أثارت السنغال مؤخرًا ضجة كبيرة بين روّاد الأعمال الأفارقة والمستثمرين الدوليين في المشاريع الرقمية والشركات الناشئة, وأصبح البعض ينظرون إلى البلاد كواجهة جديدة للاقتصاد الرقمي, الأمر الذي قد يلفت الأنظار عن بعض الدول التي تهيمن على الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المالية في القارة([1]).
وتصبّ التقارير الأخيرة الإقليمية والدولية في صالح السنغال؛ إذ احتلت السنغال في عام 2017م المرتبة الأولى في إفريقيا من حيث ثقل الإنترنت في الاقتصاد (I-PIB)، والذي تُوُقِّع له آنذاك أن يصل إلى 3.3 في المئة؛ بسبب متانة الاتصال الدولي وقوة شبكة النقل المحلية التي تتمتع بها البلاد، إضافة إلى مشاريع القطاع الخاص وشركات الدفع عبر الإنترنت والبنوك الدولية داخل السنغال([2]).
جهود الرقمنة في السنغال:
لا شكّ أن الاستقرار السياسي والأمني النسبي عامل أساسي في رغبة المستثمرين للدخول في السوق الرقمي في السنغال. ولكنَّ الحافز الأساسي في الاندفاع الأخير هو أن هذه الدولة الواقعة غرب إفريقيا تملك بنية تحتية قوية للاتصالات السلكية واللاسلكية, وكابلات الاتصالات التي تمر تحت البحر، بالإضافة إلى علاقات دولية جيدة مكّنتْها من توسيع نطاق أليافها الأرضية([3]).
وقد كانت السنغال من الدول الإفريقية القليلة التي صادقت على “اتفاقية مالابو” التي اعتمدها الاتحاد الإفريقي في عام 2014م حول الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية، وذلك بهدف توفير إطار تنظيمي لتنظيم جمع ومعالجة البيانات الشخصية عبر الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي([4]). جدير بالذكر أن السنغال تُعدّ ثاني أكبر اقتصاد في غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية بعد ساحل العاج.
وفي نهاية عام 2014م ساهم قطاع البريد والاتصالات بالسنغال في إجمالي الناتج المحلي بنسبة 6.28 في المائة من حيث القيمة (أو 10.4 في المائة من حيث الحجم)، وهي ما تعادل 475 مليار فرنك إفريقي من حيث القيمة. وفي عام 2017م كان أكثر من 58 بالمائة من السنغاليين متصلين بالإنترنت([5]).
وفي حين تعزز الأرقام السابقة مختلف التقارير الحكومية الحديثة؛ فقد وضعت الحكومة السنغالية خطة اقتصادية لتحديث قطاعات الصناعة من خلال استغلال التطورات التكنولوجية والرقمية لتقديم محركات ومصادر تطوير جديدة للأطراف المعنية، مع استهداف زيادة مساهمة القطاع الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 10 في المئة بحلول عام 2025، ولذلك احتلّ نمو الصناعة الرقمية جزءًا كبيرًا من خطة السنغال الرقمية.
وقد أشار تقرير إلى أن التكلفة الإجمالية لمعظم التغييرات والمشاريع الرقمية التي استهدفتها السنغال بين عامي 2016 و2025م بلغت أكثر من 1,300 مليار فرنك إفريقي, مع توقّع تمويل 73 في المئة منها من قبل القطاع الخاص، و17 في المئة من القطاع العام، و10 في المئة من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص([6]).
وعلى النطاق ذاته؛ دَعَم بنك التنمية الإفريقي دولةَ السنغال في عام 2016م بهدف تنفيذ مشروع مجمّع التكنولوجيا الرقمية (Senegal Digital Technology Park) في مدينة “ديامينياديو” على بعد 35 كيلومترًا من ضواحي داكار. ويمتد المشروع على مساحة 25 هكتارًا, كما يتوقع تكملته في عام 2022م. وبحسب تقرير عام 2015م يهدف المشروع إلى إنشاء أسس متينة لتكنولوجيا المعلومات التي تسمح للسنغال بالاستفادة من استثمارات الشبكة السابقة مع تحديث وتنويع اقتصاد البلاد. وتشمل استثمارات الحكومة في المجمع التكنولوجي مركزَ البيانات ومرافق الاستعانة بمصادر خارجية لعمليات الأعمال، وحاضنة أعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومكاتب التدريب والأبحاث ومراكز إنتاج الصوت والمحتوى([7]).
جدير بالذكر أن مؤسسة ماستركارد (Mastercard Foundation) أطلقت في عام 2019م مبادرة “Young Africa Works” في السنغال بهدف تزويد ثلاثة ملايين شاب سنغالي بفرص أعمال مجزية عن بُعد بحلول عام 2030م. وقدمت المؤسسة مساهمة أولية قدرها 200 مليون دولار أمريكي لمدة خمس سنوات تستهدف بها تطوير الشركات الصغيرة، وتعزيز إنتاجية سلسلة القيمة الزراعية والتعليم والتدريب. وقد تعاونت الحكومة السنغالية مع ماستركارد لتنفيذ المبادرة التي تنعكس في الخطة الوطنية السنغالية لتعزيز تسريع تحقيق طموح البلاد بحلول عام 2035([8]).
الفرص التي توفرها الرقمنة في السنغال:
يوفر الاقتصاد الرقمي وعملية الرقمنة بشكل عام فرصًا كبيرة للسنغال رغم التحديات الحالية. وقد صدرت دراسات مختلفة ركّزت على اتجاهات الوظائف للتبنّي التكنولوجي بالسنغال, وكيف يمكن للابتكارات الرقمية والشركات الناشئة أن تلبّي احتياجات الصناعات المختلفة مثل التعليم والزراعة والمنسوجات والملابس والسياحة اعتمادًا على واقع وتوقعات الشباب السنغالي وتجاربهم واستعدادهم لاغتنام الفرص المتاحة تكنولوجيًّا.
وقد كشف “جيريمي جراي” وآخرون في دراستهم أنه من الفرص التي يوفرها الاقتصاد الرقمي للمستثمرين وأصحاب المشاريع في السنغال وجود فجوة في تكييف ممارسات الأعمال المحلية مع الأجواء الرقمية؛ إذ المراهقون السنغاليون غالبًا ما يربطون عملية الرقمنة بوسائل التواصل الاجتماعي، ويعتبرونها وسيلة للمشاركة المجتمعية وتسويق وبيع بضاعتهم. وهذا يعني أن أي عملية للرقمنة تتطلب من المسؤولين والفاعلين السنغاليين تحسين الوعي العام بأن عملية الرقمنة ليست مجرد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. كما تتطلب السنغال مبادرات لتنفيذ الابتكار الرقمي القابل للتطبيق واستخدام الأدوات الرقمية المناسبة في سلاسل القيمة المختلفة لزيادة الكفاءة والإنتاجية عبر الصناعات([9]).
وبحسب الدراسة السابقة, توجد فرصة أخرى في خلق الكفاءة للخدمات اللوجستية والتنسيق لدعم سلاسل القيمة الرقمية؛ وذلك لأن الخبرات من الدول الإفريقية الأخرى مثل نيجيريا وكينيا وغانا تؤشّر على أن القدرة على التنسيق والتواصل وتتبع المنتجات والمركبات في الوقت الفعلي تفتح آفاقًا مهمة لزيادة الكفاءة في قطاع الخدمات اللوجستية. كما يعني تحسين اللوجستيات أن الإنتاج قد يصل إلى المستخدمين النهائيين بسرعة وفعالية أكبر, ويقلل من الحاجة إلى التخزين المكلف والمحدود. وكل هذا سيؤثر في خفض الخسائر وتعزيز الإنتاج عبر مجموعة من القطاعات المؤثرة اقتصاديًّا([10]).
يضاف إلى ما سبق أن هناك فجوة في السنغال من حيث تطبيق التكنولوجيا الرقمية لتحسين ممارسات الإنتاج، وخاصة في قطاع الزراعة, وبالتالي يمكن للتكنولوجيا الرقمية زيادة إنتاج المنتجات الزراعية والكفاءة الصناعية من خلال مراقبة المزارعين لمحاصيلهم وتجنّب سوء استخدام المدخلات وتعزيز كفاءة المحاصيل.
تحديات الرقمنة السنغالية:
في عام 2021م أشار وزير الاقتصاد الرقمي والاتصالات السنغالي “يانخوبا دياتارا”، إلى أن “معدل انتشار الإنترنت في إفريقيا يبلغ 39.8 في المائة، لكن 30 في المائة من سكان القارة يعيشون في منطقة اتصال دون الوصول إليها. ويرجع ذلك في الغالب إلى التكلفة الباهظة. ونتيجة لذلك نشعر بأن الاتصال بالإنترنت يجب أن يكون أيضًا غير مكلف”. وأضاف الوزير السنغالي أنه “إذا فزنا بهذا التحدي ستكون إفريقيا متصلة بنسبة 70 في المئة. وإلى جانب جودة البنية التحتية، يجب أن يؤخذ في الاعتبار توافر الوصول لجميع طبقات المجتمعات الإفريقية”([11]).
وفي حالة السنغال؛ تكمن أكبر التحديات للاقتصاد الرقمي وعمليات الرقمنة في نقص الفرص للمطورين السنغاليين داخل دولتهم، واضطرار بعضهم إلى البحث عن العمل أو المشاركة في المشاريع التكنولوجية في الخارج رغم نمو عدد المطورين داخل السنغال بنسبة أسرع من أي دولة أخرى في القارة.
يضاف إلى ما سبق أنه لا يزال هناك ضعف في تنوّع المشاريع والشركات الناشئة من حيث القطاعات والمجالات التي تركز عليها هذه المشاريع. ويؤكد على هذه النقطة حقيقة أن إفريقيا أنتجت في عام 2021م خمس شركات أحادية القرن (أي الشركة التي بلغت قيمتها السوقية مليار دولار أو أكثر), لتبلغ عدد الشركات الناشئة أحادية القرن في إفريقيا ثمانية, وهي Flutterwave و Andela و OPay و Chipper Cash وWave إلى Jumia وInterswitch وFawry. ومع ذلك كانت Wave الشركة الوحيدة بين جميع هذه الشركات, وهي من دولة أنجلوفونية تقدم خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول، وتتخذ السنغال مقرًّا لها, كما جمعت 200 مليون دولار في سبتمبر 2021م من مستثمرين معظمهم أمريكيون([12]).
هذا, ويحتاج أصحاب الشركات الناشئة في السنغال إلى تغيير عملياتها وضمان قدرتها على جذب المستهلكين العالميين والتفاعل معهم بنجاح عبر القنوات والمنصات عبر الإنترنت بعيدًا عن الاعتماد المفرط على مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وانستغرام وتويتر. وسيعني الفشل في التكيف مع متطلبات المستهلكين الجديدة أن الشركات السنغالية غير قادرة على المنافسة لاستقطاب العملاء من جميع أنحاء القارة والعالم؛ مما يؤثر في إيرادات ووضع الشركات المحلية.
وقد ذكرت تصريحات أصحاب المشاريع الناشئة في السنغال أن الحاجة تشتد إلى جعل التعليم في السنغال مركّزًا بعناية لتنمية المهارات التكنولوجية لتمكين رقمنة القطاعات الرئيسية. وبحسب دراسة “جيريمي جراي” وزملائه تواجه السنغال حاليًا عدم تطابق كبير في المهارات؛ حيث تكافح قطاعات النمو الرئيسية للعثور على موظفين يتمتعون بالمهارات التي يحتاجون إليها رغم ارتفاع مستوى بطالة الخريجين ونقص العمالة.
خارج السنغال:
على مدى العقد الماضي، تركز الاهتمامات العالمية والاستثمارات في الشركات الناشئة الإفريقية على البلدان الأنغلوفونية. ويعكس هذا الواقع الإحصاءات السنوية حول الاستثمار في الشركات الناشئة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي تقدم نيجيريا وجنوب إفريقيا وغانا وكينيا في المقدمة.
على أن هناك دولاً أخرى تتقدم بسرعة منذ السنتين الماضيتين في مجال الاقتصاد الرقمي, ومن بينها إثيوبيا التي أطلقت سلسلة سياسات اقتصادية لفتح بعض أسواقها أمام المستثمرين الإقليميين والدوليين لتحقيق هدفها المتمثل في أن تحتلّ البلاد مكانة استراتيجية في القطاع الرقمي بإفريقيا, وأن تصبح المركز الرقمي لإفريقيا في الزراعة والسياحة والصناعة.
وأخيرًا, توجد الكثير من أوراق عمل ودراسات ومؤتمرات حول الرقمنة في إفريقيا, والمتفق عليه في جميع هذه الأوراق أن إفريقيا بينما تسعى بخطى ثابتة نحو الرقمنة؛ عليها ألا تتجاهل أهمية تعزيز سيادتها وإيجاد التوازن بين تحقيق رغباتها التنموية والتزاماتها السياسية المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة, كما أن التطورات والتحولات السياسية الأخيرة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي تؤكّد على أنه يجب أن تكون الحوكمة في قلب التقدم الاجتماعي والاقتصادي لجميع الدول الإفريقية.
[1] – Kévin Poireault (2022). “Is Senegal the new El Dorado for African developers?”, Africa Report: https://www.theafricareport.com/197951/is-senegal-the-new-el-dorado-for-african-developers/
[2] – Fatou Kamara (2017). “Digitalization of the Senegal Economy”. SAMENA Council: https://www.samenacouncil.org/thought-leadership-read?id=111
[3] – المصدر السابق.
[4] – List Of Countries Which Have Signed, Ratified/Acceded To The African Union Convention On Cyber Security And Personal Data Protection: https://au.int/en/treaty-category-tags/treaties-education-science-technology
[5] – Presidence Senegal (2017). Digital in Senegal: key figures: https://www.presidence.sn/en/newsroom/digital-in-senegal-key-figures_1136
[6] – المصدر السابق:
Fatou Kamara (2017). “Digitalization of the Senegal Economy”.
[7] – African Development Bank (2015). “Senegal Digital Technology Park”. Appraisal Report: https://projectsportal.afdb.org/dataportal/VProject/show/P-SN-G00-001
[8] – Mastercard Foundation (2019). “Mastercard Foundation to Enable Three Million Youth to Access Employment Opportunities in Senegal”, https://mastercardfdn.org/mastercard-foundation-to-enable-three-million-youth-to-access-employment-opportunities-in-senegal/
[9] – Jeremy Gray et al. (2021). “Unlocking the digital economy in Senegal”. Cenfri: https://cenfri.org/publications/unlocking-the-digital-economy-in-senegal/
– [10] ا لمصدر السابق.
[11] – 1st Edition of the Africa Digital Economy Forum: the Digital Economy at the Heart of the Challenges of a Changing Africa: https://www.businesswire.com/news/home/20211213005382/en/1st-Edition-of-the-Africa-Digital-Economy-Forum-the-Digital-Economy-at-the-Heart-of-the-Challenges-of-a-Changing-Africa
[12] – Michael Ajifowoke (2021). “Venture funding in Senegal remains muted despite Wave’s $200m buzz”. Techcabal: https://techcabal.com/2021/12/24/venture-funding-in-senegal/