لاشك أن واحدة من أهم محددات الأمن القومي للدول هو الحفاظ على قوام الحياة وهو الماء الذي يعد سببًا لوجود الكثير من الدول في إفريقيا وفي غيرها من قارات العالم.
وتبرز هذه المشكلة بصورة مقلقة في الدول ذات الكثافة السكانية العالية لاسيما تلك التي تتعرض أراضيها للتصحر وإلى جفاف الآبار والبحيرات العذبة نتيجة التغير المناخي الذي أدى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض بمعدلات باتت تهدد وجود الحياة في بعض البلدان.
وإفريقيا ليست استثناء؛ حيث إن الكثير من الدول ذات الكثافة السكانية العالية تقع في مناطق شح مائي وتتعرض للتداعيات السلبية للتحول المناخي، مما أثر على الأمن القومي لتلك الدول وعلى وفرة الغذاء والماشية لاسيما في المناطق الأكثر تخلفًا وفي الدول ذات الاقتصاد الواحد المعتمد على الزراعة.
وتشير عدة دراسات دولية إلى أن السنوات الثلاثة القادمة ستكون حاسمة، وما بعدها سيكون أكثر صعوبة من حيث زيادة ندرة المعروض من المياه في مقابل زيادة عدد السكان، بما يشير إلى زيادة وتيرة الصراعات سواء بين المزارعين والقبائل الحدودية على الرعي والسقي، أو بين الدول كما في حالة الصراع على موارد المياه بين مصر وإثيوبيا بعد بناء الأخيرة سد النهضة بهدف توليد الكهرباء.
فمن المتوقع أنه بحلول عام 2025، سيواجه ما يقرب من 230 مليون أفريقي ندرة المياه، وسيعيش ما يصل إلى 460 مليونًا في المناطق التي تعاني من الإجهاد المائي، وليس التغير المناخي وحده مسؤلا عن ذلك الشح القادم في الأفق، فصعوبة الوصول إلى المياه في إفريقيا يمكن إرجاعها كذلك إلى الإخفاقات المؤسسية التي تشمل سوء التخطيط وضعف الاستثمار وهشاشة البنية التحتية، وهي كلها عوامل تفاقمها العوامل الجوية الناتجة عن تغير المناخ مثل الجفاف والتغيرات في أنماط الطقس، كما أصبحت البحيرات والأنهار التي كانت توفر كميات وفيرة من المياه جافة، وتضطر المجتمعات المحلية في مناطق الشح المائي إلى السفر لمسافات طويلة للوصول إلى كميات المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن المواطنين في تلك المناطق، لاسيما في إفريقيا جنوب الصحراء، يقطعون مسافات تصل إلى 12 ميلا يوميًا في المتوسط من أجل الحصول على المياه، وتعتمد معظم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء على الزراعة التي تعد مصدرا رئيسيا للدخل لنحو نصف مواطني القارة، كما تعتبر ندرة المياه أيضًا واحدة من أهم محفزات الصراعات، كما هو الحال في النزاعات على المياه حول بحيرة تشاد، ليس من أجل الشرب فقط ولكن من أجل الزراعة والرعي والصيد، حيث أدت ذروة تلك الصراعات إلى تدمير عدد من القرى الواقعة حول بحيرة تشاد.
فقد اندلعت مواجهات عنيفة حول شح المياه في إفريقيا في شمال الكاميرون، مما تسبب في فرار أكثر من 30 ألف شخص إلى تشاد المجاورة، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. كما لقي 22 شخصًا مصرعهم وأصيب 30 آخرون بجروح خطيرة في القتال الذي دار بين الصيادين والمزارعين الذي أعقب اندلاع أعمال عنف في أغسطس الماضي أدت إلى مقتل 45 شخصًا وإجبار 23 ألف كاميروني على مغادرة منازلهم.
والسبب الرئيس، وفقًا للأمم المتحدة، هو الانخفاض الكبير في مستويات المياه في بحيرة تشاد، التي فقدت 90 في المائة من مساحتها منذ عام 1963 بسبب الإفراط في الاستخدام وتغير المناخ. فقد ارتفعت درجة حرارة منطقة الساحل بمعدل 1.5 مرة عن المتوسط العالمي نظرًا لأن انبعاثات الغازات الدفيئة تسببت في ارتفاع درجات الحرارة والمزيد من تبخر المياه السطحية، ومن ثم فهي تعاني من طقس أكثر قسوة، بما في ذلك حالات جفاف شديدة تتخللها أمطار غزيرة لا تستطيع الأرض القاحلة امتصاصها، وتقدر الأمم المتحدة أن 80 في المائة من الأراضي الزراعية في منطقة الساحل قد تدهورت بسبب هذه الظروف؛ حيث يعتمد ثلثا سكان منطقة الساحل على الزراعة وتربية الماشية.
كما من المرجح أن تصبح هذه المشكلات أكثر وضوحًا في السنوات القليلة القادمة؛ حيث تتوقع تقديرات الأمم المتحدة أن المحاصيل الزراعية ستنخفض بنسبة 20 في المائة كل عقد بحلول نهاية هذا القرن في بعض أجزاء منطقة الساحل. كما شهدت دول السودان وغانا وعلى طول الحدود الكينية الإثيوبية حالات عنف مماثلة بسبب الصراع على الموارد المائية؛ حيث قُتل أكثر من 167 ماليًا وفر أكثر من 50000 من منازلهم في أعمال العنف التي اندلعت في 2019 بسبب شح المياه.
وفي جزيرة مدغشقر أدى الجفاف إلى تعرضت له البلاد منذ خمس سنوات متتالية إلى وصولها إلى حافة المجاعة بصورة رسمية ناجمة بوضوح عن تغير المناخ، وفقًا لمسؤولين في الأمم المتحدة؛ حيث قالت شدا مغربي، المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن “الوضع حرج حقًا: هناك حوالي 512 ألف شخص على بعد خطوة واحدة من المجاعة”. لقد تُركت بعض العائلات بلا بديل سوى البحث عن الطعام، بما في ذلك أكلهم الجراد للبقاء على قيد الحياة. وتعد معايير توصيف حالة دولة بالوصول إلى المجاعة هو عندما يواجه خُمس الأسر على الأقل نقصًا حادًا في الغذاء، ويعاني أكثر من 30 في المائة من السكان من سوء التغذية الحاد وشخص واحد على الأقل من بين كل 5000 شخص يموتون جوعا يوميًا.
ومع وجود حوالي 2.3 مليون شخص يعانون بالفعل من نقص حاد في المياه والغذاء والمراعي في الصومال، فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة في ذلك البلد الذي يعد واحدًا من أكثر البلدان تضررا من التغير المناخي.
وفي الوقت الحالي، يقول برنامج الأغذية العالمي إنه يحتاج إلى 69 مليون دولار لإطعام أكثر من مليون شخص في الشهر يحتاجون إلى المساعدة في مدغشقر.
وعلى المدى الطويل، تقول المنظمة إنها تريد تجهيز المزارعين في الدول النامية بشكل أفضل للاستعداد لظواهر الطقس المتطرفة المتعلقة بتغير المناخ، على سبيل المثال من خلال تحسين أنظمة الري التي يمكن أن تحمي غلات المحاصيل أثناء فترات الجفاف.
وقد أصدرت إدارة بايدن مؤخرًا تقريرًا يتوقع أن يؤدي تغير المناخ إلى إجبار “عشرات الملايين” من الأشخاص حول العالم على النزوح في العقود القليلة القادمة. كما يورد التقرير نتائج عدد من الدراسات السابقة التي تشير إلى أن تفاقم الآثار المناخية – الكوارث المفاجئة مثل الحرائق والعواصف، بالإضافة إلى المزيد من المشاكل التدريجية مثل ارتفاع مستوى البحار والجفاف – يمكن أن تؤدي إلى نزوح ما يصل إلى 200 مليون شخص قبل عام 2050. وفي حين أن التقديرات ترسم صورة قاتمة بشكل خاص للمستقبل، فإن بعض آثار النزوح بسبب المناخ أصبحت محسوسة بالفعل في جميع أنحاء العالم؛ حيث تقدر الأمم المتحدة أن ما معدله 21.5 مليون شخص حول العالم يتشردون بسبب الكوارث المفاجئة كل عام.
ومن ثم يجب على الدول الصناعية الكبرى، التي تعد أكبر المساهمين في مشكلة التغير المناخي، أن تقدم إعانات مالية وغذائية لتلك الدول المعرضة للجفاف قبل أن تصل إلى حالة الانهيار وتفشي المجاعات؛ كما أن تغير المناخ لا يهدد الأمن القومي للدول الإفريقية وحدها، حيث أدى ذلك إلى ازدياد موجات الهجرة الجماعية ليس داخل القارة السمراء وحدها، ولكن أيضًا تضاعفات أعداد المهاجرين الأفارقة إلى الدول المتقدمة، ومن ثم فإن على تلك الدول أن تستمر في إنشاء البنى التحتية المناسبة للحفاظ على المياه من أجل تفادي المشكلات التي ستؤدي في المستقبل القريب إلى زعزعة السلم العالمي واستقرار الدول، فبخلاف أنه واجب أخلاقي على تلك الدول الصناعية الكبرى، فإنه ضرورة لحماية السلم والأمن الدوليين، كما يجب على تلك الدول أن تتدخل بفاعلية لنزع فتيل الازمات مثل تلك المتعلقة ببناء السدود الكبرى على الانهار العابرة للحدود كما في حالة سد النهضة على مجرى نهر النيل.
كما يجب على المؤسسات الدولية أن تعمل، بدعم من الدول المتعرضة للتغير المناخي والتي تدفع الثمن الأكبر، أن تقوم بعمل خطط فاعلة لخفض الانبعاثات الكربونية وأن يتم سن قوانين صارمة لحماية البيئة في تلك الدول وغيرها من الدول النامية، وأن يصبح ذلك ملزمًا لتلك الحكومات، كما يجب عمل صناديق للاستثمار في البنى التحتية في القارة الإفريقية للمساهمة في البناء والتنمية بدلا من أن تنفق تلك الأموال على فض المنازعات الناجمة عن الصراعات حول المياه، فالحلول الاستباقية يجب أن توضع في الحسبان من أجل تفادي مزيد من إزهاق الأرواح واندلاع موجات هجرة جماعية قد لا يمكن السيطرة عليها في المستقبل القريب.