توجهت سياسات روسيا الخارجية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وعلى نحو سريع، نحو الاندماج مع الغرب، مما ضمن لها تأمين بلايين الدولارات من مبيعات السلاح (والمقبولية السياسية “الغربية”) في سياق دعمها العقوبات الغربية ضد ليبيا والعراق ويوغسلافيا السابقة، وتحجيم صِلَاتها العسكرية مع الصين وإيران والهند؛ بينما استمر الغرب في تجاهل مصالح روسيا قبل بداية الألفية الحالية بشكل واضح، مع ملاحظة تراجع حصة روسيا من سوق السلاح عالميًّا في السنوات التالية، كما تبلور –على سبيل المثال- في الفترة 1991-1993م من 38% إلى 17%، بالتزامن مع ارتفاع حصة الولايات المتحدة عن الفترة نفسها من 30% إلى 58%.
وهكذا فقد عنى المزيد من التقارب الروسي- الغربي في تسعينيات القرن الماضي علاقة أقل مع الأقاليم غير الغربية، وربطها بالرجعية والسلطوية مقابل الرخاء والديمقراطية([1]).
وبظهور الرئيس الحالي فلاديمير بوتين V. Putin في الحياة السياسية في بلاده بدأت نزعة مخالفة هذا التوجه في الظهور منذ تقلده منصب رئيس الوزراء، كما تجسّد بشكل كبير في الأزمة الليبية (مارس 2011م)، ورفضه لتوجُّه الرئيس الروسي حينذاك دميتري ميدفيديف Dmitry Medvedev الذي وصفه في لقاءات علنية “بالتواطؤ مع الغرب في مسألة فرض منطقة حظر طيران، والدعم غير المباشر لتدخل بريطانيا وفرنسا (في ليبيا) مع قيادة الولايات المتحدة هذا التحرك “من وراء الستار”، واعتبر بوتين وقتها أن قرار مجلس الأمن بخصوص ليبيا “يسترجع دعوات العصور الوسطى للقيام بحملات صليبية”([2]).
وهكذا كانت إفريقيا أحد أهم بنود أجندة “بوتين” الخارجية منذ انفراده بالسلطة التنفيذية في البلاد، ورغم مبالغة القوى الغربية في وصف “تهديدات” الدور الروسي في إفريقيا؛ فإن رافعات هذا الدور منذ العام 2019م لم تتجاوز التدخل الأمني- العسكري، ومحاولات اختراق احتكار شركات الطاقة متعددة الجنسيات لقطاعي البترول والغاز في إفريقيا، مضافًا لها وعودًا “غير واقعية في أحيان كثيرة” بتقديم مشروعات طاقة نووية عملاقة تتجاوز تكلفتها موازنات دولة كاملة (كما في حالة جمهورية إفريقيا الوسطى)، دون أن تقدم موسكو (سواء عبر المؤسسات الحكومية أم عبر شركات الاستثمارات الخاصة) بدائل تعاون اقتصادي روسي- إفريقي يقترب واقعيًّا من الدور السوفييتي السابق.
التوزيع الجيوسياسي للدور الروسي:
وسَّعت روسيا في الأعوام الأخيرة نفوذها في إفريقيا؛ لا سيما في دول تواجه أزمات مزمنة مثل ليبيا ومالي والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق، وغيرها. وأشار التحرك الروسي في مالي وما ورد عن دعم روسيا للحكومة العسكرية في بوركينا فاسو إلى استمرار النهج الروسي المتبع في السنوات الخمس الأخيرة؛ حيث كثَّفت روسيا خطواتها لرفع نفوذها في إفريقيا على المستويين الرسمي وغير الرسمي.
وبشكل عام، حظيت العلاقات الروسية الإفريقية بانطلاقة مهمة في قمة 2019م في سوتشي التي حضرها ممثلون لأكثر من 50 دولة إفريقية تقدمهم 43 رئيسًا. ورغم تعويل الرئيس بوتين وقتها على تاريخ الاتحاد السوفييتي في دعم حركات التحرّر الإفريقية، وتعهُّده بتعزيز رفع بلاده لحجم التجارة والاستثمارات في القارة؛ فإنَّ الوجود الروسي في القارة اتَّخذ شكلًا ملتبسًا، وغير شامل وفق رؤى محللين كثيرين، من قبيل تزويد الحكومات في عدد من الدول الإفريقية بالأمن في شكل تدريب وأعمال استخباراتية، وتقديم معدات، وكذلك تورط المرتزقة الروس في عدد من الصراعات المحلية([3]).
وفي اتساقٍ مع “التمدد” الروسي في إفريقيا يرى خبراء عسكريون أمريكيون أن “متعهدي الأمن الخاص” يساعدون في دعم أجندة موسكو في إفريقيا، ويتقدمهم مجموعة فاجنر Wagner Group التي يديرها يفجيني بريجوزين Y. Prigozhin المقرب من بوتين (الذي أنكر أكثر من مرة أية صلة له مع المجموعة، أو أية صلة لها مع الدولة، ووصفها بأنها “عمل خاص له مصالح خاصة مرتبطة باستخراج الموارد الطبيعية مثل الذهب أو الأحجار الكريمة”). وحسب الخبراء الغربيين فإن هؤلاء المقاتلين يعملون بالتوازي مع تحرك الكرملين، وهم جزء من “صندوق أدوات” موسكو لدعم القادة الأفارقة الضعفاء مقابل الحصول على ميزات اقتصادية وأخرى غيرها”([4])؛ مما يفسر خريطة الوجود الروسي في القارة الإفريقية في الدول التي تعاني من مشكلات أمنية خطيرة للغاية.
مظاهر توسُّع الدور الروسي في إفريقيا 2021-2022م:
رفعت روسيا منذ العام 2007م على الأقل، وبشكل بالغ الوضوح في السنوات الأخيرة، من وجودها الاقتصادي والعسكري في إفريقيا (نسبيًّا بالقياس إلى القدرات الروسية نفسها)؛ وأسفرت قمة سوتشي 2019م عن توقيع أكثر من 30 دولة إفريقية عقودًا مع موسكو لتزويدها بمعدات عسكرية، وثمة استثمارات روسية قوية، بما فيها المصالح التجارية المدعومة من الدولة لا سيما في القطاعات الأمنية، والتكنولوجية، والصناعات القائمة على استخراج الموارد الطبيعية مثل البترول والغاز والذهب، وغيرها.
وعلى سبيل المثال فإن شركة “روسال Rusal” تستخرج معدن الألومنيوم في غينيا، وتسعى مجموعة “روساتوم Rosatom” لاستكشاف اليورانيوم في ناميبيا. كما دفعت شركة “الروسا Alrosa“، أكبر شركة في العالم لتعدين الماس، لتوسيع عملياتها في أنجولا وزيمبابوي؛ وهي جهود تتفق مع سعي روسيا للبحث عن أسواق اقتصادية جديدة وتأثير جيوسياسي في إفريقيا.
وقد تضاعفت التجارة بين روسيا والدول الإفريقية منذ العام 2015م، ووصلت إلى حوالي 20 بليون دولار سنويًّا حسب تقديرات بنديكت أوراما B. Oramah رئيس البنك الإفريقي للتصدير والاستيراد African Export-Import Bank (نهاية العام 2021م)، بلغت حصة روسيا من الصادرات 14 بليون دولار، بينما لم تُصدِّر الدول الإفريقية لروسيا إلا بقيمة 5 بلايين دولار فقط؛ ويلفت النظر في هذا التعاون الاقتصادي (الذي لا يزال محدودًا قياسًا لدول أخرى في مقدمتها الصين والاتحاد الأوروبي والهند بل والإمارات العربية) والعسكري اعتماده على “تقديم رؤية بديلة للدول الإفريقية اعتمادًا على النقد المشترك المعادي (للاستعمار) الغربي، مع ملاحظة، حسب أكاديميين روس، أنه بينما حاول السوفييت ترويج أفكار التحديث والاشتراكية للدول الإفريقية؛ فإن الروس لا يقدمون فعليًّا أيّ “رؤية أيديولوجية”، بل مجرد إعادة اتصال بالنخب الإفريقية على أساس قَدْر من الندية، والتأكيد على أهمية مسألة “السيادة”، بينما لا تزال الدول الغربية تحاول فرض قِيَمها مثل الشفافية و”الحكم النزيه” honest governance وتشريعات مواجهة الفساد([5]).
وقد أثارت تحركات روسيا في إفريقيا (التي يؤكد مراقبون غربيون أنها هادئة للغاية على نحو يثير القلق منذ إعلان “بوتين” في قمة سوشي 2019م أن إفريقيا أولوية في سياسة بلاده الخارجية) مخاوف الدول الغربية (لا سيما فرنسا والولايات المتحدة) إزاء تكتيكات وغايات روسيا في القارة. وأثار حادث رفع العَلَم الروسي في مظاهرات في واجادوجو عاصمة بوركينا فاسو عقب انقلاب يناير 2022م مخاوف جمة من رمزية الحادث، إضافة إلى حماية جنود محليين في جمهورية إفريقيا الوسطى للمدنيين بدعم من المقاتلين الروس في خريف 2021م، الأمر الذي عززته تأكيدات “بوتين” أن بلاده “لن تشارك في إعادة تقسيم جديد لثروة القارة، بل إننا مستعدون للانخراط في منافسة على التعاون مع إفريقيا”([6])، وهو خطاب يحظى بقبول شعبي متزايد في العديد من الدول الإفريقية.
نقاط الارتكاز الرئيسة: رؤية في حالة إثيوبيا
يمكن تلمُّس أهم نقاط ارتكاز التحرك الروسي في إفريقيا في العام الجاري 2022م في ليبيا والسودان ومالي وغينيا وأنجولا. بينما تبرز حالتا إثيوبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى كمُؤشِّر على تحدِّي السياسة الروسية بشكل عام في إفريقيا، بالنظر إلى اهتمام موسكو الكبير بالأولى لاعتبارات الأمن الإقليمي للبحر الأحمر والقرن الإفريقي وثيق الصلة “بنطاقات أمن الشرق الأوسط”؛ والثانية التي تقع في مفترق أقاليم حوض النيل والساحل وغرب إفريقيا.
يُلاحظ اعتماد الوجود الروسي في ليبيا –على سبيل المثال- بشكل كبير على قوات “فاجنر” من عناصر المرتزقة (بوصفها قوات الاستخبارات الدفاعية الروسية السابقة)، ويتوقع أن تحاول روسيا الاستفادة من أي مخرجات سياسية للانتخابات الليبية المؤجلة منذ نهاية العام 2021م، وأن تظهر كوسيط بين القوى الليبية المختلفة في العام الجاري 2022م. أما مالي فقد تعززت حظوظ روسيا في مزيد من التعاون مع السلطات العسكرية الحاكمة، ويتوقع أن تقدم موسكو لمالي غطاءً سياسيًّا لعاصمي غويتا، مع ما يعتبره مراقبون غربيون مؤشرات على نشر “مرتزقة فاجنر دعمًا للمجلس العسكري”([7]).
بينما توفر غينيا وأنجولا “منطقتي نفوذ تقليديتين”؛ فعلاقات موسكو مع الرئيس الغيني السابق ألفا كوندي كانت قوية، وحصلت موسكو بمقتضاها على امتيازات خاصة في تعدين البوكسيت، وعقب سقوط كوندي في انقلاب سبتمبر 2021م يتوقع أن تعيد موسكو توجيه اهتمامها للجهود الدبلوماسية لدعم نظام العقيد مامادو دومبايا مقابل عدم إعاقة وصول موسكو لقطاع التعدين.
كما يتوقع أن تحظى روسيا بدور كبير في أنجولا مع سعي رئيسها João Lourenço (الذي حصل على تدريبه العسكري في الاتحاد السوفييتي السابق) للفوز بفترة رئاسة ثانية وسط معاناة البلاد من حالة ركود طويلة وانتقادات من تزايد النزعة السلطوية والانقسامات داخل الحزب الحاكم. وتعد “استراتيجية موسكو الانتهازية بمساعدة لقادة الأفارقة المعزولون وسيلة لتحسين مكانتها” وتحول João Lourenço لهدف جذاب لروسيا([8]).
ويمكن رصد الدور الروسي في حالة إثيوبيا على النحو التالي:
تسعى موسكو لتوطيد علاقاتها (التاريخية بالأساس على خلفيات سياسية ودينية مشتركة) مع أديس أبابا، كما اتضح في الآونة الأخيرة من موقف موسكو في مسألة سد النهضة، وانحيازها الكامل للموقف الإثيوبي، وقرار الأولى عقد القمة الروسية الإفريقية المقبلة (أكتوبر- نوفمبر 2022م) في أديس أبابا([9]) باعتبارها بوابة واسعة للدور الروسي في القارة الإفريقية.
وجاء التعاون العسكري بين موسكو وأديس أبابا (حسب اتفاق 12 يوليو 2021م) في قلب مساعي روسيا للتمدد في القرن الإفريقي بعد فشل مساعي مماثلة في عدة دول بينها السودان (مرحليًّا). وبالفعل نجحت روسيا عبر تقديم الدعم لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في حرب إقليم التيجراي في تعويض قدر كبير من التراجع الغربي عن دعمه، لا سيما بعد اجتماع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مع نظيره الإثيوبي ديميكي ميكونن في يونيو 2021م، وإقدام موسكو على نشر مراقبين للانتخابات الإثيوبية بعد انسحاب بعثة المراقبة التابعة للاتحاد الأوروبي على خلفية اتهامات للحكومة الإثيوبية بالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والتوترات السياسية ومضايقة المعارضة حينذاك([10]).
ودل رفع إثيوبيين أعلامًا روسية في احتفالات مطلع مارس الجاري بذكرى معركة عدوة التاريخية الشهيرة ضد الغزاة الإيطاليين على وجود تأييد شعبي إثيوبي للمواقف الروسية بغطاء رسمي غير معلن على الأرجح، وعلى خلفية تداعيات سلبية لدى الرأي العام الإفريقي بشكل عام من تعامل السلطات الأوكرانية بنزعة عنصرية مع الفارّين من البلاد، والتمييز بين “الأوروبيين” وحاملي الجنسيات الأخرى لا سيما الأفارقة([11]).
وفيما يتسق مع هذا المسار كان الموقف الإثيوبي من الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا لافتًا للدوائر الغربية؛ إذ تفادت حكومة أديس أبابا والمسؤولون الإثيوبيون تقديم أي إدانة واضحة للعمليات الروسية، كما لم يفسّر هؤلاء المسؤولون سبب عدم الإدانة([12])؛ ويمكن تفسير هذا التفاهم الروسي الإثيوبي لاعتبارات “التشابه التاريخي” والديني والحاجة المتبادلة بين موسكو وأديس أبابا، إضافة إلى عدم قدرة الأخيرة على حسم مواقف سياساتها الخارجية مع اضطراب مخرجات الحرب الأهلية ومساعي انتهاج سياسات إقليمية ودولية بالغة التناقض.
الأزمة الروسية- الأوكرانية: آفاق تراجع الدور الروسي؟
أشار تقرير حول التصورات الروسية للتعاون الإفريقي- الروسي نشرته مدرسة الاقتصاد العليا Higher School of Economics بموسكو إلى أن الدول الإفريقية تتوجه للحياد (فيما يتعلق بصلاتها مع روسيا في المحافل الدولية)، وأنه لم تفرض أي دولة إفريقية عقوبات على روسيا بعد ضمّها لشبه جزيرة القرم في العام 2014م، وفي التصويت في الأمم المتحدة المتعلق بهذه المسألة؛ فإن أغلب الدول الإفريقية اتخذت حينذاك موقفًا محايدًا؛ ومع غزو أوكرانيا (فبراير 2022م)؛ فإنه من المتوقع –حسب دراسة المدرسة الروسية- في حال استمرار هذا الموقف المحايد ستكون “استثمارات” روسيا في القارة الإفريقية قد حققت مكاسبها بالفعل([13]).
وفي واقع الأمر، جسَّدت المواقف الإفريقية من الأزمة الروسية- الأوكرانية الجارية حالة انقسام واضحة في العلاقات الإفريقية- الروسية بشكل عام؛ فبينما عبَّرت كينيا (العضو غير الدائم بمجلس الأمن) بوضوح تامّ عن معارضتها “للغزو الروسي لأوكرانيا”؛ فإن الاتحاد الإفريقي اكتفى بالتعبير عن “القلق” مما يجري في أوكرانيا، وتجاهل أي نقد للتحرك الروسي.
ودعت جنوب إفريقيا، شريكة روسيا في مجموعة البريكس Brics، موسكو لسحب قواتها من أوكرانيا، وعبرت عن أملها في تسوية النزاع عبر التفاوض.
ومن جهة أخرى وردت تقارير عن دعم رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى فوستين أرتشينج تواديرا Faustin-Archange Touadera لقرار روسيا الاعتراف بإقليمي دونتسك Donetsk ولوهانسك Luhansk دولتين مستقلتين.
كما زار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو (23 فبراير 2022م) موسكو على رأس وفد سوداني في دلالة على صلات أوثق بين البلدين، وتزامن هذا الانقسام “الإفريقي” مع واحد من أوضح أمثلة تغيُّر التحالفات في إفريقيا، وهو إنهاء فرنسا (قبل أسبوع واحد من الهجوم الروسي على أوكرانيا) انخراطها في عمليات مواجهة الإرهاب في مالي، التي أكد رئيس وزرائها شوجويل مايجا توقيع بلاده اتفاقات تعاون عسكري مع روسيا، مع إنكاره تورط شركة “فاجنر” للأمن الخاص المثيرة للجدل([14]).
وحضرت إفريقيا دبلوماسيًّا ومجددًا في قلب الأزمة الروسية الأوكرانية عند تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة (2 مارس الجاري) الذي عدّ الأبرز من نوعه “لإدانة عدوان دولة عضو” طوال نحو أربعة عقود. فقد صوّتت 141 من بين 193 دولة عضو بالأمم المتحدة لصالح إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. وصوتت كل من مصر وكينيا وغانا والجابون ورواندا وجيبوتي والكونغو والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية لصالح القرار، فيما امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت منها بوروندي والسنغال وجنوب السودان وجنوب إفريقيا وأوغندا ومالي وموزمبيق عن التصويت، وفضلت عدة دول إفريقية (وهي إثيوبيا وبوركينا فاسو وإيسواتيني وغينيا وغينيا بيساو والمغرب وتوجو) عدم حضور التصويت بالأساس، وصوتت إريتريا كدولة إفريقية وحيدة ضد القرار (ضمن خمسة دول فقط مع روسيا وبيلاروس وكوريا الشمالية وسوريا)([15]).
ورأى محللون سياسيون أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين كانوا بحاجة إلى “صوت إفريقي موحد” لزيادة الضغط على روسيا، لكنَّ الواقعية السياسية ومؤشرات التصويت الأخير عزّزت توقُّعات تحفُّظ العديد من الدول الإفريقية على توجيه النقد الصريح لروسيا (من بينها أوغندا التي أعلن Muhoozi Kainerugaba ابن الرئيس يوري موسيفيني وقائد القوات البرية الأوغندية دعمه وتفهمه للتحرك الروسي، لكن بلاده لم تصوّت ضد القرار والتزمت الحياد([16]).
لكن في المحصلة يبدو أن النمط التصويتي الإفريقي –بشكل عام- يمثل موقفًا غامضًا في أغلب أرجاء القارة؛ حيث ساد نوع من “الترحيب الصامت” بالغزو الروسي لأوكرانيا حسب مراقبين غربيين في تناقضٍ حادّ مع مواقف الدول الغربية التي وسعت العقوبات واستولت على ممتلكات لمواطنين روس ووصل الأمر لتهديدها علنًا بتدمير الاقتصاد الروسي. ورغم تصويت نحو 25 دولة إفريقية لصالح قرار الأمم المتحدة بإدانة روسيا فإن التصويت نفسه يُعَدّ دالًّا على عمق الانقسامات في استجابة القارة، وألقى مزيدًا من الغموض على مستقبل الدور الروسي في إفريقيا، وهو أمر كان واضحًا منذ بداية اندلاع الأزمة([17]).
خلاصة:
رغم تصاعد الدور الروسي في إفريقيا في الأعوام الأخيرة واحتمالات تمدده في دول عدة في الفترة المقبلة؛ فإن التجربة الغربية- السوفييتية (التي ورثتها روسيا وتحاول توظيفها في سياساتها الإفريقية) تعطي إشارات مغايرة، وربما تدل على توحيد “القوى الغربية” جهودها بقوة لتحجيم هذا الدور على نحو لافت.
ويؤكد التكثيف الإعلامي الغربي، وربما المبالغة الكبيرة، على هذا التوجه كما تم منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وعلى سبيل المثال فإن تقييم وزارة الدفاع الأمريكية السنوي للقوة السوفييتية في “الشرق الأوسط والعالم الثالث” (في عام 1984م) أشار إلى التوسع السوفييتي الهائل في قدراته العسكرية في هذا المضمار، وتحسين الاتحاد السوفييتي قدراته العسكرية على القيام بعمليات عسكرية في أرجاء العالم “منذ غزوه أفغانستان قبل أربعة أعوام”، وإقامته قواعد في نطاق ضرب حقول البترول في الخليج العربي”. واستمرار تقديمه أسلحة “لسوريا وليبيا وكوبا ونيكاراجوا”… وتزايد نفوذه العسكري في العالم الثالث عبر وجود أكثر من 21 ألف مستشار وفني عسكري في قرابة 30 دولة.. ومن ثَمَّ فإن السوفييت قادرون على نشر المشاعر المؤيدة لهم والتأثير في السياسات العسكرية المحلية”([18])، وهو التقييم الذي تهافت تمامًا مع دخول الاتحاد السوفييتي سلسلة من الأزمات الداخلية التي قوَّضت كافة مسارات سياساته الخارجية التوسعية ومنها الإفريقية وفي العالم الثالث ككل.
ورغم خطاب دعم حركات التحرر الوطني الإفريقية في مواجهة القوى الاستعمارية الغربية، وإعادة منجزات الاتحاد السوفييتي في هذا الصدد ضمن آلة الدعاية الروسية في إفريقيا؛ فإن تقارير غربية وإفريقية محلية أشارت إلى تهريب روسيا آلاف الأطنان من الذهب من عدة دول في القارة مكَّنتها من مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا منذ ضمّها لشبه جزيرة القرم (2014م)، ومن المنتظر أن تُمثّل هذه الأطنان “ذخيرة اقتصادية مهمة” لموسكو في الفترة المقبلة([19])، مع توقُّع استمرار المقاربة الأمنية الروسية في القارة، ودعم نُظُم الحكم “الهشّة” في مواجهة ضغوط غربية و”حياد” صيني تقليدي سيتجلّى تمامًا في الساحة الإفريقية، مع اتضاح ملامح “تحالف” غربي متعدّد الأجندات ضد روسيا، ومن ضمنها مجابهة دور الأخيرة في إفريقيا.
[1] Tsygankov, Andrei P. Russia’s Foreign Policy Change and Continuity in National Identity, Rowman & Littlefield, London, 2016, p. 77.
[2] Dimitar Bechev, Nicu Popescu, and Stanislav Secrieru, Introduction (in: Russia Rising Putin’s Foreign Policy in the Middle East and North Africa), I. B. Tauris, London, 2021, p. 4.
[3] How Russia forged closer ties with Africa, The Star, February 27, 2022 https://www.the-star.co.ke/news/africa/2022-02-27-how-russia-forged-closer-ties-with-africa/
[4] Carol Guensburg, Russia Steadily Rebuilding Presence in Africa, Voice of America, February 21, 2022 https://www.voanews.com/a/russia-steadily-rebuilding-presence-in-africa/6452193.html
[5] Ibid.
[6] Ibid.
[7] Joseph Siegle, The future of Russia-Africa relations, Brookings, February 2, 2022 https://www.brookings.edu/blog/africa-in-focus/2022/02/02/the-future-of-russia-africa-relations/
[8] Ibid.
[9] Nosmot Gbadamosi, How the Russia-Ukraine War Impacts Africans, Foreign Policy, March 2, 2022 https://foreignpolicy.com/2022/03/02/russia-ukraine-war-african-students-border-crisis/
[10] Elliot Smith, Russia is building its military influence in Africa, challenging U.S. and French dominance, CNBC, September 13, 2021 https://www.cnbc.com/2021/09/13/russia-is-building-military-influence-in-africa-challenging-us-france.html
[11] Declan Walsh and John Eligon, Shunned by Others, Russia Finds Friends in Africa, The New York Times, March 3, 2022 https://www.nytimes.com/2022/03/03/world/africa/russia-ukraine-eritrea-africa.html
[12] Gelmo Dawit, Ethiopia Calls for Restraint in Ukraine Crisis, Voice of America, March 3, 2022 https://www.voanews.com/a/6468646.html
[13] How Russia forged closer ties with Africa, Op. Cit.
[14] Ibid.
[15] Aggrey Mutambo, 17 African countries abstain from UN vote to condemn Russia invasion, The East African, March 3, 2022 https://www.theeastafrican.co.ke/tea/news/world/17-african-countries-abstain-from-un-vote-russia-3735288
Tom O’Connor, The 4 Nations Who Back Russia’s War in Ukraine, and 35 Who Won’t Condemn It, Newsweek, March 2, 2022 https://www.newsweek.com/4-nations-who-back-russias-war-ukraine-35-who-wont-condemn-it-1684250
[16] Elliot Smith, African leaders condemn Russia, but some remain silent as Moscow’s influence hits home, CNBC, March 3, 2022 https://www.cnbc.com/2022/03/03/ukraine-african-leaders-condemn-russia-invasion-but-some-remain-silent.html
[17] Declan Walsh and John Eligon, Shunned by Others, Russia Finds Friends in Africa, Op. Cit.
[18] Dimitar Bechev, Nicu Popescu, and Stanislav Secrieru, Introduction (in: Russia Rising Putin’s Foreign Policy in the Middle East and North Africa), I. B. Tauris, London, 2021, p. 1.
[19] Tom Collins, How Putin prepared for sanctions with tonnes of African gold, The Telegraph, March 3, 2022 https://www.telegraph.co.uk/global-health/terror-and-security/putin-prepared-sanctions-tonnes-african-gold/