يبلغ طول إجمالها بالجزر الإريترية نحو 2234كم، وتحل سادسة إفريقيًّا في طول السواحل بعد مدغشقر والصومال وجنوب إفريقيا وموزمبيق ومصر، فيما يمكن وصفه “بضرورته الأمنية” سواء في إقليم البحر الأحمر الجنوبي أو القرن الإفريقي لتفادي أي اضطرابات كبيرة قد تدفع لموجات متلاحقة من اللاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين سواء من داخل إريتريا نفسها أم من عدد من دول الجوار، إضافة إلى تمكّن أفورقي طوال سني حكمه من توظيف أدوار إقليمية ودولية متصارعة وذات استراتيجيات متضاربة (مثل: إيران وإسرائيل وروسيا والإمارات، وغيرها).
كما أن استمرارية نظام أفورقي لا تزال تملك فرصًا من جهة قدرته المدهشة على تغيير تحالفاته، وربما يتعزز راهنًا توجّه إريتريا “الروسي” لا سيما أنها كانت الدولة الإفريقية الوحيدة التي رفضت قرار الأمم المتحدة في 27 فبراير 2022م الذي يدين روسيا بخصوص غزوها جارتها أوكرانيا. ورغم خطورة هذا التوجُّه حاليًا والمعارضة الكبيرة التي ستزيد من عزلة إريتريا وسط محيطها الإقليمي ومقاربات القوى الغربية إزاءها فإن التجارب السابقة أثبتت قدرة أفورقي على الخروج منتصرًا من هذه المناورات.
وللمفارقة؛ فإن العامل الأكثر تأثيرًا في مستقبل نظام أفورقي، المتماسك داخليًّا رغم الاضطرابات الاجتماعية والسياسية المزمنة؛ بسبب سياساته القمعية الصارمة، يظل حتى الآن متمثلًا في حالة أفورقي الصحية، التي أصبحت مثار جدل كبير منذ أوائل العام 2020م، ونجاته من “جلطة صغيرة” تلقى على الفور العلاج منها في دولة عربية (حسب مصادر المعارضة الإريترية). كما أن توجه أفورقي لتمتين علاقاته مع روسيا سيقود حتمًا إلى سلسلة جديدة من العقوبات الغربية (وربما الإقليمية) ضد نظام أفورقي بدأت بالفعل وسائل إعلام غربية منذ مطلع العام الجاري في التمهيد لها والحث علي إعادة فرضها (أبرزها حملة الإيكونومست Economist منذ نهاية مايو 2022م على خلفية سجل أسمرا في ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان)، وتظلّ نجاعة هذه العقوبات في مستقبل نظام أفورقي مرهونة –كما جرت العادة- بمدى قدرة “المجتمع الدولي” على مواجهة تداعيات فراغ السلطة في إريتريا أو تحولاتها “العنيفة”؛ وهي قدرة تبدو محدودة وتتعلق بالأساس بتعقيدات التنافسات الإقليمية والدولية، ولا تعول كثيرًا على الشأن الإريتري الداخلي، ما يعني ارتفاع سقف المساومات التي يجيدها نظام أفورقي بشكل تام.
…………………………………………
الهوامش
[1] Jason Mitchell, Could potash bring Eritrea in from the cold? Investment Monitor, January 14, 2022 https://www.investmentmonitor.ai/analysis/eritrea-africa-potash-investment-dictator
[2] Richard Reid, Eritrea is involved in Tigray to boost its stature. Why the strategy could backfire, The Conversation, January 30, 2022 https://theconversation.com/eritrea-is-involved-in-tigray-to-boost-its-stature-why-the-strategy-could-backfire-175591
[3] Patrick Wight, Abiy Ahmed’s power base is more fragile than ever, Ethiopia Insight, June 14, 2022 https://www.ethiopia-insight.com/2022/06/14/abiy-ahmeds-power-base-is-more-fragile-than-ever/
[4] Hagos Gebreamlak, Ethiopia’s multinational federalism ruins Isaias’ assimilationist scheme, Ethiopia Insight, April 19, 2022 https://www.ethiopia-insight.com/2022/04/19/ethiopias-multinational-federalism-ruins-isaias-assimilationist-scheme/
[5] Eritrea, Somalia Leaders Vow Cooperation on Defense, Political Efforts, Voice of America, July 12, 2022 https://www.voanews.com/a/eritrea-somalia-leaders-vow-cooperation-on-defense-political-efforts-/6656039.html
[6] Eritrea, Somalia Leaders Vow Cooperation on Defense, Political Efforts, Voice of America, July 12, 2022 https://www.voanews.com/a/eritrea-somalia-leaders-vow-cooperation-on-defense-political-efforts-/6656039.html
[7] What Hassan Sheikh told Somalia’s soldiers trained in Eritrea? Garowe Online, July 11, 2022 https://www.garoweonline.com/en/news/somalia/what-hassan-sheikh-told-somalia-s-soldiers-trained-in-eritrea
[8] Michelle Gavin, Stranded Somali Soldiers Raise Questions About Horn Alliances, Council on Foreign Relations, July 20, 2022 https://www.cfr.org/blog/stranded-somali-soldiers-raise-questions-about-horn-alliances
[9] On Eritrea’s Refusal To Welcome an Israeli Ambassador, The Media Line, July 22, 2022 https://themedialine.org/mideast-mindset/on-eritreas-refusal-to-welcome-an-israeli-ambassador/
[10] Eritrean initiative on Sudan has nothing to do with Gulf countries: official, Sudan Tribune, May 2, 2022 https://sudantribune.com/article258248/