فيما تجاوزت غينيا كوناكري ومالي، بدرجات متفاوتة، مآزق التجربة “الانقلابية” وتحديات إعادة تكوين علاقاتهما الخارجية (الدولية والإقليمية) على نحو راديكالي وفرض أمر واقع في مسار الإصلاحات السياسية والعودة إلى “النظام الدستوري”؛ بادر عسكريون في بوركينا فاسو، المجاورة لمالي، باعتقال الرئيس روك مارك كريستيان كابوري Roch Marc Christian Kabore مساء الأحد 23 يناير الجاري من منزله بعد سلسلة من حركات التمرُّد في العديد من الثكنات للمطالبة بعزل قيادات عسكرية، وتخصيص مزيد من الموارد لجهود المعركة ضد الجماعات الإرهابية.
وأكّد شهود عيان بالعاصمة واجادوجو رؤية طائرة هليكوبتر فوق منزل الرئيس المحتجَز عقب حوادث إطلاق نار متفرقة في العديد من القواعد العسكرية؛ ما أثار على الفور مخاوف من وقوع انقلاب عسكريّ في الدولة التي تعاني من أوضاع اقتصادية وأمنية بالغة الصعوبة([1]).
كما عزّز هذه المخاوفَ على الأرض مشاهدُ انتشار جنود من الجيش البوركيني في مواقع خارج مبنى التليفزيون الرسمي المملوك للدولة، مع انقطاع خدمات الهاتف المحمول والإنترنت منذ مساء الأحد([2]).
خلفيات الأزمة في بوركينا فاسو:
لم يحقّق الرئيس “المعزول” كابوري منذ توليه قيادة البلاد في العام 2015م إنجازات ملموسة للمواطن البوركيني في الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، حيث زادت حالة عدم الأمن في بوركينا فاسو، وهي دولة منخفضة الدخل ذات موارد طبيعية محدودة يقوم اقتصادها على الزراعة التي توظّف 80% من قوة العمل بها، منذ مطلع العام 2019م، وزادت عمليات تشريد السكان داخليًّا منذ ذلك الوقت من 50 ألف نسمة إلى 1.4 مليون نسمة في أغسطس 2021م، مثلوا نسبة تفوق 6% من إجمالي عدد سكان البلاد، كما قادت هذه الأزمة الأمنية إلى تعطل ديناميات عمل الدولة، مثل غلق نحو 2250 مدرسة (نحو 11% من حجم مؤسسات التعليم في بوركينا فاسو) بحلول مايو 2021م.
ورغم فوز كابوري بفترة رئاسة جديدة نهاية العام 2020م؛ فإنه لم يعمد لإصلاحات حقيقية لا سيما أن الحزب الحاكم: الحركة الشعبية من أجل التقدم وحلفائها هيمنوا على أغلبية مريحة في الجمعية الوطنية([3]).
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن النمو في بوركينا فاسو لم يتجاوز في العام 2020م 1.9% بسبب تداعيات جائحة كوفيد-19، وظلت مستويات الإنتاج في قطاع الزراعة مرتفعة نسبيًّا بفضل التركيز على المحاصيل المعيشية والقطن، أما القطاع الثانوي المتمثل في التعدين فإنه شهد ارتفاعًا بفضل التوسع الكبير في تعدين الذهب([4]).
وقد شهدت بوركينا فاسو في الشهور الأخيرة من العام 2021م ومطلع العام الجاري موجة احتجاجات شعبية، عززتها تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة جراء أزمة التشرد الداخلي التي تعد واحدة من أكبر الأزمات المشابهة في إفريقيا حاليًا، وتحالف من جماعات المعارضة ضد نظام “كابوري”؛ مما فرض على الأخير ضغوطًا متصاعدة لإدخال إصلاحات تشمل تكوين حكومة جديدة وتغيير القيادة العسكرية. غير أن نظام “كابوري” لم يكترث بتلك المطالب المتزايدة في ظل دعم كبير ودائم تمتع به من قبل فرنسا (القوة الاستعمارية السابقة في بوركينا فاسو وغرب إفريقيا “الفرنسية”)؛ مما عمق الغضب الشعبي ضد الرئيس والوجود العسكري الفرنسي في البلاد، وفي سياق مشاعر عداء عامة في إقليم الساحل ضد هذا الوجود في الأعوام الأخيرة رغم مساهمة القوات الفرنسية في الحرب ضد الجماعات الإرهابية([5]).
وهكذا دفعت الظروف الأمنية، وعجز نظام كابوري عن تحقيق تقدُّم في ملف “مواجهة الإرهاب”، بالتوازي مع إصلاح مؤسساتي وتعزيز قدرات القوات المسلحة البوركينية؛ إلى تفاقم الأوضاع راهنًا بشكل يكاد يتطابق مع “السيناريو المالي” داخليًّا وخارجيًّا.
الجيش والسياسة: السيناريو المالي
تحركت عناصر الجيش البوركيني (23 يناير الجاري) لإحكام قبضتها على إدارة البلاد بشكل متسارع للغاية، وتمكنت من إرباك السلطات الحكومية وقتذاك التي أنكرت (الأحد) وقوع الانقلاب، وفرضت حظر تجول بدءًا من الثامنة مساء “حتى إشعار آخر”.
ويلاحظ أن حكومة كابوري لم تستجب بجدية للائحة مطالب ركزت على حثّ نظام كابوري على العمل بجدية لتحسين استراتيجية مكافحة الإرهاب، وتقديم مزيد من الدعم للقوات المسلحة ورعاية المصابين وأُسرهم، ولم تُشِر من قريب أو بعيد لنزاع على السلطة مع “كابوري”.
كما أن الأحداث الأخيرة قد جاءت بعد أسبوع من اعتقال 12 شخصًا من بينهم مسؤول عسكري بارز على خلفية اتهام بالتخطيط لزعزعة الاستقرار في مؤسسات الدولة، وبعد نحو شهرين من عزل “كابوري” لعدد كبير من كبار القادة العسكريين (نوفمبر 2021)([6]).
وعقب ذيوع “تكهنات” الانقلاب، تجددت مطالب العسكريين بموارد وتدريبات “مناسبة” لدعم قتالهم ضد الجماعات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة و”داعش”، والمطالبة باستقالة رؤساء وقيادات الجيش والاستخبارات ورعاية أفضل للمصابين وأسرهم، لا سيما أن الجيش قد واجه خسائر ثقيلة على يد المسلحين الذين باتوا يسيطرون على مساحات شاسعة من البلاد، وأجبروا الكثير من الأهالي على الالتزام بما اعتبروه تطبيقًا للشريعة الإسلامية، وتزايد الغضب الشعبي منذ نوفمبر 2021م عندما قتل مسلحون تابعون “للقاعدة” 49 شرطيًّا وأربعة مدنيين في هجوم قرب منجم للذهب في مدينة إيناتا Inata شمالي البلاد، وزاد الغضب الشعبي بعد تقارير عن نفاد الطعام مع القوات المغدورة منذ أسبوعين قبل الحادث.
كما واجه الرئيس “كابوري” منذ إعادة انتخابه رئيسًا لفترة ثانية في نوفمبر 2020م احتجاجات ودعوات متصاعدة لاستقالته، وقام بتغيير رئيس الوزراء وقادة الجيش، لكنَّ مُعارضين لسياساته أكدوا عدم كفاية تلك الخطوات([7]).
وحسم الجيش البوركيني مساء الاثنين (24 يناير) الجدل الذي ثار مبكرًا بتأكيد عزله الرئيس “كابوري” (الذي لم يكشف عن مكان احتجازه أو إقامته حتى الساعات الأولى من 25 يناير الجاري)، وتعليق الدستور، وحل الحكومة والجمعية الوطنية، وغلق حدود البلاد”.
وجاء التأكيد على خلفية ما عدَّه الجيش تدهورًا في الوضع الأمني في البلاد، وعجز كابوري عن توحيدها والاستجابة الفعَّالة للتحديات، وأبرزها الإرهاب.
ووقَّع البيان، الذي أذيع في التليفزيون الرسمي للبلاد، المقدم بول هنري سانداوجو P. Sandaogo مع ملاحظته أن الاستيلاء على السلطة تم دون عنف، وأن من تم اعتقالهم في مكان آمن، وذكر البيان أن الجهة المسؤولة عن هذه التطورات هي الحركة الوطنية للحماية والاستعادة Patriotic Movement for Safeguard and Restoration (MPSR)، وأن الحركة “التي تشمل جميع مكونات الجيش قررت إنهاء ولاية الرئيس كابوري اليوم”، كما أنها سوف تقترح جدولًا زمنيًّا “للعودة إلى النظام الدستوري في إطار زمني معقول بعد مشاورات مع مكونات الأمة المختلفة”([8]).
وعقب بيان الجيش بلحظات غرد حساب الرئيس المعزول روك كابوري على “تويتر” داعيًا الشعب “لتأمين المنجزات الديمقراطية” في هذه اللحظة الدقيقة([9]).
وفيما يبدو سلوكًا تقليديًّا ومتوقعًا في الآونة الأخيرة؛ عبرت الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” عن عميق قلقها إزاء الوضع في بوركينا فاسو، وعبّرت عن تضامنها مع “كابوري، والحكومة وشعبها”، مع ملاحظة أن هذا الانقلاب هو الرابع في إقليم غرب إفريقيا في غضون 15 شهرًا فقط (وكان كابوري نفسه قد وصل للسلطة بعد سقوط الرئيس السابق بليز كومباوري Blaise Compaore في انتفاضة شعبية في العام 2014م وفراره إلى ساحل العاج. وتتم محاكمة “كومباوري” غيابيًّا بتهمة اغتيال الزعيم الثوري الراحل توماس سانكارا)، وأن “إيكواس” لم تقدّم دعمًا ملموسًا لبوركينا في مواجهة تداعيات أزمة العنف التي قادت إلى وفاة آلاف المواطنين وتشريد 1.5 مليون نسمة داخليًّا([10]).
وتبدو من وتيرة تحرك القائمين على “الانقلاب” أنه ثمة أجندة واضحة تم الاتفاق عليها، وأنها تحظى بقبول ضمني من كافة مكونات القوات المسلحة البوركينية (باستثناء القيادات العليا التي فرضها كابوري قبل أسابيع)، كما تحظى تحركات الجيش البوركيني بدعم شعبي واسع (يشبه كثيرًا ما تم في مالي وغينيا كوناكري)، على خلفية المظالم المشتركة بين الشعب والجيش تجاه نظام “كابوري”، كما يتضح جليًّا في الموقف من “الحرب على الإرهاب”، وفشل نظام كابوري (بالتعاون مع فرنسا حسب كثير من أصوات المعارضة البوركينية) طوال الأعوام السابقة في مواجهة ناجعة ضد هذه الظاهرة الخطيرة.
ماذا بعد؟
كشفت الأحداث الأخيرة عن العواقب السياسية لتمدُّد الجماعات الإرهابية في إقليم الساحل، فقد استولى المسلحون على مساحات شاسعة في بوركينا فاسو الحبيسة وجارتيها مالي والنيجر. كما استنزف الصراع موارد الدولة في بوركينا فاسو التي تعد واحدة من أفقر الدول الإفريقية، رغم غناها بالذهب، كما تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في نِسَب المتعرضين للجوع بسبب الصراع والجفاف معًا. ودفعت هجمات المسلحين سكان المناطق الزراعية للخروج من أراضيهم، وتسليم السيطرة على مناجم الذهب غير الرسمية للمسلحين، والذين هاجموا بدورهم “المصالح الغربية” والفرنسية في بوركينا فاسو، بما فيها القوافل التابعة لشركات التعدين الرئيسة([11]).
ويُتوقع أن تدير القيادة العسكرية “للانقلاب” أو الحركة الوطنية للتأمين والاستعادة بقيادة ” سانداوجو” المرحلة المقبلة بثقة كبيرة، مستندة إلى دعم شعبي متراكم، ومتقبل منذ أسابيع وربما شهور لأيّ تحرُّك عسكري لتصحيح مسار البلاد نحو إصلاحات اقتصادية في المقام الأول، ومواجهة أكثر فاعلية لتهديدات الجماعات الإرهابية التي باتت تعيث فسادًا في أجزاء واسعة من البلاد دون تمكُّن القوات الحكومية والإقليمية والفرنسية من تحقيق اختراق في مواجهة الإرهاب وجماعات الجريمة المنظمة في بوركينا فاسو والإقليم برمته.
[1] Mutinying soldiers detain Burkina Faso President Kabore, France 24, January 24, 2022 https://www.france24.com/en/live-news/20220124-burkina-faso-president-kabore-held-by-mutinying-soldiers-sources-tell-france-24
[2] Soldiers seen outside Burkina Faso state TV after mutinies, News.Com.au, January 24, 2022 https://www.news.com.au/breaking-news/soldiers-seen-outside-burkina-faso-state-tv-after-mutinies/news-story/07ae08545498ac49ec204fe272292454
[3] The World Bank in Burkina Faso, The World Bank, Overview, October, 26 2021 https://www.worldbank.org/en/country/burkinafaso/overview#1
[4] Ibid
[5] Emmanuel Akinwotu , Burkina Faso president detained in coup attempt, reports say, The Guardian, January 24, 2022 https://www.theguardian.com/world/2022/jan/24/burkina-faso-government-denies-coup-after-army-mutiny-and-gunfire-near-presidents-home
[6] Ibid.
[7] Bate Felix, Explainer-Why is Burkina Faso’s army mutinying? WHTC, January 23, 2022 https://whtc.com/2022/01/23/explainer-why-is-burkina-fasos-army-mutinying/
[8] Thiam Ndiaga, Burkina Faso army deposes president in West Africa’s latest coup, Reuters, January 24, 2022 https://www.reuters.com/world/africa/burkina-faso-president-kabore-detained-military-camp-sources-tell-reuters-2022-01-24/
[9] Burkina Faso president’s Twitter post calls on people to safeguard democratic achievements, Xinhua, January 24, 2022 http://www.xinhuanet.com/english/africa/20220124/2cb5910a6a444655a7ecf1266f888ff1/c.html
[10] Emmanuel Akinwotu , Burkina Faso president detained in coup attempt, reports say, Op. Cit.