شهدت العلاقات الألمانية الإفريقية تطورات مهمة في الشهور الأخيرة على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأمنية؛ وعلى سبيل المثال: التقت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركيل في أغسطس 2021م بعددٍ كبيرٍ من قادة الدول الإفريقية في برلين تحت لافتة “مؤتمر ميثاق مع إفريقيا” Compact with Africa Conference فيما عُدَّ نهايةً لمرحلة من الانخراط الألماني القوي نسبيًّا في شؤون القارة الإفريقية في سني حكم ميركل الأخيرة بأثر مهمّ وهو إطلاق مبادرة لتحفيز الشركات الألمانية على الاستثمار في إفريقيا عبر إرفادها بحزمة كاملة من إجراءات الدعم الحكومية.
وأحدثت المبادرة بالفعل اختراقًا مهمًّا في سياق تعزيز الدبلوماسية الألمانية في إفريقيا؛ حيث تعاظم وجود الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة في دول القارة (لا سيما في العامين 2018- 2019م وقبيل جائحة كوفيد-19 مباشرة)، ولُوحظ هذا التطور في ارتفاع الاستثمارات الألمانية بشكلٍ مذهل في قطاع الطاقة المتجددة في القارة([1]) لا سيما في جنوب إفريقيا ومصر.
وبعد تولّيه المنصب بنحو ستة أشهر، قام المستشار الألماني أولاف شولتز Olaf Schlz بجولة إفريقية (22-25 مايو الجاري) معبرةً عن مجمل اهتمامات ألمانيا بإفريقيا جنوب الصحراء؛ إذ شملت السنغال (الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي والشريك الجديد لدول مجموعة السبعة G7، وبما تمثله من أهمية اقتصادية وسياسية للاتحاد الأوروبي بشكل عام كدولة حليفة تقليديًّا لفرنسا والدول الغربية)، والنيجر (الشريك العسكري لألمانيا ودولة انتقال للمهاجرين في الطريق إلى أوروبا وإحدى المراكز الإفريقية المهمة في صنع سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه إفريقيا)، وجنوب إفريقيا أبرز شركاء ألمانيا التجاريين في إفريقيا([2])؛ الأمر الذي يبلور الاهتمامات الألمانية في قضايا الطاقة، ومواجهة الإرهاب، والحشد السياسي، ويؤشر، من بعيد، إلى تباين الأداء السياسي الألماني في إفريقيا عن السياسة التقليدية “بتقسيم العمل مع فرنسا” لا سيما في ملفي مواجهة الإرهاب وأمن الساحل الإفريقي.
ألمانيا والسنغال: البحث عن الغاز
بادر شولتز خلال بدء جولته الإفريقية في السنغال (22 مايو الجاري) بالتأكيد على سعي بلاده الحثيث للتوسُّع في مشروعات الغاز والطاقة المتجدِّدة مع السنغال على نحو يتَّسق مع جهود ألمانيا في خفض اعتمادها القوي على روسيا لتوفير احتياجاتها من الغاز عقب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وكانت برلين قد بدأت بالفعل محادثات مع السلطات السنغالية حول “استخراج الغاز والغاز الطبيعي المسال”. كما يزداد اهتمام ألمانيا بمشروعات الطاقة المتجددة السنغالية، فيما تعمل السنغال – حسب تصريحات الرئيس ماكي صال- على إمداد السوق الأوروبية بالغاز الطبيعي المسال مع توقُّع وصول إنتاج السنغال منه إلى 2.5 مليون طن بحلول العام 2023م، ثم إلى 10 ملايين طن بحلول العام 2030. وتولي ألمانيا أهمية كبيرة للسنغال (الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي) وجنوب إفريقيا؛ حيث دعتهما لحضور قمة G7 التي تستضيفها في يونيو المقبل([3]).
وهكذا فإن مُقدَّرات السنغال من موارد الطاقة تقدم “قيمة مضافة” لمكانة السنغال لدى ألمانيا والقوى الغربية بشكل عام؛ وقد كشفت ألمانيا بالفعل خلال زيارة شولتز لداكار عن خططها للعمل مع السنغال على تطوير حقل غاز بحري قبالة السواحل السنغالية ضمن مساعي ألمانيا تقليل التداعيات السلبية للحرب في أوكرانيا على وارداتها من الغاز، وفي مسار لا يمكن فصله عن خطة الاتحاد الأوروبي المعروفة باسم خطة REPowerEU التي تم تفصيلها قبل زيارة شولتز بنحو أسبوع واحد فقط، وتضمنت الخفض المتسارع لاعتماد الاتحاد على الوقود الروسي والمضي قدمًا نحو “الانتقال الأخضر” (الذي يشير متخصصون وناشطون بيئيون إلى أنه لا يعني بالضرورة أضرارًا بيئية أقل في مناطق إنتاج الغاز الطبيعي)، والاعتماد على السنغال في مجالي الطاقة المتجددة وتكنولوجيا التخزين([4]).
ألمانيا والنيجر: الحرب على الإرهاب
على نقيض السياسات الفرنسية في إقليم الساحل؛ تعهد المستشار الألماني شولتز خلال وجوده في النيجر، التي توجّه لها بعد زيارة السنغال، بتقديم دعم عسكري ومالي طويل الأجل لمحاربة الجماعات الإرهابية “في أرجاء غرب إفريقيا”، وعزّزت هذه التصريحات من احتمالات اضطلاع النيجر بدور أكبر في هذا الملف بعد استضافتها القوات الخاصة الأوروبية منذ تدهور العلاقات الأوروبية- المالية.
وزار “شولتز” خلال وجوده في النيجر قوة بلاده البالغة 180 جنديًّا من القوات الألمانية التي تعرف باسم Bundeswehr، وتقوم بتدريب القوات الخاصة النيجرية في معسكر في “تيليا” Tillia على بعد نحو 80 كم من الحدود مع مالي. وبينما كان من المقرر أن تنتهي مهمة القوات، التي بدأت في العام 2018م، خلال العام الجاري؛ يؤكد مسؤولون أن ألمانيا، التي توسّع تعاونها مع النيجر منذ العام 2015م لعاملين أساسيين؛ هما: تهديد الجماعات الإرهابية، ومرور الطرق التي يجتازها المهاجرون من غرب إفريقيا إلى أوروبا عبر النيجر، قد تُمدّد عمل Bundeswehr باعتبارها جزءًا من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، وصوت البوندستاج (20 مايو الجاري) لصالح رفع الحد الأقصى لعدد القوات الألمانية بهذه القوة من 1100 جندي إلى 14 ألف جندي عقب انسحاب فرنسا([5]).
ووصف “شولتز” بعثة Bundeswehr في النيجر بأنها ناجحة، وشكر التزام جنود بلاده “بالديمقراطية والحرية في النيجر”(في إشارة لا يمكن فصلها عن استمرار النظرة الاستعمارية أو على الأقل “الوصائية” لأي دور أوروبي في القارة الإفريقية)، ولمّح إلى أن البعثة قد أكملت مهمتها لكن (في تدارك أرجعه محللون لرغبة ألمانيا في طمأنة النيجر بشأن استمرارية البعثة ووضع مشروطية سياسية جديدة في العلاقات الألمانية النيجرية) “سيتم النظر في مشروع متابعة” a follow-up project، بينما أكد رئيس النيجر محمد بازوم بدوره ترحيبه بتوقع مد البعثة أو (إقرار) مشروع بديل، لا سيما أن ألمانيا قدّمت لبلاده تدريبًا فائق الجودة حظي “بتقدير بالغ من قبل قواتنا المسلحة”، وأنه رغم جدولة نهاية هذا التدريب في ديسمبر 2022م؛ “فإنني طلبت من المستشار الألماني أن ننظر معًا في كيفية تمديد هذه البعثة للحصول على أقصى فائدة منها”.
وبحسب مسؤولين عسكريين نيجريين فإن البعثة دربت بالفعل نحو 500 جندي من القوات الخاصة النيجرية على محاربة الإرهابيين المسلحين في الإقليم. ووصفت الحكومة الألمانية من جهتها النيجر بأنها “مربط الاستقرار” في إقليم الساحل([6]).
وتعتبر برلين النيجر أهم شريك لها في الوقت الحالي في مجال محاربة الإرهاب في إقليم الساحل لا سيما أن بازوم، “رئيس النيجر المنتخب ديمقراطيًّا”، ينتهج مسارًا “مواليًا للغرب”، ويتضح هذا التقارب، المحكوم مرحليًّا كما هو واضح بدور النيجر المرتقب أوروبيًّا في الساحل الإفريقي، فيما أيداه شولتز مما وصفته “دويتش فيله” بالوعي الكبير بالتحديات التي تواجه النيجر وبقية الدول الإفريقية بتأكيده أنه على المانيا “وجميع الدول ذات الماضي الاستعماري” أن تكون أمينة للغاية، وتقر بأن هذا الماضي جزء من تاريخها، وأنها “مسؤولة عن علاقات أفضل مع الدول الإفريقية”([7]).
شولتز في جنوب إفريقيا: تعميق التعاون التجاري
تحتل جنوب إفريقيا مكانة متقدمة في أبرز الاقتصادات الإفريقية؛ سواء من ناحية الناتج المحلي الإجمالي (الذي تجاوز 301 بليون دولار في العام 2020م، وحلت ثالثة بعد نيجيريا ومصر) أو تنوع القطاعات الإنتاجية الكبيرة (وتحتل مصر قمة هذا المؤشر إفريقيًّا في السنوات الأخيرة)، وجاءت جنوب إفريقيا في العام 2020م في المرتبة 38 عالميًّا من جهة حجم الناتج المحلي الإجمالي، وحلت الأولى عالميًّا في صادرات البلاتينيوم (بقيمة 11.9 بليون دولار)، وخام المنجنيز (2.99 بليون دولار)، وخام الكروم (1.56 بليون دولار)؛ بينما تمثلت قائمة أهم صادراتها حتى نوفمبر 2021م في الذهب (13 بليون دولار)، والبلاتينيوم (12 بليون دولار)، والفحم الحجري (6.37 بليون دولار)، والماس (4.75 بليون دولار)([8]).
وتحتلّ ألمانيا مرتبة ثاني أكبر الشركاء التجاريين مع جنوب إفريقيا (بينما لا تحل روسيا في هذه القائمة بشكل لافت) بحجم تبادل تجاري بلغ 7.2 بليون دولار بنسبة 8.01% من تجارة جنوب إفريقيا الخارجية) بعد الصين (9.6 بليون دولار بنسبة 10.73%)، وقبل الولايات المتحدة الأمريكية (6.3 بليون دولار بنسبة 7%)([9]).
وحضر موقف جنوب إفريقيا “المحايد” من الأزمة الروسية- الأوكرانية في أجندة قمة شولتز- رامافوسا؛ إضافةً إلى عزم جنوب إفريقيا على خفض اعتمادها على مصانع الطاقة التي تعمل بالفحم (مع ملاحظة أن ألمانيا ضمن قائمة الدول التي تعهَّدت مجتمعة بتقديم نحو 8.6 بليون دولار خلال مؤتمر COP26 للتغير المناخي المنعقد في العام الماضي لمساعدة جنوب إفريقيا على خفض اعتمادها على الفحم في توليد الكهرباء، بينما لم تصدر إعلانات رسمية عن مدفوعات فعلية لهذه المخصصات لجنوب إفريقيا)([10]).
وفي هذا السياق اتفقت شركة ساسول المحدودة Sasol Ltd وشركة هيلهولتز-زينتروم برلين Helmholtz-Zentrum Berlin (HZB) على بدء بحوث لتطوير إنتاج “وقود مستدام للطائرات” على مستويات تجارية. وفي حال نجاح المشروع، المتوقع أن يستغرق ثلاثة أعوام، فإنه سيساعد على تصنيع الكيروسين –أحد أشكال وقود الطائرات- من “مصادر متجددة”- حسب بيانات الشركتين- بحلول العام 2025([11]).
كما يعزز التقارب الألماني- الجنوب إفريقي فرص حصول شركة “ساسول” في مشروعها المهم في استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتصدير “الهيدروجين الأخضر” (الذي يمكن مزجه بالغاز الطبيعي لتدفئة المنازل) على دعم مباشر من الحكومة الألمانية([12]).
ألمانيا وإفريقيا: تراجع الوكيل الفرنسي؟
رغم التحالف الاستراتيجي الألماني- الفرنسي في إفريقيا ولعب فرنسا، كما كشفت نقاط مفصلية عدة لا سيما في الساحل الإفريقي، دور الوكيل الأوروبي والألماني فإن زيارة شولتز الأخيرة تضمنت أجندة موسعة للغاية مقارنةً بزيارة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل لأنجولا وجنوب إفريقيا في فبراير 2020م؛ كما لمست جولة شولتز ملفًّا كان حصريًّا تقريبًا على التحرك الفرنسي، وهو مكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي. وربما كان التراجع الفرنسي الكبير في إفريقيا في الآونة الأخيرة سببًا وجيهًا لانخراط ألماني أكبر في الملفات السابقة التي تمت الإشارة لها بقدر واضح من الاستقلالية عن “المظلة الفرنسية”، وتوقعات اتباع برلين سياسات طاقة منافسة بقوة لسياسات الشركات الفرنسية المنافسة (خاصة في جنوب إفريقيا) ودول جوارها.
____________________
الهوامش:
[1] Daniel Pelz, , German- Africa Summit: Chancellor Merkel’s goodbye and the end of an era, DW, August 27, 2021 https://www.dw.com/en/german-africa-summit-chancellor-merkels-goodbye-and-the-end-of-an-era/a-58991693
[2] Philipp Sandner, Diffcult trib to Africa for German Chancellor Olaf Schloz, DW, May 21, 2022 https://www.dw.com/en/difficult-mission-africa-german-chancellor-scholz/a-61888721
[3] Germany is keen to pursue gas projects with Senegal, says Scholz on first African tour, CNN. May 23, 2022 https://edition.cnn.com/2022/05/23/africa/olaf-scholz-african-tour-intl/index.html
[4] Nermina Kulovic, Germany striving to develop gas field with Senegal amid supply uncertainties, Offshore Energy, May 23, 2022 https://www.offshore-energy.biz/germany-striving-to-develop-gas-field-with-senegal-amid-supply-uncertainties/
[5] Andreas Rinke, In Niger, Scholz vows to support fight against Islamist militants, Reuters, May 23, 2022 https://www.reuters.com/article/uk-niger-germany/in-niger-scholz-vows-to-support-fight-against-islamist-militants-idUKKCN2N91OD
[6] Olaf Scholz Considers Extension of Bundeswehr Mission in Niger, All Arica, May 23, 2022 https://allafrica.com/stories/202205240023.html
[7] Martina Schwikowski and Michaela Küfner, German chancellor woos allies in Africa, DW, May 24, 2022 https://www.dw.com/en/german-chancellor-woos-allies-in-africa/a-61916364
[8] South Africa, OEC https://oec.world/en/profile/country/zaf
[9] South Africa Trade, World Integrated Trade Solution WITS https://wits.worldbank.org/CountrySnapshot/en/ZAF
[10] South Africa’s Ramaphosa discusses developments in Africa during a visit from Germany’s Scholz, African News, May 24, 2022 https://www.africanews.com/2022/05/24/south-africa-s-ramaphosa-discusses-developments-in-africa-during-a-visit-from-germany-s-sc/
[11] South Africa’s Sasol, Germany’s HZB to study sustainable jet fuel, Reuters, May 24, 2022 https://www.reuters.com/business/sustainable-business/safricas-sasol-germanys-hzb-study-sustainable-jet-fuel-2022-05-24/
[12] South Africa is planning for a massive green ‘gold rush’, BusinessTech, May 25, 2022 https://businesstech.co.za/news/energy/589844/south-africa-is-planning-for-a-massive-green-gold-rush/