انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بتقدُّم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون السباق بفوز صعب بنسبة 27.8% من الناخبين، تلته مرشحة اليمين مارين لوبان (23.1%)، ثم المرشح اليساري جان لوك ميلنشون (22%).
وبينما اعلن فوز ماكرون في نتائج الجولة الثانية فإنه كان لافتًا في المناظرة الأخيرة بين المرشحين الرئيسيين ماكرون ولوبان (20 أبريل الجاري) تراجع الشأن الإفريقي بشكل واضح في هذا السِّجال، وانحساره في عددٍ محدودٍ من القضايا غلَب عليها التعاون العسكري مع دول القارة؛ الأمر الذي عزَّز توقُّعات استمرار المقاربة الفرنسية التقليدية لإفريقيا باعتبارها منطقة نفوذ، أكثر من الأخذ في الاعتبار مصالح الدول الإفريقية والتهديدات الحقيقية التي تُحيط بها.
وعلى سبيل المثال: فقد تعهَّد ماكرون بإقامة “اتحاد فرانكفوني” دون تقديم أية تفاصيل توضّح طبيعة هذا الاتحاد وأهدافه وديناميات عمله، إضافةً إلى “إصلاح راديكالي في سياسات الهجرة الفرنسية”([1]). يُضاف إلى ذلك حقيقة إجماع مرشحي الرئاسة الفرنسية خلال حملاتهم، باستثناء ميلنشون المرشح عن “فرنسا الأبية” La France Insoumise، على ضرورة استمرار الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، وأن عدم تحقُّق ذلك يعني مزيدًا من تراجع النفوذ الفرنسي عالميًّا([2]).
وربما كانت الإشارة الأبرز إلى ملفات غير الجانب العسكري والأمني تتمثل في إشارة ماكرون للعمل –حال انتخابه- على تطبيقه خريطة طريق قمة أوروبا-إفريقيا الأخيرة التي عُقدت عقب منتصف فبراير الفائت عقب اختتام الاتحاد الإفريقي قمته السنوية، في دلالة مهمة على التوقيت والارتباط الأوروبي-الإفريقي.
ويمكن تلمُّس أهم الملفات الإفريقية أمام الرئيس الفرنسي القادم على النحو التالي:
الوجود العسكري والأمني:
رغم تبدلات خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخصوص القضايا الإفريقية في الشهور الأخيرة؛ من جهة ضرورة وضع قضايا الإرهاب والعنف المسلح في سياقاتها المجتمعية، وضرورة تبني مقاربات شاملة لمثل هذه القضايا، وتغليب الجهود التنموية والحكم الرشيد في قائمة أدوات المواجهة؛ فإنه لا يُتوقع أن تغيّر باريس مقاربتها الأمنية بالأساس والاكتفاء بإعادة تدوير هذه المقاربة وفق متطلبات المرحلة المقبلة.
وكانت فرنسا وحلفاؤها الأوروبيون قد أعلنوا في 17 فبراير الفائت أنهم سيبدؤون في سحب قواتهم من مالي بعد نحو تسعة أعوام من مواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة.
وجاءت الخطوة عقب قطع باريس علاقاتها مع المجلس العسكري الحاكم في مالي، وتراكم الشعور المعادي لفرنسا شعبيًّا هناك، لا سيما بعد انقلاب مايو 2021م. ورحَّبت النيجر المجاورة لمالي بخطة فرنسا إعادة نشر قواتها في أراضيها، لكنَّ دولًا أخرى مثل بوركنا فاسو وغينيا تقوم الآن بالفعل بتقييم علاقاتها مع فرنسا([3]).
وهكذا يتوقع أن ينصبّ اهتمام الرئيس ماكرون، على استمرار مساعيه في التخلُّص من النتائج البعيدة المدى للاستعمار الفرنسي للقارة، وتوسُّع الاتحاد الفرانكفوني، ومعالجة الأزمات الإنسانية والاقتصادية جراء كوفيد-19، وتطبيق خريطة طريق قمة إفريقيا- أوروبا 2022م.
ويمثل الدور العسكري الفرنسي في إفريقيا أداة مهمة لسياسات الاتحاد الأوروبي بشكل عام في القارة السوداء؛ حيث لا تتدخل أغلب دول أوروبا عسكريًّا منذ سنوات بعيدة وربما كان آخر استثناء لهذه القاعدة تدخل بريطانيا في سيراليون في العام 2000م واحتفاظ بريطانيا بدور عسكري مهمّ في عدد قليل من الدول الإفريقية مقارنة بفرنسا. واقتصر دور بريطانيا في الحرب على الإرهاب في إقليم الساحل على دعم القوات الفرنسية بعدد ثلاث طائرات هليكوبتر من طراز تشينوك Chinook منذ العام 2018م([4]).
استعادة مكانة فرنسا في إفريقيا:
تعد فرنسا أحد أهم شركاء إفريقيا الاقتصاديين، وتحتل المرتبة الثانية من بين شركاء إفريقيا الأوروبيين. وإضافة إلى التجارة تُسهم الشركات الفرنسية في هذا النمو عبر استثماراتها وتكوين قيمة مضافة في إفريقيا([5]).
وتراجعت مكانة فرنسا الإفريقية بشكل حاد في الأعوام الأخيرة على المستويين الشعبي والرسمي، وتزايد رأي عام إفريقي بأن النظام العالمي طالما وقف ضد إفريقيا والأفارقة، وأن الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا، قد تجاهلتهم مرة أخرى في استجاباتهم لكوفيد-19، بينما وفَّرت الصين وروسيا لبعض القادة الأفارقة ما طلبوه لبلادهم منهما: الاستثمارات والأمن وبدون مشروطيات مسبقة، وتواجه فرنسا تحديدًا نقدًا لاذعًا في غرب إفريقيا على خلفية حملاتها لمواجهة الإرهاب، وتوجد اتهامات ذائعة لها هناك بأنها استعمار جديد أكثر من كونها قوة داعمة للحكومات الإفريقية في حربها على الإرهاب([6]).
ثمة تحليلات تحظى بقبول متزايد وسط أبناء القارة الإفريقية (وضمن دوائر النخبة على نحو غير مسبوق منذ فترة الاستقلال الإفريقي في ستينيات القرن الماضي)، مفادها أنه بينما لدى اليمين الفرنسي هاجس واضح بوجود مؤامرات لأن يحل المهاجرون الأفارقة محل البيض في فرنسا؛ فإن الساسة الفرنسيين يواصلون التدخل عسكريًّا واقتصاديًّا في القارة الإفريقية على نحوٍ يعكس علامات على عدم رغبة الأمة الفرنسية في تقبُّل اضمحلال وجودها في إفريقيا. وأن إفريقيا لم تَعُد موضعًا يتلقّى باقتناع تامّ خيالات مهمة التمدين الفرنسية، بل إنّ حزام الساحل –على سبيل المثال- قد أصبح (بفضل السياسات الفرنسية في المقام الأول) مجالًا لحزمة معقَّدة من المشكلات والتهديدات التي يمكن أن تصل لأوروبا بشكل أو بآخر([7]).
كما تُهدِّد مكانة فرنسا في إفريقيا تخوُّفات حقيقية من أنه في حال فشل الأولى في التعامل مع الأزمة الأمنية في إفريقيا جنوب الصحراء؛ فإن الانفجار السكاني في هذه المنطقة سيدفع بمهاجرين عند بوابات فرنسا نفسها.
ويُلاحظ بعض الخبراء أن فرنسا كسبت جميع معاركها في الحرب على الإرهاب في إقليم الساحل منذ عملية سرفال Operation Serval (2013م)، لكنها في المحصلة خسرت الحرب، ولحق ضرر كبير بصورتها وصورة جيشها في إقليم الساحل وإفريقيا مع تكبُّد تلك الحرب خسائر فادحة بتشرُّد أكثر من مليوني إفريقي ومقتل عشرات الآلاف من المسلحين والمدنيين وتزايد قوة الجماعات المسلحة على عكس أهداف العمليات العسكرية الفرنسية المتعاقبة.
وجسَّد هذه الهزيمة الفرنسية الواضحة اعتماد الساسة في غرب إفريقيا بشكل عام “أوراق اعتماد معاداتهم للوجود الفرنسي” تقربًا للناخبين. لكن –في المحصلة- لا تعني هزيمة الجيش الفرنسي في الإقليم هزيمة حقيقية نهايةَ عملياته العسكرية مع إعادة نشر جميع القوات المقرر سحبها من مالي (فبراير 2022) إلى دُول الجوار([8]).
وفيما يتعلق بانعدام الأمن في إقليم الساحل كملف أمام فرنسا في الفترة المقبلة؛ فإن أية مقاربة فرنسية تقليدية لأيّ رئيس مُقبِل لن تنجح في استعادة فرنسا دورها المتآكل في الإقليم على خلفية وجود عوامل مشتركة في سلسلة الانقلابات الأخيرة “المناهضة للوجود الفرنسي ولأداء الحكومات السابقة” في ملف مواجهة الإرهاب والعنف في الإقليم([9]). ووصلت إلى حد اتهام القوات الفرنسية في الإقليم بالضلوع في دعم بعض الجماعات والأنشطة الإرهابية. إضافة إلى تدهور العلاقات الفرنسية مع دول الساحل التي شهدت انقلابات مؤخرًا، لا سيما في مالي؛ حيث تصاعد العداء ضد فرنسا بعد انقلاب أغسطس 2020م، وساءت حدّته عقب انقلاب مايو 2021م، ودفعت هذه التطورات فرنسا إلى إعلان عزمها سحب قواتها من مالي([10]). ويفرض هذا الواقع مسؤوليات جسيمة أمام الرئيس الفرنسي المقبل في واقع الأمر.
مواجهة التمدُّد الروسي:
يُهدّد مكانةَ فرنسا في إفريقيا النفوذُ الروسيُّ المتصاعدُ في مناطق كثيرة من مناطق النفوذ الفرنسي التقليدية أو غير التقليدية؛ مثل مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وموزمبيق والكاميرون وغينيا، إضافة إلى الوضع المعقَّد في ليبيا. وفي مالي تحديدًا فإن سحب فرنسا نحو 2500 جندي من قواتها من البلاد تزامن مع دخول ملحوظ لشركة فاجنر الروسية لدعم جهود المجلس العسكري المالي في مواجهة الإرهاب والعنف المسلح.
ورغم تأكيدات باماكو وموسكو على أن الروس في مالي يتولون مهمات تدريبية فقط، وليسوا مرتزقة؛ فإنَّ ثمة تقارير متصاعدة عن انتشار مقاتلي فاجنر في أرجاء البلاد، ووردت في مارس 2022م تقارير عن الاشتباه في إقدام مرتزقة روس على الانخراط في عمليات مشتركة مع الجيش المالي أدت إلى مقتل نحو 300 فرد في غضون خمسة أيام فقط في إقليم موبتي Mopti شمالي مالي([11]).
وقدّرت تقارير أمريكية عدد القوات الروسية الموجودة في مالي بنحو 1000 جندي، رغم الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حاليًا، وعودة الكثير من المقاتلين الروس من سوريا وإفريقيا للمشاركة بها.
بينما يتلقى حاليًا نحو 200 جندي نظامي و9 ضباط شرطة من مالي تدريبًا في روسيا حسب تأكيدات دبلوماسي روسي لمجلس الأمن الدولي.
ويُبرز هذا التطور سعي روسيا للحفاظ على مصالحها الدبلوماسية والعسكرية المتصاعدة في إفريقيا، ومواصلة سياسة ملء فراغ الحضور الفرنسي في عدة دول لا سيما في مالي.
وفي المقابل تتخوَّف فرنسا وشركاؤها الأوروبيون من أن توفير روسيا طائرات هليكوبتر هجومية وأنظمة رادار متقدمة لدول إفريقية (مالي تحديدًا) يُهدّد السيطرة الأوروبية على سماوات هذه الدول، مع ملاحظة فشل الأمم المتحدة نفسها في الحصول على طائرات هليكوبتر هجومية.
ومرحليًّا ستقوم فرنسا بتسيير طائرة من قاعدة في النيجر المجاورة لمنع الهجمات على عناصر حفظ السلام الأممية، لكن ليس مؤكدًا إن كانت مالي ستستمر في منح صلاحيات استخدام مجالها الجوي للفرنسيين أم لا بعد انسحاب قواتهم من البلاد([12]).
خلاصة:
تظل قائمة أهم الملفات الإفريقية أمام الرئيس الفرنسي المقبل كما هي حتى يتم ترتيب أولوياتها، ويتوقع أن تكون ثمة مقاربة متباينة قليلًا عن الوضع السابق من جهة التحرك بشكل أكثر جدية نحو فهم احتياجات ومخاوف الشركاء الأفارقة على نحو واقعي، وتفعيل خطط الدعم الفرنسي لعدد من الدول الإفريقية الأكثر فقرًا (استكمالًا لتعديلات أُدخلت على آليات المساعدات الفرنسية لإفريقيا في الشهور الأخيرة بالفعل)، وانتهاج سياسة أكثر استجابة لمواجهة التحديات التي تعاني منها الدول الإفريقية؛ لا سيما في مجال الإرهاب والعنف المسلح، وتنشيط دور أكبر لأجهزة الاستخبارات الفرنسية لتفادي أو رصد مزيد من التغيرات السياسية في القارة الإفريقية في الفترة المقبلة.
الهوامش
[1] French Presidential election candidates and their African policies, All Africa News, April 21, 2022 https://www.africanews.com/2022/04/21/france-s-macron-and-le-pen-face-off-in-presidential-debate/
[2] Joshua Craze, Colonial Nostalgia Continues to Define France’s Relationship to Africa, Jacobin, April 9, 2022 https://www.jacobinmag.com/2022/04/postcolonial-francophone-west-africa-cfa-franc-eco-zone-ecowas
[3] Eromo Egbejule, France, Russia, and shifting sands in the Sahel, African Arguments, April 11, 2022 https://africanarguments.org/2022/04/france-russia-and-shifting-sands-in-the-sahel/
[4] Nicholas Westcott, Shared fortunes: Why Britain, the European Union, and Africa need one another, European Council on Foreign Relations, April 22, 2022 https://ecfr.eu/publication/shared-fortunes-why-britain-the-european-union-and-africa-need-each-other/
[5] French diplomacy in Africa: Global issues, France Diplomacy https://www.diplomatie.gouv.fr/en/country-files/africa/french-diplomacy-in-africa-global-issues/#:~:text=France%20is%20one%20of%20the,of%20added%20value%20in%20Africa.
[6] Nicholas Westcott, Shared fortunes: Why Britain, the European Union, and Africa need one another, Op. Cit.
[7] Joshua Craze, Colonial Nostalgia Continues to Define France’s Relationship to Africa, Op. Cit.
[8] Joshua Craze, Colonial Nostalgia Continues to Define France’s Relationship to Africa, Op. Cit.
[9] Eromo Egbejule, France, Russia, and shifting sands in the Sahel, Op. Cit.
[10] Ibid.
[11] Ibid.
[12] Colum Lynch, Amy Mackinnon, and Robbie Gramer, Russia Flounders in Ukraine but Doubles Down in Mali, Foreign Policy, April 14, 2022 https://foreignpolicy.com/2022/04/14/russia-ukraine-mali-wagner-group-mercenaries/