أبرزت استضافة العاصمة القطرية الدوحة “مفاوضات السلام التشادية” في 13 مارس الجاري أهمية التوصل لتسوية سلمية للأزمة السياسية المستمرة في تشاد منذ ما قبل مقتل الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي في أبريل 2021م، والتي امتدت بعد تولي ابنه محمد إدريس ديبي رئاسة “المجلس العسكري الانتقالي” بدعم واضح من أبرز القوى الدولية المعنية تقليديًّا بالشأن التشادي؛ ألا وهي فرنسا.
وبالتوازي مع هذا المسار تكتسب الحالة التشادية أهمية كبيرة إقليميًّا ودوليًّا في واقع الأمر؛ في ضوء الدور الذي تلعبه إنجامينا في عدَّة ملفات إقليمية -وبتنسيق أمريكي وفرنسي واضحين- في الساحل؛ مثل مواجهة الإرهاب، والتعاون الاقتصادي الإقليمي -لا سيما أن تشاد دولة نفطية لديها قَدْر من الاستقرار الاقتصادي النسبيّ مقارنة ببقية دول الإقليم-، وتعزيز الدور الفرنسي في الإقليم، وفي بعض الأزمات الأخرى.
تشاد وتهديد عدوى “موجة الانقلابات”:
انتشرت “موجة انقلابات” في غرب إفريقيا والساحل منذ العام 2020م، وشملت أربعة انقلابات في مالي وغينيا وبوركينا فاسو، وتكرر على نحو متطابق تقريبًا إعلان قادة المجالس العسكرية الانتقالية الحاكمة فترات انتقالية لاستكمال الإصلاحات قبل العودة لإجراء انتخابات ديمقراطية في نهاية هذه المراحل. ورغم الانخراط فعليًّا في بعض إجراءات وترتيبات نقل السلطة، ومن بينها الإعلان عن خطط إجراء حوار وطني وإصلاحات سياسية شاملة؛ فإن الشكوك تحيط بنوايا قادة الانقلابات، دون إغفال ما حظيت به تحركاتهم من دعم شعبي كبير([1]). وفي هذا السياق يتوقّع أن تمتدّ موجة الانقلابات إلى عدد من الدول المجاورة ومن بينها تشاد.
ورغم الاستقرار السياسي النسبي الذي شهدته تشاد في عهد الرئيس الراحل إدريس ديبي، بفضل قدرته المشهودة على القفز فوق الاستحقاقات الانتخابية المتكررة والدعم الدولي والإقليمي الذي تمتعت به تشاد في عهده لاعتبارات دور إنجامينا الكبير في أنشطة مكافحة الإرهاب في إقليم الساحل وعدد من الأزمات في “دول الجوار”؛ فإن تشاد تشهد تفاعلات سياسية حثيثة لإعادة الديمقراطية في البلاد عبر بوابة الحوار الوطني، ويقود المجلس العسكري الانتقالي بقيادة محمد ديبي مسألة تنظيم الحوار لتحقيق المصالحة الوطنية والانتخابات والعمل على “استعادة النظام الدستوري”.
وتكشف اضطرابات “المرحلة الانتقالية” الراهنة، بعد مضي أكثر من عشرة أشهر، عن تخوُّفات حقيقية مِن قِبَل المعارضة السياسية وبعض جماعات المعارضة المسلحة من مراوغة “نظام محمد ديبي” بالنظر إلى اعتبارهم أن التأجيلات المتكررة للمحادثات السياسية، وكذلك للحوار الوطني التشادي تعكس مشكلة بنيوية لدى “لجنة تنظيم الحوار الوطني”، وتثير شكوك مناورات سياسية “لتمديد” الفترة الانتقالية([2])، مما يضيف إلى تهديدات الاضطرابات السياسية التي تنتشر في إقليم الساحل، ولا يُستبعد امتدادها إلى تشاد في أيّ وقت على خلفية أيّ حراك شعبيّ قويّ.
مفاوضات السلام التشادية: الأجندة والسيناريوهات
أُجِّلَتْ مفاوضات السلام التشادية في قطر بعد أن كانت مقررة نهاية فبراير 2022م، وظلت تَستهدف بالأساس إفساح الطريق أمام “حوار وطني شامل” والانتخابات التي تعهد رئيس المجلس العسكري محمد إدريس ديبي بعقدها في أكتوبر 2022م (بعد نهاية مهلة 18 شهرًا هي مدة المرحلة الانتقالية حسبما أعلن في مايو 2021م)، وأكد دبلوماسيون مقربون من المفاوضات أن التأجيل جاء على خلفية “لوجستية”؛ لرفض قطر استضافة أعداد كبيرة من قادة الحركات المسلحة، وعدم اكتمال الاستعداد المناسب لها([3]).
وحسب مصادر قطرية فإن “ديبي” الابن طلب استضافة الدوحة نحو 60 قياديًّا “من المعارضة المسلحة” لحضور المفاوضات، بينما أصرّت الأولى على حضور 12 قياديًّا فقط، كما ارتبطت المشكلات اللوجستية بصعوبة تيسير سفر مشاركين من ليبيا والسودان([4]).
بينما أشارت تقارير استخباراتية إلى مواصلة “حكومة محمد ديبي” وضع قيادات وشخصيات “حليفة” في صفوف الأحزاب والجماعات المدعوَّة للتفاوض على تسوية الأزمة السياسية في الدوحة([5]).
لكنَّ الدوحة شهدت منتصف مارس الجاري انطلاق المفاوضات التشادية بحضور رئيس الوزراء التشادي ألبرت باهيمي ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي محمد، ونحو 44 مجموعة من المعارضة وحركات التمرد المسلحة الذين توفّرت لهم فرصة الحضور بعد تأجيل “الاجتماع” من 27 فبراير الفائت.
وأكد دبلوماسيون، مع انطلاق المفاوضات، توقُّع استغراقها أسابيع؛ ممَّا سيؤدّي إلى تأجيل “الحوار الوطني” التشادي المقرر انعقاده في 10 مايو المقبل([6]).
وبالفعل أخذ المسار يتعقّد نوعًا ما، مع عدم وضوح أجندات الأطراف المشاركة، وعدم دقة آليات الحوار الوطني المزمع، بالإضافة إلى انعدام التواصل المباشر بين أغلب الوفود الموجودة في الدوحة، وما لاحظه مراقبون من غياب الإلمام الواضح لدى أغلب هذه الوفود بالغرض من المحدثات على نحو دقيق.
ومع توقف “المفاوضات” بين الأطراف التشادية عند مسائل شكلية تمامًا وافقت قطر -بدءًا من 25 مارس- على تولّي وساطة عملية التفاوض بين هذه الأطراف، وأكّد محللون قطريون أن المعارضة قسَّمت نفسها على ثلاثة تحالفات رئيسة كوَّنت كلّ منها لجنة للتفاوض سيعقد معها الوسيط (وزير الخارجية القطري) اجتماعات منفردة بالتوازي مع اتصالاته مع الحكومة([7]).
ويُتوقّع في هذا المسار التوافق على إجراء “حوار وطني شامل” في موعد لن يكون قبل نهاية العام الجاري؛ بحجة الترتيبات اللوجستية، وأن يكون البدء في الترتيبات بالتزامن مع نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية في نهاية أبريل المقبل حسب مراقبين.
تشاد والملفات الإقليمية:
لا يخفى أن التفاعلات التشادية الجارية لا يمكن عزلها، سلبًا وإيجابًا، بالتحولات الدولية والإقليمية المتعلقة بتداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية، وكثرة التهديدات الإرهابية، بالإضافة إلى إعادة دول إقليمية وأوروبية ضبط سياساتها في إقليم الساحل بشكلٍ عام.
ويجسّد الموقف الأمريكي المهم من تطورات الأزمة في تشاد هذه الملاحظة؛ فقد بادر السيناتور الأمريكي بوب منينديز B. Menendez، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بدعوة إدارة بايدن لإعادة النظر في سياسة الولايات المتحدة تجاه تشاد من أجل إحداث “توازن أفضل” للحاجات الدفاعية لتشاد مع المسار الدبلوماسي والتنموي، بما في ذلك وجود دور أكبر في دعم انتقال تشاد إلى “الحكم المدني”. وجاءت دعوة “منينديز” قبل ساعات من توجّه مولي في Molly Phee مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية للعاصمة التشادية إنجامينا (20-22 مارس).
ودعا مينيندير على وجه محدد الإدارة الأمريكية لإعلان توقعاتها من القيادة الحالية في تشاد، ومن ثَم تبنّي “خريطة طريق انتقالية” عبر الانتخابات وفق ما حدّده مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي في مايو 2021م (بعد مقتل إدريس ديبي وتقلد ابنه محمد ديبي قيادة البلاد)([8]).
ولعل أهم ما يرتبط بهذا الموقف الأمريكي أن إعلان الدوحة وساطتها في المسألة التشادية قد جاء بعد ساعات قليلة من زيارة “مولي في” المهمة التي التقت خلالها برئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد ديبي وعدد من كبار المسؤولين التشاديين “لإبراز أهمية (عقد) حوار وطني شامل وجدول انتقال زمني محدد لإعلان حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيًّا. كما شمل جدول أعمال الزيارة –حسب بيان الخارجية الأمريكية- المصالح الأمريكية- التشادية المشتركة في أمن إقليم الساحل وبحيرة تشاد، والتأكيد على أهمية الالتزامات الثنائية المشتركة لمواجهة التحديات الإنسانية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان بما فيها مكافحة تهريب الأفراد.
وشملت الزيارة كذلك التقاء “مولي في” مع عدد من ممثلي المجتمع المدني والشركاء الدوليين والفاعلين في مجال الإغاثة الإنسانية والقطاع الخاص في سياق مناقشة استقرار الشعب التشادي وإقليم الساحل وازدهاره، حسب البيان([9]).
وفي مؤشر على انخراط المجلس الانتقالي التشادي في مسار “التسوية السياسية”، دون رهن ذلك بجدول زمني دقيق على الأقل مرحليًّا، وافق البنك الدولي (26 مارس) على مِنْحة قدرها 295 مليون دولار من المؤسسة الدولية للتنمية International Development Association (IDA) لتشاد لمساعدتها في توسيع الوصول للطاقة ودعم مشروع Chad Energy Access Scale Up Project (PAAET) الذي يهدف إلى زيادة الوصول للكهرباء وتوفير الطعام النظيف عبر التوسع في مصفوفة الطاقة الرئيسة والمصفوفات الصغرى، والنظم الشمسية، وغيرها. وتقتضي الخطة توسيع الوصول للكهرباء في العاصمة إنجامينا و12 مدينة أخرى تعمل بها الشركة الوطنية للكهرباء Société Nationale d’Electricité (SNE)([10]).
خلاصة:
تسود، في مقابل أي حراك سياسي حالي أو مستقبلي، قناعة وسط قطاعات كبيرة من التشاديين بوجود دعم فرنسي قويّ للمجلس العسكري الحاكم في ،تشاد كما اتضح في مظاهرات نهاية فبراير الماضي التي جرت في إنجامينا، ورفع خلالها المتظاهرون شعارات مناهضة للمجلس وفرنسا معًا، وأعربوا عن تخوّفهم من احتمالات قفز المجلس فوق مقررات المرحلة الانتقالية المقرر أن تستمر 18 شهرًا، لا سيما أن المجلس حلّ البرلمان، وأبطل العمل بالدستور([11]).
ويعزز هذا السيناريو، أو يحجّمه، أداء الأطراف التشادية المختلفة في مفاوضات الدوحة الذي يَفتقر حتى الآن (نهاية مارس) للجدية اللازمة؛ غير أن خطورة الأوضاع الإقليمية وما يُشَار له من “عدوى الانقلابات”، والاهتمام الأمريكي المتزايد بعدم تكرار تجارب مثل مالي وبوركينا فاسو (حيث حضرت روسيا في التجربة الأولى بامتياز)؛ يقود إلى توقُّع إطلاق حوار وطني تشادي على المدى المتوسط (ليس قبل نهاية العام الجاري)، وبمخرجات محددة نسبيًّا لتهيئة صيغة مقبولة لاستمرار المجلس العسكري الانتقالي الحالي في أية ترتيبات مستقبلية للنظام الحاكم في البلاد.
[1] Laurent Lozano, Four coups in W. Africa leave doubts over return to democracy, the Guardian, March 25, 2022 https://guardian.ng/news/four-coups-in-west-africa-leave-doubts-over-return-to-democracy/
[2] Hoinathy Remadji, Chad’s long road to reconciliation, Premium Times Magazine, March 14, 2022 https://www.premiumtimesng.com/news/top-news/517194-analysis-chads-long-road-to-reconciliation.html
[3] Chad Peace Talks in Qatar Delayed, Voice of America, February 27, 2022 https://www.voanews.com/a/6462143.html
[4] Asmahan Qarjouli, Chad political talks in Qatar postponed, Doha News, March 1, 2022 https://www.dohanews.co/chad-political-talks-in-qatar-postponed/
[5] In Doha, N’Djamena places its men in political and military opposition, Africa Intelligence, March 25, 2022 https://www.africaintelligence.com/central-and-west-africa_politics/2022/03/25/in-doha-n-djamena-places-its-men-in-political-and-military-opposition,109763299-art
[6] Chad peace talks start in Qatar, France 24, 2022 https://www.france24.com/en/live-news/20220313-chad-peace-talks-start-in-qatar
[7] Qatar takes up mediation role in Chad talks: officials, rebels, Al-Monitor, March 25, 2022 https://www.al-monitor.com/originals/2022/03/qatar-takes-mediation-role-chad-talks-officials-rebels
[8] راجع النص الكامل للخطاب:
https://www.foreign.senate.gov/imo/media/doc/03-18-22%20RM%20letter%20to%20AS%20Phee%20re%20Chad.pdf
[9] Media Note, Assistant Secretary for African Affairs Phee’s Travel to Chad, U.S. Department of State, March 20, 2022 https://www.state.gov/assistant-secretary-for-african-affairs-phees-travel-to-chad/
[10] Chad Scales Up Its Access to Energy, Modern Diplomacy, March 26, 2022 https://moderndiplomacy.eu/2022/03/26/chad-scales-up-its-access-to-energy/
[11] Anti-junta and anti-France protest rallies hundreds in Chad, Africa News, February 27, 2022 https://www.africanews.com/2022/02/27/anti-junta-and-anti-france-protest-rallies-hundreds-in-chad/