تطرح الانتخابات القادمة في كينيا المزمع عقدها بنهاية العام الحالي 2022م تساؤلات مهمة حول جدل العلاقة بين القبيلة والطبقة والسياسة في كينيا. ربما يتم تجاوز الخطوط العرقية لتصبح الطبقة هي المحدد الرئيسي للفعل السياسي.
عندما قال الأديب الكيني الأشهر نغوغي واثيونغو في عام 2002م: “إن الصراع الحالي يتعلق بالطبقة أكثر من الإثنية”؛ فإنه أكّد على طبيعة التحولات الفارقة التي تشهدها السياسة الكينية المعاصرة. وإن الحديث عن “القبلية” هو في الأساس غطاء لمزيد من الانقسامات الطبقية الأساسية التي تفاقمت منذ العهد الاستعماري وكرَّستها الحكومات الفاسدة في كينيا بعد الاستقلال. كما أدَّى الاقتصاد الرأسمالي العالمي إلى مزيد من الانقسامات الاجتماعية التي جعلت معظم الكينيين منتجين أساسيين للبن والشاي في ظل التقسيم الدولي للعمل.
تعد كينيا شأنها شأن العديد من الدول الإفريقية شديدة الانقسام والتنوع العرقي، ولا يمكن تقسيمها بسهولة لأغراض سياسية. على الرغم من أن التحالفات السياسية منذ الاستقلال تجاوزت عمومًا الخطوط القبلية، وحدث الكثير من التزاوج بين “القبائل”؛ إلا أن الكيكويو ظلت لهم اليد العليا في عالمي السياسة والاقتصاد.
يشكل الكيكويو -جنبًا إلى جنب مع كامبا وميرو، المرتبطين لغويًّا بهم، ويسكنون مناطق مجاورة في وسط كينيا- أكبر كتلة لغوية في كينيا بنسبة 37٪. أما اللوو واللوهايا فيمثلون ثاني أكبر كتلة بنسبة 27٪، كما أن الكالنجين يشكلون 11.5٪ من جملة السكان. بخلاف ذلك، يشكّل الماساي في كينيا حوالي 1.8٪ فقط من السكان. أضف إلى ذلك أنه توجد جماعات أخرى ذات أعداد صغيرة نسبيًّا. صحيح أن أيًّا من هذه “الكتل” العرقية أو اللغوية لا يهيمن على البلاد من حيث العدد؛ إلا أن الكيكويو قاموا بدورٍ يفوق لغة الأرقام، وهو الأمر الذي ميَّز فنّ السياسة الكينية على مدى عقود طويلة.
الكيكويو وحديث القبيلة:
عادة ما يصف الكيكويو أنفسهم بأنهم “يهود كينيا”، ربما بسبب سيطرتهم على قطاع الأعمال. بيد أن هناك فرقًا؛ يتمثل في أنه لم يخلط يهود أوروبا أبدًا النفوذ الاقتصادي بالسلطة السياسية المباشرة. بيد أن الكيكويو جمعوا بين المال والسياسة؛ حيث قدموا ثلاثة من رؤساء كينيا الأربعة. ويمكن إرجاع مأزقهم الحالي إلى تلك القبضة المزدوجة على الدولة القومية والاستياء الذي تُثيره بين مواطنيهم.
تبدأ قصة كيكويو، كما تقول الأسطورة، على سلسلة من التلال شمال بلدة مورانجا، جنوب نيري، وسط وديان ضبابية نحتها ذوبان ثلوج جبل كينيا. في عالم الكيكويو قبل وصول الاستعمار، كان جبل كينيا، المعروف باسم كيرينياغا، هو مقر الرب، أو نغاي. قام الإله نجاي بخلق الرجل الأول -جيكويو-، ثم أرسله إلى الأرض قائلاً: “ابنوا مساكنكم حيث تنمو أشجار التين”.
وفي وقت لاحق، أرسل له زوجته مومبي؛ حيث أسَّس الزوجان العشائر العشر التي تشكل “بيت مومبي”، وهي كناية عن الكيكويو أيضًا. لم يكن مستغربًا أن الذكور من أبناء الكيكويو كانوا يُقسمون في مراسم احتفالية بالحفاظ على العلم (أي السلطة) في بيت مومبي.
واستنادًا على تلك الأسطورة فقد ارتبط الكيكويو بالزراعة والأرض، كما كتب كينياتا في مؤلفه في مواجهة جبل كينيا: “هناك رغبة كبيرة في قلب كل رجل جيكويو لامتلاك قطعة أرض يمكنه بناء منزل عليها. الرجل -أو المرأة- الذي لا يستطيع أن يقول لأصدقائه: تعالوا كلوا واشربوا واستمتعوا بثمار عملي، لا يعتبر حقًّا من أفراد القبيلة”.
كان هذا الارتباط بالأرض هو الذي جعل الكيكويو في صراع مع الإمبراطورية البريطانية. في البداية، أظهر المستكشفون البريطانيون في القرن التاسع عشر اهتمامًا ضئيلًا بالمنطقة التي عُرفت لاحقًا باسم “كينيا”، وبدلاً من ذلك انصبَّ تركيزهم على مملكة أوغندا وبحيرة فيكتوريا. كانت الوديان الخصبة في المقاطعة الوسطى مكانًا لتزويد قوافلهم بالطعام الطازج قبل الرحلة الطويلة باتجاه الغرب. بيد أنه مع مرور الوقت، أصبحت كينيا نفسها محطّ أنظارهم. صحيح أن معظم الأراضي التي استولى عليها المستوطنون البريطانيون كانت ملكًا للبدو الرحل، لكن الذين قادوا تمرد الماو ماو المسلَّح في الخمسينيات من القرن الماضي، كانوا من الكيكويو.
وعلى الرغم من قيام البريطانيين بسحق تمرد الماو ماو، فإن الكيكويو فازوا في نهاية المطاف بالسلطة. عندما انسحبت بريطانيا في عام 1963م، كان كينياتا، الذي سُجن مرة كزعيم للماو ماو، هو الذي أصبح رئيسًا، وكانت الكيكويو في موقع الصدارة. كان الاقتراب من الإدارة الاستعمارية وانتشار المدارس التنصيرية في المقاطعة الوسطى يعني أن الكيكويو هم أفضل تعليمًا من غيرهم وأكثرهم مقدرة على الاستفادة من عوائد الاستقلال. علاوة على ذلك، لقد استمتعوا برعاية الرئيس المؤسّس. قال كينياتا للوزراء الذين لا ينتمون إلى كيكويو، واشتكوا إليه ذات مرة سياسة التمييز ضد قبائلهم: “إن قبيلتي تحصل على الحليب في الصباح، بينما تحصل عليه قبائلكم في فترة ما بعد الظهر”. ومع ذلك، بعد أحداث العنف عام 2007م وتطورات السياسة الكينية اللاحقة بات الجميع يتفق على أمر واحد: يجب ألا يكون هناك المزيد من رئاسات الكيكويو. لقد ثبت بالفعل أن ثمن هيمنة كيكويو أكبر مما يريد أيّ شخص دَفعه بما في ذلك الرئيس أوهورو كينياتا.
انتخابات أغسطس وتراجع الكيكويو:
عندما يتوجه الكينيون إلى صناديق الاقتراع في 9 أغسطس، ولأول مرة، نلاحظ أن الطبقة وليس القبيلة هي التي تهيمن على المنافسة. تواجه البلاد عبء ديون متزايد، وارتفاعًا في نسبة الضرائب، وتراجعًا في قيمة العملة الوطنية. كما أن القضية الرئيسية التي تؤثر على الناخبين هي الاقتصاد، الذي أصابه الوهن بسبب التضخم العالمي بعد جائحة كورونا التي أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية. لذلك سيكون الاقتصاد ساحة المعركة الرئيسية في المنافسة على الأصوات؛ حيث من المرجح أن يعلو حديث الطبقة على الولاء العرقي، وإن كان الأخير يظل متغيرًا حاسمًا.
بصفة عامة يوجد تحالفان عريضان في انتخابات أغسطس:
– تحالف أزيميو لا أوموجا، وهو مصطلح سياسي يعني الوحدة، بقيادة المرشح الرئاسي ورئيس الوزراء السابق رايلا أودينجا الذي يعتمد على مهاراته في بناء التحالفات السياسية. ويضم التحالف أكثر من 20 حزبًا سياسيًّا، بما في ذلك حزب الحركة الديمقراطية البرتقالية بزعامة أودينجا. ويحاكي تجمع أزيميو تحالف قوس قزح الوطني الذي أطاح بحزب الاتحاد الوطني الكيني الإفريقي من السلطة في عام 2002م، والذي ظل ممسكًا بزمام السلطة منذ استقلال كينيا عام 1963م. ويكتسب هذا التحالف أهمية كبيرة لعدة اعتبارات؛ منها: وجود وزيرة العدل السابقة مارثا كاروا مرشحة لمنصب نائب الرئيس على التذكرة الانتخابية للمرشح الرئاسي رايلا أودنجا. بالإضافة إلى النساء ونشطاء حقوق المرأة، تستهدف السيدة كاروا أيضًا منطقة جبل كينيا المركزية، والتي يُنظَر إليها على نطاق واسع على أنها معقل قبيلة الكيكويو، والتي تمثل كتلة انتخابية مؤثرة. وتعرف كاروا البالغة من العمر 64 عامًا، بمواقفها الصلبة الخاصة بمحاربة الفساد والدفاع عن المحكمة العليا في كينيا.
ومن جهة أخرى اجتذب تحالف أزيميو بعض الشخصيات السياسية ذات الثقل الكبير في كينيا، وكذلك كبار المهنيين الذين حققوا مكانة مرموقة على الصعيدين المحلي والدولي. إلى جانب رايلا، يُنظَر إلى أوهورو كينياتا، نجل أول رئيس لكينيا جومو كينياتا، على أنه الشخص الأقوى والأكثر نفوذًا في الائتلاف. ويعود الفضل إلى رئيس الدولة في التوسط في صفقة بين رايلا والزعيم السياسي كالونزو مسيوكا، والتي شهدت انضمام الأخير إلى أزيميو، ممَّا أدَّى إلى النيل من رواية روتو الشعبوية المناوئة، والتي تجتاح حاليًا منطقة جبل كينيا التي تشكل مركز ثقل انتخابي مهم.
تحالف كينيا كوانزا (أو كينيا أولاً) بقيادة نائب الرئيس ويليام روتو. ويركز التحالف على أهمية تنمية الاقتصاد الوطني؛ إذ يبلغ المعدل الرسمي للبطالة بين أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا ما يقرب من 40٪، ولا يخلق الاقتصاد وظائف كافية لاستيعاب 800 ألف شاب ينضمون إلى القوى العاملة كل عام. وكما فعل أودينجا اختار روتو رفيقه في منصب الرئيس من مجموعة الكيكويو – التي تمثل كما ذكرنا مركز ثقل انتخابي، وتهيمن أيضًا على الكثير من المشهد التجاري في البلاد، مع مصالح كبيرة وملكية للأراضي حول منطقة نيروبي الحضرية. يزعم روتو أنه سيفيد الفقراء الذين يتحملون وطأة أزمة تكلفة المعيشة التي تفاقمت في أعقاب جائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا.
الشعبوية الجديدة في كينيا:
صاغ نائب الرئيس ويليام روتو عبارة “الحرافيش مقابل البشاوات”، إذا استخدمنا مفردات أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ، وذلك بعد لحظة اضطراب سياسي شهدتها كينيا. من المعروف أن أوهورو كينياتا، الرئيس الحالي لكينيا، وافق من قبل على أنه سيدعم ترشيح روتو للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2022م كي تؤول الرئاسة إلى أحد أبناء الكالنجين. بيد أنه، في مارس 2018م، نكص كينياتا عهده عندما دعا منافسه السياسي السابق رايلا أودينجا إلى المكتب الرئاسي وبعد اجتماع خاص، أعلن الرجلان على الملأ شراكتهما الجديدة بعد واقعة “المصافحة” الشهيرة.
عندئذ بدأ روتو في تبنّي خطاب شعبويّ باعتباره من خارج المؤسسة السياسية التقليدية؛ حيث وصف خصومه بأنهم ينتمون إلى سلالات حاكمة (كينياتا وأدينجا وموي). الرئيس الحالي كينياتا هو نجل جومو كينياتا أول رئيس لكينيا. أما رايلا أودينجا فهو نجل النائب الأول لرئيس البلاد، جاراموجي أودينجا. وُلِدَ كل منهما وفي فمه ملعقة من ذهب، وذهبا للدراسة في الخارج بعد المدرسة الثانوية، كينياتا في الولايات المتحدة وأودينجا في ألمانيا. كما أن جدعون موي، نجل دانييل أراب موي، الذي يعد أكثر الرؤساء بقاء في السلطة في كينيا. وفي المقابل خلفية روتو المتواضعة معروفة جيدًا؛ حيث يتحدث دومًا عن كيفية ذهابه إلى المدرسة حافي القدمين، وحصوله على أول زوج من الأحذية عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، وعمل في شبابه ببيع الدجاج على قارعة الطريق.
في حين أن العرق كان هو الخط الفاصل السائد في السياسة الكينية، يجادل البعض بأن لغة جديدة من “الحرافيش مقابل الباشوات” تشير إلى ظهور سياسة أكثر طبقية. يقدم الدكتور روتو للغالبية العظمى من الكينيين (وهم بالتأكيد فقراء) شكلاً جديدًا من سياسات الهوية. إنه يدعو أنصاره إلى وضع مفاهيم التضامن القبلي الإقليمي واللغوي وراء ظهورهم، واعتناق ما يرقى إلى إطار نظري ماركسي جديد يمنحهم هوية جديدة على أنهم من “البؤساء في الأرض” الذين تعرضوا للخيانة وجشع الساسة. لكن روتو يستخدم مصطلح “الحرافيش”، بدلاً من “الفقراء”، حيث يوجد شكل جذاب من الوكالة في هوية الحرافيش الذين يجاهدون في سبيل الحصول على لقمة العيش.
وختامًا:
فإن تغليب حديث الطبقة والاقتصاد على لغة القبيلة والسلالة الحاكمة وبروز توجهات شعبوية جديدة في المشهد السياسي الكيني قد تؤدي إلى تراجع احتمالات العنف الانتخابي. بيد أن المؤشر الرئيسي للعنف -طبقًا لمعهد الدراسات الأمنية في بريتوريا- هو كيفية تصرف المحاكم والشرطة أثناء الانتخابات وبعدها. تم إلقاء اللوم على قوات الشرطة الكينية في ثلث الوفيات خلال انتخابات عام 2007م.
بَيْد أنَّ معدلات العنف في انتخابات 2013م و2017م تراجعت بشكل واضح، كما أشار أمر المحكمة العليا بإعادة انتخابات 2017م إلى تعزيز المؤسسات الديمقراطية الحيوية في كينيا. وعلى أية حال يبدو أن الكينيين أقل اهتمامًا بالانتخاب على أساس الهوية العرقية، وأكثر اهتمامًا بقدرتهم على الاختيار العقلاني الرشيد. وقد يجعل ذلك عملية التنبؤ بالفائز أمرًا صعب المنال.