خرج آلاف المتظاهرين في العاصمة باماكو ومدن أخرى أبرزها تمبكتو شمالا وبوغوني جنوبا في مالي يوم الجمعة 14 يناير للتظاهر احتجاجا على عقوبات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) التي فرضتها على البلاد بعد التأخر المفترض في خارطة نقل السلطة للمدنيين من قبل الحكم العسكري.
وتأتي تلك التظاهرات استجابة لنداء من المجلس العسكري الحاكم الذي دعا غداة العقوبات التي فرضتها إيكواس إلى تعبئة عامة في أنحاء التراب الوطني، حيث حض الكولونيل أسيمي غويتا -الذي نُصب رئيسا انتقاليا إثر قيادته انقلابين في أغسطس 2020 بعد الإطاحة بابراهيم ابوبكر كيتا، ومايو 2021 بعد الاطاحة بالرئيس الانتقالي السابق باه انداو- مواطنيه على الدفاع عن الوطن.
وفي هذا التقرير نرصد السياق العام الذي جرت فيه تلك التظاهرات الشعبية, ومواقف الأطراف الفاعلة في الأزمة، وردود الفعل الدولية المصاحبة لها, خاصة فرنسا وروسيا, وكيف كان موقفهما انعكاسا لموقف السلطات والتظاهرات منهما.
مشروع التأسيس وتمديد الفترة الانتقالية:
تعود بداية الأزمة، في عهدها القريب، إلى المؤتمر الوطني، الذي نظمته الحكومة الانتقالية في مالي يوم 2يناير 2022، والذي اختتم أعماله في باماكو باعتماد توصية بتمديد برنامج الانتقال السياسي بفترة تتراوح من ستة أشهر إلى خمس سنوات.
وكانت الحكومة الانتقالية، التي يقودها الرئيس أسيمي غويتا، قد أقرت جدولا زمنيا من 18 شهرا من المفترض أن يكلل بانتخابات في فبراير 2022 ، بعد الانقلاب العسكري المنفذ خلال أغسطس 2020.
ثم تراجعت الحكومة الانتقالية عن تلك الخارطة بدعوى ضرورة الـتأسيس لهذه المرحلة الانتقالية ومراعاة ضروريات الوضع في البلاد التي تعاني من هجحمات ارهابية, متزامنة مع جائحة فيروس كورنا.
وبرر المجلس العسكري الحاكم هذا التغيير بأنه غير قادر على التزام هذه المهلة، مشيرا إلى انعدام الاستقرار المستمر في البلاد التي تشهد أعمال عنف، إضافة إلى ضرورة تنفيذ إصلاحات على غرار إصلاح الدستور، كي لا تترافق الانتخابات مع احتجاجات كما حصل في الانتخابات السابقة.
عقوبات ايكواس..قسوة غير مسبوقة:
عقب صدور هذا التوصية ورفعها إلى المنظمة الإقليمية قررت عقد دورة استثنائية مزدوجة لمؤتمر لرؤساء الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا, حيث فرضتا مجموعة من العقوبات في التاسع من شهر يناير2022، تشمل غلق حدود الدول الأعضاء في إيكواس مع مالي وفرض حظر على التجارة (لا يشمل المواد الأساسية) والتعامل المالي معها، فضلا عن تجميد أصولها في بنوك غرب أفريقيا، إضافة إلى استدعاء سفراء الدول الأعضاء لدى باماكو.
وتعتقد المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أن اقتراح المجلس العسكري في مالي إجراء الانتخابات الرئاسية عام 2026 “غير مقبول إطلاقا”؛ لأن ذلك “يعني أن حكومة عسكرية انتقالية غير شرعية ستأخذ الشعب المالي رهينة خلال السنوات الخمس المقبلة، وقالت أنها لن ترفع العقوبات إلا بشكل تدريجي، عندما تقدم السلطات المالية جدولا زمنيا “مقبولا” وعندما يُلاحَظ إحراز تقدم مُرضٍ في تنفيذه.
وتعد هذه العقوبات هي أكثر صرامة من تلك التي فرضت بعد الانقلاب الأول في أغسطس 2020, وهو ما حدا بالمراقبين إلى اتهام المنظمة الاقليمية بتسليط العقوبات الاقتصادية والسياسية بصورة غير عادلة لأهداف مرتبطة بالمصالح الأجنبية، والفرنسية على وجه التحديد؛ خصوصًا وأنّ إيكواس لم تفرض ذات العقوبات على غينيا التي شهدت انقلابًا في سبتمبر 2021؛ ملمحة إلى النفوذ الفرنسي القويّ داخل أروقة إيكواس؛ ممّا يؤثر على استقلالية قرارها, وهي القوة الاستعمارية السابقة الحاضرة عسكريا في منطقة الساحل.
الاثر المتوقع للعقوبات:
ومن شأن هذه العقوبات أن تؤثر بشكل خطير على اقتصاد مالي غير الساحلي الذي يعد بين الأفقر في العالم ويعاني أزمة أمنية ووبائية، خصوصًا أنّ جمهورية مالي تعد دولة حبيسة لا تملك إطلالة على البحر، كما أنّها تعتمد على كل من السنغال وكوت ديفوار في مبادلاتها التجارية، وبالتالي تشكّل هذه العقوبات ضغطًا سياسيًا واقتصاديًا هائلا على البلاد يزيد من مشكلاتها المتفاقمة.
رد فعل الحكومة الانتقالية:
الحكومة في مالي كان لها شأن آخر مع تلك العقوبات، إذ اختارت أن تسير في اتجاهين متوازيين:
الاتجاه الأول هو رفض تلك العقوبات والتصعيد في مواجهة ايكواس والرد عليها بالمثل، حيث ردت الحكومة في بيان شديد اللهجة على العقوبات المفروضة عليها باستدعاء سفرائها من بلدان ايكواس، وإغلاق حدوده البرية والجوية معها, وقالت الحكومة الانتقالية إنّها ستحتفظ لنفسها بحق مراجعة مشاركتها داخل هيئاتها، متهمة الإيكواس بأنها لم تأخذ الوضع في البلاد بعين الاعتبار، قبل قرارها بفرض عقوبات التي اعتبرتها غير شرعية، ولا تستند على أي أساس قانوني ينظم عمل المجموعة، كما تتعارض مع أهدافها كمنظمة إقليمية إفريقية تستهدف تحقيق التضامن, وأعربت عن أسفها لتحول المنظمة الاقليمية إلى “أداة في يد قوى من خارج المنطقة لها مخططات مبيتة”, في إشارة لا تخطئها العين إلى فرنسا.
ورغم هذه اللهجة الخشنة في الرد إلا أنها لم تغلق الباب أمام المنظمة الإقليمية, بل صرحت بأن باب الحوار ما زال مفتوحا للوصول إلى حل للأزمة المتفاقمة.
الاتجاه الثاني هو تحريك الشارع الذي ينتفض غضبا من فرنسا ودورها المشبوه في البلاد, ومن ايكواس وعقوباتها التي تنغص عليه معيشته, ومن ثم كانت انتفاضة الشعب، حيث نظم المواطنون مسيرة حاشدة في العاصمة باماكو، نددوا بالعقوبات الصارمة التي فرضتها تلك المنظمة, مطالبين برفعها على الفور.
والمدهش أن تلك التظاهرات نددت بالوجود الفرنسي, ورات في وجودها أرضية واسعة للممارسات الارهابية, معلنة في شعاراتها دعمها لتوجهات روسيا الداعمة لقضايا بلادهم, وحمل المتظاهرون خلال التحرك ملصقات شكروا فيها روسيا وجهودها المبذولة في مالي.
ولايخفى على متابع أن هذه الأجندة التي ظهرت في المسيرات والتظاهرات الشعبية هي ذاتها الأجندة التي تحملها حكومة غويتا التي لم تعد ترغب في بقاء المستعمر الفرنسي, بل واتهمته في أكثر من مناسبة بأنه داعم رئيس للارهاب في البلاد, ومن ثم رات في الوجود الروسي أملا ويديلا يمكن الاعتماد عليه في خروج البلاد من المستنقع الأمني وتقليصا أو انهاء للدور الفرنسي المشبوه.
وقد يكون صحيحا أن هذه التظاهرات خرجت استجابة لنداء العسكر, وأنها خرجت اعتراضا على الوجود الفرنسي الاستعماري البغيض, وكذلك شجبا لقرارات وعقوبات الايكواس, ولكن قد لا يبدو مسلما أنها خروجها يضفي نوعا من الشرعية على الانقلاب العسكري المزدوج, أو موافقه وتسليما بخارطة الخمس سنوات انتقالية, وهي فترة لاشك طويلة للغاية, وقد تضفي في نهايتها إلى حكم عسكري ممتد, أو حكم مدني مزيف يغطي على الحكم العسكري الممسك بدولاب الحكم على وجه الحقيقة.
وقد فجرت تلك التظاهرات موجة الغضب على الاستعماري الفرنسي, حيث تظاهرت الجالية المالية والإفريقية في باريس أمام السفارة الغانية رفضا للحصار وتنديدا بالقرارات, وتم تخصيص ٢٢ من هذا الشهر يناير 2022 لتنظيم مظاهرات على مستوى القارة والعالم أمام سفارات فرنسا في العالم.
ردود الفعل الدولية:
هذه الاجندة التي يحملها عسكر مالي ودعت اليها التظاهرات الشعبية لاقت ردود فعل دولية متعددة, حيث عبرت فرنسا، عن دعمها لعقوبات إيكواس, وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن فرنسا والأوروبيين المنخرطين عسكريا في مكافحة المسلحين في المنطقة، يريدون البقاء في مالي ليس تحت أي ظروف!
وأكد السفير الفرنسي لدى منظمة الأمم المتحدة نيكولا دو ريفيير دعم باريس الكامل لجهود المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، معتبرا أن السلطات المالية لم تحترم مطالب المجموعة والالتزامات المطلوبة منها على صعيد عودة سريعة إلى العملية الديمقراطية.
والغضب الفرنسي في هذا الإطار مفهوم للغاية, فجماع ما حصل في مالي من تظاهرات مناهضة, وعسكر ممانعون لم تتوقعه فرنسا ولم ترغب فيه، وقد ما حاربته طوال عقود عبر تمرير من تراه طوع بنانها إلى الحكم, مع كبت الشعوب وقهرها بحكم استبدادي ديكتاتوري حتى لا يكاد يسمع لها صوت أو يخرج منها رأي.
أما روسيا فقد طالبت بإبداء تفهم لموقف السلطات المالية, ودعا مساعد السفير الروسي لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي خصص لغرب إفريقيا ومنطقة الساحل، إلى إظهار الاحترام الضروري لجمهورية مالي، وجهودها الهادفة إلى إعادة النظام في بلادهم, داعيا إلى تفهم الصعوبات التي تواجهها السلطات المالية في الإعداد للانتخابات، فمن دون عودة سلطة الدولة إلى العديد من مناطق البلاد، لن يكون ممكنا الأخذ بصدقية نتائج الانتخابات, وفقا لرؤيه بلاده.
وهذا الموقف الروسي المتوافق مع رؤية الحكم العسكري في مالي هو نكاية في الوجود الغربي الذي بدأ في الانحسار من مالي, وتمهيدا للوجود الروسي المتوقع, سواء في شكل شركات أمنية (فاغنر), أو دعم مباشر من قبل القوات الروسية.
إن تلك التظاهرات الشعبية قد تشكل بداية حقيقة لخروج المستعمر الفرنسي وانحسارا لدوره في افريقيا جنوب الصحراء, وقد تشكل نواه لشرعية شعبية تشكل رافعة لحكم مستقر في قادم الأيام.