بقلم: سيدي.م.ويدراوغو
كاتب وباحث من بوركينا فاسو
تسارعت الأحداث، الأحد 23 يناير 2022م، بعد فترات طويلة من الاحتقان السياسي وتأزم الوضع الأمني، وأدَّت إلى انقلاب عسكري حيث كانت المعطيات الداخلية والإقليمية تشكل حاضنة موضوعية للحدث وتعزّز تكراره على غرار ما حدث في أكثر من دولة في غرب إفريقيا مؤخرًا.
وعلى الرغم من المخاوف المثيرة من التدهور الأمني المستمر؛ إلا أنه لم يكن من المتوقع حدوث انقلاب عسكري ضد رئيس منتخب ديمقراطيًّا لا سيما بُعَيْد التعديل الوزاري والإجراءات التي قام بها مؤخرًا؛ في محاولة منه لاحتواء الوضع المتدهور.
لكن الواقع جاء على نقيض بعض التوقعات الأكثر تفاؤلًا؛ نتيجة قيام مجموعة من العسكريين بقيادة العقيد بول هنري سانداوغو داميبا، العنصر الأسبق في كتيبة RSP (كتيبة الأمن الرئاسي) التابعة للنظام المخلوع بليز كومباوري، بالانقلاب على الرئيس كبوري؛ فمن هو الرئيس كبوري؟
نبذة عن الرئيس كبوري:
ولد روش (روك) مارك كريستيان كبوري في 25 أبريل 1957م في واغادوغو عاصمة فولتا العليا (بوركينا فاسو)، وهو كاثوليكي الديانة، ونجل أحد كبار الموظفين؛ تشارلز بيلا كابوري، الذي شغل منصب الوزير في الستينيات ثم مناصب رفيعة في BCEAO (البنك المركزي لدول غرب إفريقيا).
بعد نيل روش كبوري بكالوريا، في عام 1975م، التحق بجامعة ديجون في شرق فرنسا؛ حيث درس الاقتصاد وقام بحملات، مثل العديد من زملائه في إطار FEANF (اتحاد الطلاب الأفارقة السود في فرنسا)، وهي منظمة قوية مناهضة للاستعمار؛ مما مهَّد له الطريق إلى الانخراط إلى عالم السياسة، ودفعه بطبيعة الحال إلى المشاركة في ثورة سانكارا بعد عودته إلى ربوع البلاد في أوائل الثمانينيات.
وقادته مسيرته السياسية إلى سدة الحكم عقب انتخابه رئيسًا للبلاد في عام 2015م بعد تولّيه منصب رئيس وزراء بوركينا فاسو بين عامي 1994 – 1996م، ورئيس الجمعية الوطنية لبوركينا فاسو من عام 2002 إلى 2012م، وشغل منصب رئيس CDP (المؤتمر من أجل الديمقراطية والتقدم) الحزب الحاكم آنذاك قبل الانسحاب منه في يناير عام 2014م، والتأسيس مع رفيقي الدرب، ساليفو جالو وسيمون كومباوري، الحزب المعارض الجديد MPP (الحركة الشعبية من أجل التقدم) قبل انتخابه رئيسًا لبوركينا فاسو عام 2015م عقب الانتخابات العامة، وأُعيد انتخابه لفترة أخرى في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 22 نوفمبر 2020م بعد فوزه بـ 57,74.
الإنجازات والاخفاقات:
تم تنصيب روك مارك كريستيان كبوري رئيسًا للبلاد في 29 ديسمبر2015م لفترة رئاسته الأولى بعد فوزه على منافسه زيفرين ديابري بـأكثر من 53% مقابل زهاء 30% بعد حملات انتخابية ساخنة تخللها وعود انتخابية وتصريحات مغرية.
وفي خضم ذلك قطع الرئيس كبوري لنفسه وعودًا سبقت فوزه بالرئاسية، وتمكن من خلالها إقناع الناخبين ومؤيديه للتصويت لصالح حزب MPP (الحركة الشعبية من أجل التقدم) الذي كان يتزعمه. وجاءت الوعود المعنية في إطار البرنامج الوارد في مشروعه الاجتماعي والتنموي على شكل خطة خماسية وشمل: تعزيز المؤسسات الديمقراطية والحكم الرشيد (حصر الفترات على فترتين رئاسيتين غير قابلتين للتجديد، وإلغاء مشروع مجلس الشيوخ)، وتحسين المرافق الصحية العمومية وجعلها في متناول الجميع، مع إيلاء عناية خاصة بصحة المرأة والطفل (العلاج المجاني للمرأة الحامل والطفل دون الخامسة)، وتقديم المزيد من الاهتمام بالتربية والتعليم، مع تحسين مجالي الزراعة والثروة الحيوانية، وتوفير الماء الصالح للشرب، فضلًا عن التأكيد على الانفصال عن النظام المخلوع.
وفقًا للوعود الانتخابية فيما يخص التربية والتعليم كان من المقرر تطبيق مشروع التعليم المجاني والتعليم الإلزامي إلى سنّ 16 عامًا، وتنظيم التعليم الليلي للعمال، عطفًا على بناء قرابة 3600 فصل مدرسي في القرى النائية بدلاً من الفصول المكونة من الأكواخ من القش في إطار نظام المدارس.
من المشاريع الرائدة:
ويتصدر الإنجازات التي حققها الرئيس كبوري في مأموريته الأولى وفترة ما قبل الانقلاب عليه من فترته الثانية: مشروعه الرائد “العلاج المجاني للمرأة الحامل والطفل ما دون سن الخامسة”. وبمقتضى هذا المشروع كان أطفال ما دون الخامسة من العمر يتلقون علاجًا مجانيًّا إلى جانب الرعاية الخاصة للمرأة الحامل في المستشفيات العامة ومراكز الصحية في المدن والقرى؛ مما ساهم في تقليل وفيات الأطفال الرُّضع، وتخفيف معاناة الأسر من تكاليف الإنجاب؛ فضلاً عن أن ميزانية وزارة الصحة شهدت ارتفاعًا بمعدل 13,65% مقارنة بنظيرتها عام 2018م وشهدت ارتفاعًا إضافيًّا بمعدل 13,89% في ميزانية 2022م.
ولطالما ذكر الرئيس الأسبق هذا الإنجاز في أكثر من لقاء صحفي؛ للتأكيد على مدى الأولوية التي يوليها للطفل البوركيني وأمه. وعلى الرغم من اعتبار مناوئيه المشروع مناورة سياسية وخطوة شعبوية؛ إلا أن للأسر البسيطة وجهة نظر إيجابية حيال المشروع.
أضف إلى ذلك العديد من الإنجازات الأخرى على غرار إنشاء مرافق الصرف الصحي، وتعزيز الطاقة، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وهو مشروع حظي باهتمام خاص على الرغم من مواجهته التحدي الهائل المتمثل في تضخم الطلب الطارئ بسبب نزوح الآلاف نحو المدن نتيجة الاعتداءات الإرهابية التي طالت العديد من المناطق، وخاصة في الشمال.
وفيما يخص الأولوية التي تحظى بها التربية والتعليم في برنامج الرئيس؛ فقد نتج عن ذلك اتخاذ خطوات ملموسة في هذا المجال الحيوي؛ فتم الشروع في بناء فصول دراسية للمراحل الإعدادية والثانوية في جميع المدراس الابتدائية، وبناء جامعات إضافية في المحافظات وكبريات المدن؛ لتخفيف معاناة أولياء أمور الطلبة من تكاليف دعم أبنائهم لمواصلة مسيرتهم الأكاديمية، فضلاً على تعزيز الجهود فيما يخص التعليم المزدوج: العربي-الفرنسي، كما نال قطاع التربية والتعليم نصيب الأسد من ميزانية العام الجاري بمعدل 30.09%.
وشأنه في ذلك شأن المجال الأمني؛ حيث شهدت ميزانية وزارة الدفاع ارتفاعًا ملموسًا بمعدل 23,41% من 169,9 مليار فرنك سِيفا عام 2018م إلى 209,7مليار، و20% في الميزانية الأخيرة. وثمة قطاعات أخرى حظيت باهتمام متفاوت حسب الأولية.
بعض الإنجازات على الصعيد الدبلوماسي:
حققت دبلوماسية حكومة كبوري، نجاحًا نسبيًّا، وإنجازات من خلال تعاملها مع الملفات الشائكة والمواقف الحساسة على الصعيد الدبلوماسي على المستوى الإقليمي والدولي؛ وذلك من خلال إعادة بناء الثقة وحسن الجوار مع الدول الشقيقة بعد عقود من التوتر نتيجة السياسة السابقة الناجمة عن الغموض السائد في التعامل مع دول الجوار، وغيرها.
وعلى الصعيد الدولي استطاعت الدبلوماسية البوركينية التعامل بالحنكة مع الملفات الشائكة على غرار الحفاظ على علاقة بوركينا فاسو الوطيدة مع المملكة العربية السعودية ذات المعيار الثقيل على مستوى الخليج والعالم من جهة، دون خسارة قطر وتركيا من جهة أخرى؛ فضلاً عن وقوفها مع القضايا العادلة وذات الاهتمام المشترك في ظل احترام الأعراف الدبلوماسية، مع احترام السيادة الوطنية والمبادئ التي يؤمن بها الشعب البوركيني في تعامله مع الآخر على كافة الأصعدة.
بعض الإخفاقات:
وعلى نقيض الإنجازات المشارة إليها، تُوجب ضرورة الالتزام بالموضوعية إيراد المجالات التي أخفقت فيها حكومة روش مارك كريستيان كبوري؛ والتي أدت إلى الانقلاب العسكري على نظامه.
ويبدو أن العثرة الأولى للنظام تمثلت في التشخيص المشوّه عن جذور الشرارة الأولى للأزمة الأمنية؛ حيث كان التركيز على نظام كومباوري المخلوع باعتباره هو من يقف وراء الأحداث المأساوية التي أربكت البلاد؛ بدلاً من قراءة تفاصيل المعطيات بشكل أكثر موضوعية وعلمية للعكوف على المسببات الحقيقية.
وعلى الرغم من أن بعض المحللين لم يستبعدوا الاحتمال المعني لكن تشابك الأحداث وطريقة إدارة الأزمة حتى في صفوف كبار العسكريين (منع إمداد الجيش بأبسط مقومات الحياة) تثبت أن جذور المشكلة لا تقتصر على المؤامرة الخارجية؛ بما فيها احتمال تورط النظام المخلوع في زعزعة استقرار البلاد؛ للانتقام من النظام القائم.
أضف إلى تلك العثرة، موقفه من قادة المسلحين الذين اجتمع بهم بُعَيْد تنصيبه، وتطرقوا إلى بعض القضايا؛ فطالبهم بالتواصل مع الرئيس المخلوع في منفاه في كوت ديفوار؛ بدلاً من طلب المهلة منهم للمشاورة مع المعنيين بالقضية في الداخل لمعرفة الخطوة المناسبة للتعامل مع الوضع.
إذْ لم يكن ضروريًّا إبداء القناعة الشخصية أمام موقف قد يُشكّل الخطأ في القرار فيه كارثة لا يمكن التكهن بتداعياتها.
ويتصدر أهم الملفات الداخلية التي فشلت فيها حكومة كبوري ملفا المصالحة الوطنية والأمنية؛ حيث لم تنجح الخطوات المتخذة في تحقيق المصالحة؛ بما فيها تعيين زفرين دابري، المعارض وزيرًا لهذا الخصوص، ولا تحقيق رأب الصدع الاجتماعي الناجم عن تداعيات الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام بليز كومباوري، ثم زاد الطين بلة مباغتة ظاهرة الإرهاب على المشهد البوركيني التي ساهمت بشكل سلبي في تقويض ركائز التعايش السلمي الذي طالما اشتهرت بها البلاد على مر الأجيال.
تدهور الوضع الأمني يقضي على النظام الديمقراطي:
حظي الاهتمام بالملف الأمني على نصيب الأسد في أولويات الرئيس كبوري الذي يتولى السلطة منذ 2015م، وأعيد انتخابه في 2020م نتيجة وعوده بإعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، غير أن الاحتجاجات تزايدت بشدة نتيجة تداعيات الأعمال الإرهابية، وعجزه عن مواجهتها.
وللتذكير، شهدت الفترة الرئاسية الأولى لروك مارك كريستيان كبوري اعتداءات إرهابية طالت العاصمة واغادوغو بعد فترة وجيرة من تنصيبه، واستمرت في التنامي والانتشار إلى نهاية حكمه على يد الانقلابيين، وخلفت الهجمات التي تستهدف مدنيِّين وعسكريّين بشكل متزايد حوالي 2000 ضحية، وتهجير أكثر من مليون ونصف نازح؛ وفق المصادر الرسمية.
لكن مجازر صلحان وأخواتها لا سيما مجزرة إيناتا التي حدثت بعد حرمان عناصر الجيش من الإمدادات الغذائية لفترة طويلة خلق جوًّا معكرًا، واستياءً شعبيًّا منقطع النظير، وغضبًا عارمًا في الشارع البوركيني ضد الرئيس، فضلاً عن تعزيزها التساؤلات حول مقدرة الرئيس من مواجهة طاعون الإرهاب. ومنذ ذلك الوقت ظهرت الأصوات المطالبة برحيل الرئيس من المنظمات المدنية قبل انضمام الأحزاب المعارضة إلى تلك الأصوات لاحقًا.
وفي خطابه الأخير للشعب، بعد مجزرة إيناتا ومقتل الحاج يورو (إسماعيل غنامي) البطل الوطني وزعيم VDP (المتطوعون للدفاع عن الوطن)؛ وعد الرئيس باتخاذ إجراءات ملموسة تلبية لتطلعات الشعب. وفي هذا السياق، شرع الرئيس كبوري بتعديل وزاري شمل التقليل من عدد الوزارات، وتبديل رئيس الوزراء الأسبق بلاساني زيربو، الخبير البوركيني الأممي، وروزين كوليبالي بدلاً من ألفا باري في الخارجية.
لكن تلك التدابير لم تُؤتِ أُكُلها؛ حيث لم يلبث أن خرج الشعب للاحتجاج على طريقة إدارة الأزمة الأمنية وتنامي أعمال العنف والتهجير ضد المواطنين من المجموعات الإرهابية؛ إلى أن بلغ السيل الزبى مع التمرد العسكري، الذي أدى إلى الإطاحة بكبوري المنتخب ديمقراطيًّا.
من يقف وراء الانقلاب ضد روك كبوري؟
تباينت وجهات النظر في أوساط المحللين المحليين حول الإجابة عن هذه التساؤلات، فبينما يرى البعض أن الانقلاب كان متوقعًا نتيجة المعطيات والبيئة المحيطة التي شهدت الأحداث المشابهة، عطفًا على احتقان الوضع الأمني الذي يتفاقم يومًا بعد يوم؛ يرى الآخرون أن انتماء زعيم الانقلابيين، هنري-بول سانداوغو داميبا، إلى RSP (كتيبة الأمن الرئاسي) الأسبق لكومباوري، وتم حله عقب انقلاب دنجيري الفاشل، قد يشكل حافزًا موضوعيًّا في القيام بالانقلاب، وثمة وجهة نظر أخرى ترى احتمال تورط الأيدي الخفية في الانقلاب الراهن.
الموقف الشعبي من الانقلاب:
تتفاوت المواقف حيال الانقلاب على المستوى الشعبي؛ فبينما يرى البعض أنه كان من المفروض إعطاء مهلة للرئيس والحكومة الجديدة لإثبات جدارتها، وتطبيق الرؤية الجديدة التي تبناها الرئيس من خلال التعديل الوزاري الأخير؛ يرى الآخرون أن التعديل ما هو إلا وسيلة لكسب المزيد من الوقت؛ لا سيما بعد العديد من التغييرات على مستوى قيادة الجيش والمسؤولين الأمنيين. وقد وجَّه المجتمع المدني تحذيرات للانقلابيين من ارتكاب مثل تلك الأخطاء.
لكن النُّخبة المثقفة ترى أن العودة إلى عصر الانقلابات ليست في صالح تطلعات الشعوب إلى الديمقراطية والحكم الرشيد، فضلاً عن أنها تحرم الشعوب من حرية اختيار مَن يقود مصيرها.
سيناريوهات المستقبل:
تتجه الأنظار إلى إعلان الإجراءات الأولية التي ستتخذها اللجنة العسكرية التي من شأنها تسليط الضوء على ملامح التوجه السياسي قبل الحديث عن الاحتمالات المتوقعة، ومعرفة المزيد من طبيعة المرحلة الانتقالية التي ستتمخّض من هذا الانقلاب.
وفي السيناريوهات المحتملة يتوقع البعض أن تتضمن رؤية المجلس العسكري تصورًا واقعيًّا ومنطقيًّا يمكن تمريره واستيعابه من الشعب، أو أن تحتوي على إيحاءات استبدادية أو انتقامية؛ فتصطدم بالرفض الشعبي الذي لم يعد قادرًا على تحمُّل المزيد من التلاعب بمصيره.
ويأتي على رأس التحديات التي يتعين على المجلس العسكري مواجهتها: منهجية التعامل مع الرغبة الشعبية الأكيدة في الحرية، وإيجاد شريك استراتيجي مُوازٍ أو بديل على غرار الخيار الذي اتخذه نظيره المالي؛ وهو الشيء الذي يتطلب جرعة كافية من الجرأة لتحقيقه، وخاصةً في ظل انكماش الحضور الفرنسي؛ نتيجة عودة الدُّبّ الروسي إلى المشهد السياسي في منطقة الساحل.
يظل الشعب البوركيني يعلق آماله على المجلس العسكري في أن ترتقي جرأته إلى مستوى التحديات الراهنة، وأن يطابق الاسم (الحفاظ) و(الاستعادة) المسمى، لكن هل الواقع سيكون على مستوى المأمول؟