في الفترة القصيرة الماضية، بدا واضحا تشكل موقف دبلوماسي صيني تجاه أفريقيا سوف يكون له تداعياته في رسم خريطة عالم مابعد الحرب الأوكرانية.
لقد أجرى الرئيس شي يونغ يو اتصالاً هاتفياً مع رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، وبعد ذلك، التقى وزير الخارجية وعضو مجلس الدولة الصيني وانغ يي مع نظرائه من زامبيا والجزائر وتنزانيا.
لم يكن مستغربا أن تكون أوكرانيا محور هذه المشاورات الصينية الأفريقية. إننا امام هجوم ناعم غير معتاد للصين في الساحة الأفريقية حيث تحاول الصين إعادة صياغة وضعها الجيوستراتيجي فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا، ومن المرجح أن يشمل ذلك التموضع الجديد دائرة الجنوب العالمي بشكل حاسم.
وفقًا لقراءة وزارة الخارجية الصينية للمشاورات بين شي ورامافوزا، أن الزعيمان اتفقا على أن الدول ذات السيادة “يحق لها اتخاذ قرارات مستقلة بشأن مواقفها”.
كما سافر وزيرا الخارجية الزامبي والجزائري إلى منطقة تونشي الصينية في مدينة هوانغشان ، ويبدو أن الوزيرين كذلك دعما موقف الصين بشأن أوكرانيا.
تحولات فارقة وبروز الجنوب العالمي:
وفقا لتقديرات مؤسسة ستراتفور الأمنية فقد أدى تركيز الغرب – المبالغ فيه على مايبدو- بالأزمة في أوكرانيا إلى قلق منظمات المعونة الدولية ومراكز الأبحاث من أن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين سوف يتخلون عن مبادراتهم الأفريقية، أو على الأقل يهمشون القضايا الأفريقية. ويبدو أن الصين تنتهز هذه الفرصة لتعميق علاقاتها الحالية مع الدول الأفريقية .
على المدى المتوسط إلى الطويل، يمكن أن تساهم هذه العوامل في اتجاه زيادة النفوذ الصيني على الشؤون السياسية والدبلوماسية الأفريقية.
وفي هذا السياق نستطيع أن نحدد ثلاثة جوانب رئيسية للاستراتيجية الصينية الخاصة ببناء تكتل دول الجنوب بزعامة الصين في مواجهة سياسات الهيمنة الأحادية الغربية:
أولا: التركيز على مفهوم الخيار الثالث.
تحاول الصين تبني استراتيجية خيار المفاوضات والحلول السلمية كطريقة للحصول على موقف ثالث يخفف الضغط من حدية إما الانحياز لروسيا أو تأييد حلف شمال الأطلسي. بعد لقائه مع وزير الخارجية الجزائري رمضان لعمامرة ، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي: “اتفقنا بشكل عام على أن هناك أكثر ثنائية الحرب والعقوبات ، للتعامل مع القضايا الدولية والإقليمية الساخنة ، حيث أن الحوار والتفاوض هو الحل الأساسي الأمثل”.
وترى الصين أن الناس في جميع أنحاء العالم ليسوا مسؤولين عن دفع فاتورة النزاعات الجيوسياسة والمنافسة بين الدول الكبرى ، حيث سيؤدي تصعيد العقوبات الأحادية الجانب إلى انقطاع سلاسل التوريد العالمية ، مما يضر بمعيشة الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم.
ثانيًا: تحاول الصين إعادة صياغة النقاش بشأن الأزمة الأوكرانية وتحويل دفته من فكرة التضامن الدولي في مواجهة العدوان الروسي إلى إبراز التأثير الاقتصادي الذي سيحدثه هذا التضامن في شكل عقوبات واسعة وسلاسل التوريد المشوهة على الاقتصاد العالمي.
بالطبع ، لدى الصين مخاوفها المتعلقة بالعقوبات ، لكنها تمكنت من ربطها بمخاوف دول الجنوب العالمي بشأن دفع ثمن صراع بعيد المدى وهو ما ظهر بالفعل في شكل ارتفاع أسعار السلع الأساسية. لقد استطاع وزير الخارجية الصيني أن يربط بذكاء بين هذه المخاوف ومسألة تهميش أفريقيا على الصعيد الدولي وفقا لفقه أولويات التعامل الغربي .
ثالثًا:التوكيد على إزدواجية المعايير الغربية في التعامل مع القضايا الدولية.
يبدو أن الصين تراهن على أنه بغض النظر عن الغضب الذي تشعر به بعض دوائر جنوب الكرة الأرضية بشأن العدوان الروسي، فإن الأمر يمكن تجاوزه من خلال الهواجس الأوسع حول المعايير المزدوجة الغربية لإعطاء استراتيجيتها المتعلقة بالطريق الثالث قوة دفع سياسية.
يمكن القول إن هذا هو الجزء الأكثر فعالية في الاستراتيجية الصينية، وستجد الدول الغربية التي تحاول بناء تضامن دولي مع أوكرانيا أنها في موقف بالغ الحرج وربما الازعاج.
يبدو أن موقف الصين الصاعد يستثمر بذكاء في الاستياء المزدوج للجنوب العالمي: من التداعيات الاقتصادية للعقوبات الغربية من جهة، والضغوط الغربيية بشكل عام من جهة أخرى.
خذ على سبيل المثال ما قاله مبعوث الصين الخاص الجديد إلى القرن الأفريقي شيويه بينغ “تأتي بعض الدول الغربية إلى هنا وتخبرك بماذا وكيف تفعل ذلك. من خلال محادثاتي، لدي شعور بأن الدول الأفريقية سئمت ذلك “. ومن الملاحظ أن المبعوث الصيني قام بعد تعيينه بجولة مكوكية شملت إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال وكينيا.كما يعتزم مواصلة جولته بزيارة أوغندا وجنوب السودان.
كيف نفهم الصعود الصيني الناعم؟
منذ أيام الاستقلال الأفريقي ، كانت الصين من الناحية العملية في نفس مستوى تطور الدول الأفريقية، وهو ما يجعلها تؤكد باستمرار أنها جزء من الجنوب العالمي. ومع ذلك امتلكت الرؤية والإرادة لإجراء الإصلاحات اللازمة، وبالتالي تصبح القوة الاقتصادية الثانية في عالم اليوم. من بين هذه الإصلاحات “القفزة الكبرى للأمام” 1958-1963 والخروج من فلك الاتحاد السوفيتي.
ورغم هذه التحولات البنيوية في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات لم تكن علاقات الصين مع إفريقيا متطورة كما هو عليه الحال اليوم ، وإن سلمنا بوجود بعض الروابط اتاريخية التي تربط بينهما. في الواقع ، كانت العلاقات الصينية الأفريقية حاسمة في عملية إنهاء الاستعمار بشكل أكثر دقة من خلال مؤتمر باندونغ. 1955.
وعلى أية حال في الوقت الحاضر، الصين هي الدولة الكبرى التي تحافظ على أفضل العلاقات مع الدول الأفريقية التي يبدو أنها سئمت من سياسات الاستغلال وفرض الهيمنة الغربية.
تلجأ الدول الأفريقية في الغالب إلى رفع شعار “التوجه شرقا” كصرخة احتجاج ضد سياسات التهميش الغربي للقضايا الأفريقية. سرعان ما أصبحت الصين عمليا الشريك التجاري الأول لأفريقيا.
في ديناميكية هذه العلاقة الصينية الأفريقية لا يخفى البعد الثقافي والقوة الناعمة الصينية الذي تمثلها مراكز كونفوشيوس، وتدريب المهنيين والمدراء الأفارقة في الصين.
يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضًا نمو الاستثمارات الصينية في إفريقيا. بعبارة أخرى ، تمكنت الصين من إغواء إفريقيا ليس فقط من خلال سياستها الخارجية ولكن أيضًا بقوتها الناعمة التي اكتسبت شعبية كبيرة في جميع أنحاء أفريقيا. ولعل ذلك كله يطرح السؤال كيف نجحت الصن وتراجع الغرب في أفريقيا؟
أسس الصعود الصيني في أفريقيا:
لم يكن الصعود الصيني في أفريقيا وليد اللحظة وإنما يستند إلى مجموعة من الأسس الراسخة التي خدمت تنمية العلاقات بين الطرفين ومن ذلك:
1-الجذور التاريخية للعلاقة:
عادة ما يشير الصينيون إلى الأدميرال تشنغ خه الذي عرف بالعربية باسم حجّي محمود شمس الدين باعتباره رمزا لقدم العلاقة بين الصين والمنطقنتين العربية الأفريقية حيث وصل في أوائل القرن الخامس عشر إلى سواحل شرق أفريقيا. لم يكن للصين تاريخ استعماري مثل الدول الغربية في أفريقيا، أضف إلى ذلك فقد استطاعت من خلال بعض نقاط التحول الكبرى مثل مؤتمر باندونج عام 1955 ورفع شعار التعاون بين دول الجنوب وإنشاء خط حديد تنزام أو طريق الحرية الذي يربط بين تنزانيا وزامبيا، وزيارة تشو إن لاي وجولته المطولة في 10 دول أفريقية عام 1963، بالإضافة على مساندة حركات التحرر الأفريقية أن يكون ذلك كله أساسا صلبا يمكن البناء عليه.
2-التركيز على المبادىء الخمسة للتعايش السلمي:
وهي: الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. ولاتزال الصين حتى اليوم متمسكة بإعلان توافق بكين في مواجهة مشروطية إعلان واشنطن بسياساته وتوجهاته النيوليبرالية.
يرتبط بذلك أيضا الترويج لمجموعة من المفاهيم الصينية مثل تأسيس “عالم متناغم” ، و “النهوض السلمي” و”إجماع بكين” ، والصين “مصنع العالم”: من المنتجات منخفضة التقنية إلى المنتجات عالية التقنية (بما في ذلك القطار فائق السرعة والخلايا الشمسية) ، ثم هي الآن “سوق العالم”.
3-تعزيز القوة الناعمة الصينية.
تدين الصين بصعودها في الساحة الدولية لقوتها الناعمة. في الواقع ، منذ المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني في عام 2007 ، تم إضفاء الطابع الرسمي على إستراتيجية القوة الناعمة للصين حول الترويج المكثف للسياسات الصينية، ليس فقط في جوانبها الثقافية والدبلوماسية ، ولكن أيضًا تأكيدًا على قوة الصين غير المقيدة. وبالتالي تستخدم بكين مفهوم جوزيف ناي كأداة لخدمة طموحاتها الدولية.
القوة الناعمة هي استراتيجية حقيقية للصين لاكتساب الزخم على الساحة الدولية ، بما في ذلك إفريقيا. بالنسبة للصينيين ، تعني القوة الناعمة أي شيء خارج المجالات العسكرية والأمنية ، بما في ذلك ليس فقط الثقافة الشعبية والدبلوماسية العامة ، ولكن أيضًا الاقتصاد والتجارة والدبلوماسية.
4-إضعاف القوى الغربية.
بالنظر إلى التنافس الدولي بين الصين والغرب، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، في إفريقيا طورت بكين استراتيجيات تتمثل في إضعاف الدول الغربية.
السياسة الأفريقية للصين هي أيضًا جزء من إطار أوسع لاستراتيجية تجاوز أو إضعاف القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة. إن الحوار بين الجنوب والجنوب الذي دعت إليه الصين منذ الستينيات ، جعلها تحافظ على وضعها كمتحدث رسمي باسم الدول النامية. وقد عكست الأزمة الأوكرانية نجاح الاستراتيجية الصينية بهذا الخصوص.
وختاما:
يبدوأن الصين في نظر كثير من الأفارقة اليوم هي الشريك الاستراتيجي الوحيد لأفريقيا القادر على تعزيز تنميتها. لقد تضاعف حجم الاستثمار الصيني ثلاث مرات منذ عام 2004.
الصين موجودة الآن في إفريقيا في مجال التعدين والبناء والبنية التحتية للإنتاج، وكذلك في السلع الاستهلاكية، والأخشاب، والقطن، والاتصالات، والبنية التحتية اللوجستية:الموانئ والمطارات والسكك الحديدية والطرق وخطوط أنابيب الغاز، إلخ.
كما أن القطاع المصرفي وصناديق الاستثمار مكرسة لأفريقيا في مجالات الزراعة والبنية التحتية والصناعات الأساسية. ومن الواضح أن هذه الشراكة الصينية تؤثرعلى كل من المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والعلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية والقطاعات الطبية والصحية والإعلامية. في المجال الاقتصادي ، يتجلى التعاون الصيني الأفريقي في مجالات التجارة والتمويل.
في مجال التجارة: أقامت الصين شبكة من الهياكل التجارية، وهناك وفود تجارية صينية أفريقية وغرف تجارية و 11 مركزا للاستثمار والترويج التجاري في القارة الأفريقية. الصين تعمل أيضا لخلق منطقة تجارة حرة مع الكوميسا (السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا) وتطوير مناطق التعاون الاقتصادي والتجاري في البلدان الأفريقية.
من الواضح أن بكين تسعى إلى وضع نفسها على قدم المساواة مع قانون فرص النمو الأمريكي، الذي أطلقته الولايات المتحدة في عام 2006 أو اتفاقيات الاتحاد الأوروبي ومنطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ.
الصين الآن شريك استراتيجي لأفريقيا بسبب مبادرة “الحزام والطريق”التي اقترحها الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013 ، وتهدف إلى تنشيط طرق التجارة القديمة التي ربطت بين آسيا وأفريقيا وأوروبا وتعزيز المشاركة الاقتصادية والاستثمار على طول هذه الطرق.
وعليه فإن الأزمة الأوكرانية مثلت قمة جبل الجليد الذي أظهر عورات النظام الدولي الذي حاولت الولايات المتحدة فرضه على العالم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي لتبدو ملامح نظام جديد قيد التشكل.