يقولون: “مَن يسبح ضد التيار يجعل التمساح يضحك”. ربما يجسّد ذلك القول الوضع المعقّد الذي تواجهه فرنسا في إفريقيا؛ حيث برزت قوى دولية أخرى تنافس فرنسا على السيطرة والنفوذ، في نفس الوقت الذي لا تزال فيه باريس تتمسك برؤية عفا عليها الزمن فيما يتعلق بسياستها الإفريقية.
وعلى الرغم من أن فرنسا لا تزال الدولة الغربية الوحيدة التي لها وجود عسكري كبير في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، إلا أن علاقتها بمستعمراتها الإفريقية السابقة تزداد توترًا منذ عدة سنوات. وقد أدَّى ذلك إلى زيادة واضحة في المشاعر المعادية للفرنسيين؛ كما تُبرزها الحركات الشعبية والاجتماعية المناهضة للوجود الفرنسي في مالي والنيجر وتشاد، وإلى حدّ ما في السنغال.
عندما بدأت عملية سيرفال في عام 2013م لطرد الجماعات الإرهابية العنيفة، التي كانت تحتل جميع المراكز الحضرية الرئيسية في شمال مالي، كان يُعتَقَد أنها ستكون مشكلة سيتمّ حلها بسرعة. لقد طارد الفرنسيون زعماء هذه الحركات الإرهابية، بَيْدَ أنَّه لم يتم القضاء عليهم بالكامل.
لقد مضت نحو تسع سنوات والمشكلة تزداد سوءًا، وهو ما أفضى إلى حالة من الغضب الشعبي في تلك الدول. وفي ظل بروز قوى أخرى فاعلة في غرب إفريقيا مثل: الصين وروسيا وحتى ألمانيا وبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي بدأ التساؤل حول عالم ما بعد فرنسا في إفريقيا؟ ما هي ملامحه؟ وأبرز تبعاته؟ وما الذي حدث خطأ؟
وهذا ما يحاول هذا المقال استكشاف بعض أسباب وخصائص عالم ما بعد فرنسا في إفريقيا. يمكن الحديث عن خمسة متغيرات كبرى.
أولًا: معضلة شبكة “فرانس أفريك”:
عندما أراد شارل ديجول الحفاظ على الوجود الفرنسي في المستعمرات السابقة حتى بعد الاستقلال استدعى صديقه جاك فوكار الذي تولَّى منصب كبير مستشاري الحكومة الفرنسية فيما يخص السياسة الإفريقية، وكلَّفه بتلك المهمة، أي رسم الجزء الأهم من علاقات باريس بإفريقيا إلى اليوم. من ذلك التاريخ أصبحت شبكة “فرانس أفريك” هي التي تحدد ملامح السياسات الاستعمارية النيوكلونيالية من أجل الدفاع عن “الفناء الخلفي” الإفريقي، والذي ظل أولوية تخطيطية أساسية لكل الحكومات الفرنسية.
ولكن هل ما زالت فرنسا تتبع نفس السياسة الإفريقية التي أرسى دعائمها فوكارت؟ على مدار عشرين عامًا، وبسبب الرغبة في الخروج من نظام فرانس أفريك“ بأي ثمن، كانت هذه الشبكة المعقدة من المصالح المتبادلة الغامضة التي تصوّرها وقادها جاك فوكارت تستعصي على الخروج من مفردات الوعي الاستراتيجي الفرنسي، على الرغم من أن باريس فقدت نفوذها إلى حد كبير في القارة.
لقد بدأت الصين وروسيا وغيرهما من الفاعلين الدوليين الجدد في الحصول على مواقع استراتيجية في مجالات الطاقة والنقل والخدمات اللوجستية أو حتى التكنولوجيا والأسلحة، التي كانت في يوم من الأيام حكرًا على الشركات الفرنسية. رحَّب الكثيرون، باسم “العالم الجديد” الذي ظهر منذ ثلاثين عامًا، بنهاية نظام فرانس أفريك حتى إن الرئيس إيمانويل ماكرون أعطى صيغة جديدة للقمة الفرنسية الإفريقية عام 2018م ليعبّر عن شكل عصري جديد للرابطة مع إفريقيا. لكن مع ذلك فإن ذهنية “جاك فوكارت” لم تختفِ تمامًا. في مناسبات متعددة لا تزال فرنسا تتورط في شبكات المحسوبية والفساد في القارة، والتي قام بها في الغالب الورثة المفترضون لفوكارت. بَيْد أنَّ الجديد في الأمر هو عدم الاهتمام المتزايد من جانب النخب الإفريقية بفرنسا حيث رفع العديد منهم شعار التوجه شرقًا.
ثمة خطاب فرنسي يتَّسم بالازدواجية، ففي الوقت الذي يتبنَّى فيه الرئيس ماكرون خطابًا رسميًّا يدعو إلى إعادة التوازن في العلاقات والشفافية وشراكة الكسب المشترك، فإن الواقع والممارسة يؤكد استمرار الممارسات القديمة، والسلوك المتعجرف في بعض الأحيان. لقد صُدِمَ الأفارقة، على وجه الخصوص، بالرغبة في نقل صناعات معينة إلى فرنسا، مع استنزاف مواهب إفريقيا من خلال خطط الهجرة الاقتصادية إلى باريس. كل ذلك في ظل طموحات الشركات الفرنسية لمواصلة بيع المنتجات المصنَّعة ذات القيمة المضافة العالية، بدءًا من الرادارات إلى القطارات ومرورا بالطائرات والقوارب.
ثانيًا: تراجع الدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية
في عام 2018م، لم تمثل إفريقيا سوى 2.4٪ من التجارة الخارجية الفرنسية مقارنةً بـنسبة 35٪ بعد الاستقلال. والمثير للتأمل أن ألمانيا أصبحت أول دولة أوروبية مصدّرة إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يعني بروزها كمنافس قوي لفرنسا في فضائها الإقليمي السابق. وذلك على الرغم من اعتماد الرؤساء الفرنسيين منذ ساركوزي على القطاع الخاص لإعادة الاعتبار لديناميكيات العلاقة الفرنسية الإفريقية. وعلى سبيل المثال روّج فرانسوا هولاند لما أطلق عليه “الدبلوماسية الاقتصادية”، ولكنها كانت دون الطموحات المرجوة. في الفترة من 2016م إلى 2020م، انخفض حجم التجارة مع إفريقيا الناطقة بالفرنسية (-4٪ في بنين من 218 مليون يورو إلى 183 مليون يورو، – 8٪ في غينيا من 275 مليون يورو إلى 253 مليون يورو و- 9٪ في توغو انخفضت من 306 ملايين يورو إلى 206 ملايين يورو).
في عام 2018م استولت السلطات الغابونية على مقر شركة فيوليا المملوكة بنسبة 51٪ للشركة الفرنسية، وألغت امتيازها في نزاع حول جودة الخدمة. في قلب الخلاف تكمن مزاعم حكومة الرئيس علي بونغو أونديمبا بأن شركة فيوليا قدّمت خدمات سيئة، ولم تنفق ما كان من المفترض أن تنفقه على الاستثمار في البنية التحتية وصيانتها.
اشتكى سكان مدن الجابون الرئيسية -بما في ذلك ليبرفيل وبورت جنتيل وفرانسفيل- بانتظام من انقطاع المياه على مدى عدة سنوات. يوضح هذا المثال وحده مسار فرنسا التي شهدت رحيل إحدى مراكزها الصناعية الرائدة من الجابون، والتي كانت ذات يوم منطقتها المفضلة. لقد تغيّر الزمن، والجهات الفاعلة، والأولويات الإفريقية تغيّرت أيضًا. لقد تحوّلت فرنسا إلى مناطق جاذبة في إفريقيا الناطقة بالإنجليزية وإن كان وزنها لا يزال هامشيًّا. ويبدو أن فرنسا تمكّنت فقط من الحفاظ على وجودها المالي في بلدان “منطقة الفرنك”، ولو إلى حين بعد تنامي الدعوات الشعبية للخروج من هذه النظام وتطبيق العملة الموحدة في غرب إفريقيا عام 2027م.
ثالثا: إعادة التشكيل الجيوسياسي لإفريقيا
لقد دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، وتصاعد المدّ الإرهابي في المنطقة، عددًا من الدول الإفريقية إلى إعادة التركيز على جداول أعمالها المحلية والتحول إلى شركاء خارجيين قادرين على تزويدها “باستجابات عملية لمشاكل عاجلة وملحة”.
جسَّد ذلك بوضوح ظهور خطاب شعبوي جديد في المنطقة مناهض لفرنسا ومؤيد للوجود الروسي كما تعكسه خبرة دولة مالي. وهنا يتم تصوير الزعماء العسكريين باعتبارهم حماة ومدافعين عن استقلال وسيادة الأمة في وجه الخطاب الاستعلائي الفرنسي.
من جهة أخرى؛ طبقًا لبعض الكُتّاب حدثت تصدعات في مناطق الفرنكفونية السابقة. ففي المنطقة المغاربية، اشتد التنافس والعداء المزمن بين الجزائر والمغرب في السنوات الأخيرة، ممّا أدَّى إلى حدوث صدع إضافي على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. بالتركيز على الخدمات والصناعة -لا سيما السيارات- يحلم المغرب بأن يكون “قوة صاعدة جديدة”، معتمدًا على استقراره المؤسسي والاقتصادي الكلي. أما الجزائر فإنها تحاول من خلال الاعتماد على احتياطياتها الهائلة من الغاز والنفط التأثير على ميزان الطاقة في جنوب أوروبا، وذلك على خلفية الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا.
رابعًا: الحرب الأوكرانية وتحوُّلات النظام الدولي
لم تشكل الحرب في أوكرانيا إعادة مفاهيم الحرب واللاجئين إلى ساحة أوروبا فحسب، وإنما أدت إلى وجود نقطة تاريخية فاصلة في النظام الدولي. لقد تم تغيير بنود ومضمون أجندة الأعمال الدولية تغييرًا جذريًا، وذلك لصالح ما يمكن أن نطلق عليه المجهود الحربي للفرقاء.
ليس هناك مجال للمبادرات التنموية مثل مبادرة الأصفار الثلاثة (التهميش بنسبة صفر والفقر بنسبة صفر والتلوث بنسبة صفر)، أي وجود عالم خالٍ من الأنواء الثلاثة، وهي: عدم العدالة، الفقر، والتلوث. لقد بدت ملامح الصدام واضحة بين كتلتين من الشرق والغرب. بيد أن اللافت للانتباه أنه في معركة الإرادات الهائلة هذه بين أمريكا وروسيا مع وجود الصين في وضع المراقب؛ قرّرت إفريقيا، بأغلبية كبيرة، عدم اختيار أي طرف، كما يتضح من اتجاهات تصويت دولها في الأمم المتحدة.
لقد أصبحت روسيا على مرّ السنين، قوةً لا يُستهان بها في إفريقيا. على سبيل المثال، رحَّب أبناء دولة مالي بالتدخل العسكري الفرنسي كما بينا في البداية عام 2013م ضد الإرهابيين المتطرفين لاستعادة القانون والنظام في بلادهم. ومع ذلك، مع انسحاب القوات الفرنسية من مالي، حلَّت روسيا محل فرنسا في مالي كمزوّد أمني من خلال مجموعة فاغنر. وقد عززت حرب أوكرانيا أيضًا القلق الفرنسي والأوروبي من نفوذ روسيا المتزايد في منطقة الساحل، على وجه الخصوص، وإفريقيا بشكل عام. في الواقع، بعد القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت في أكتوبر 2019م في سوتشي وحضرتها جميع الدول الإفريقية البالغ عددها 54 دولة، سارعت روسيا في توسيع أنشطتها الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية والعسكرية في إفريقيا.
خامسًا: عسكرة السياسة الفرنسية
تمارس فرنسا منذ الاستقلال الزائف الممنوح لمستعمراتها السابقة في عام 1960م ما يمكن تسميته بالخداع التاريخي. في نظر الجماهير الإفريقية، ولا سيما الشباب منهم، لم يَعد يتم التعبير عن القوة الفرنسية إلا من خلال المنظور العسكري منذ الاستقلال، قامت فرنسا بأكثر من 70 عملية عسكرية في إفريقيا. إنها القوة الاستعمارية السابقة الوحيدة التي تتعامل مع القارة الإفريقية من خلال قواعد عسكرية تم وضعها مسبقًا.
علاوة على ذلك، هناك اتفاقيات تعاون مع الجيوش الإفريقية لا تخضع للمساءلة أو الشفافية. هذه العسكرة خلقت في منطقة اللاوعي الإفريقي الجماعي، رفضًا لفرنسا وطريقة عملها. وتعكس كارثة التدخل الفرنسي في منطقة الساحل المأزق الذي تجد فرنسا نفسها فيه. بعد عقد من الاشتباكات العسكرية في الميدان، تقترب عملية برخان من نهايتها في مالي، وسط موجات من السخط الجماهيري سواء في مالي أو لدى الناخبين الفرنسيين. على المستوى الجيوسياسي، تركت العديد من التدخلات الفرنسية مثل الاعتقال المهين للرئيس الإيفواري لوران غباغبو (2011م)، أو سقوط العقيد القذافي (2011م)، آثارًا لا تُمْحَى في أذهان الأفارقة.
خاتمة:
لا يمكن إنكار الدور الذي قامت به فرنسا من خلال شبكة “فرانس أفريك” في دعم الحكم الاستبدادي بعد الاستقلال الذي سيطر على إفريقيا الناطقة بالفرنسية بعد الخمسينيات من القرن الماضي. لكن كيف نُفسّر نفس الظاهرة في إفريقيا الأنجلوفونية، وظهور زعماء أمثال موجابي في زيمبابوي. وعلى أيّ حال؛ فالتحليل الواقعي لتطور العلاقات الفرنسية الإفريقية يُظْهِر أن مفهوم “فرانس أفريك” لم يَعُدْ يُعبِّر عن جوهر العلاقات الفرنسية الإفريقية المعاصرة.
لم تَعُد فرنسا تلعب الدور المركزي الذي كانت تُؤديه ذات مرة في معظم الأنظمة السياسية الإفريقية الناطقة بالفرنسية. ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى شباب القارة وتغيرات الأجيال بين أفراد النخب الإفريقية. كانت الأهمية الاقتصادية لإفريقيا بالنسبة لفرنسا -التي تضاءلت بالفعل منذ وقت الاستعمار- تتناقص باطراد بسبب توجُّه الاقتصاد الفرنسي نحو الخدمات بدلًا من إنتاج منتجات ثانوية منخفضة التكلفة. وتشكل الأخيرة الجزء الأكبر من الواردات الإفريقية من الصين، على سبيل المثال.
من جهة أخرى؛ فإن استمرار التأثير اليساري الجديد في السبعينيات في تشكيل تفكير العديد من المثقفين الأفارقة قد أدَّى إلى خَلْق نُخَب مثقفة إفريقية معادية للنموذج الإمبريالي الفرنسي المفروض على إفريقيا منذ عهد ديجول. وعلى سبيل المثال فإن أفكار مدرسة التبعية وكتابات سمير أمين عن التطور اللامتكافئ، ترى أن البلدان الإفريقية تهيمن عليها قوى عالمية مثل فرنسا، التي تدعم الحكومات العميلة والتابعة. ومع ذلك فإن مرحلة مابعد التبعية –إن جاز التعبير- التي صاحبت تطورات النظام الدولي وتوجهه نحو القطبية المتعددة أكسبت الأنظمة السياسية الفرنكوفونية منطقها الخاص وتاريخيتها، ونأى بعض رؤساء الدول بأنفسهم عن فرنسا.
في الحقيقة إننا نعيش لحظة تاريخية فارقة تشهد نهاية الزمن الفرنسي الذي سطَّر ملامحه جاك فوكارت.