تكتظ إفريقيا منذ عقود بمجموعات ارهابية، غير أن تزايد الترابط -الأيديولوجي والحركي- بين هذه المجموعات (لا سيما كل من ” تنظيم الدولة في الصومال” و”تنظيم الدولة في إقليم غرب إفريقيا”)، واختراقاتها الإقليمية اللافتة في الشهور الأخيرة عبر الحدود الوطنية أصبح يمثل تهديدًا حقيقيًّا لدول لم تكن “تقليديًّا” في دائرة التهديدات الإرهابية المستمرة مثل أوغندا ورواندا وساحل العاج وغيرها.
وفي ظل اضطراب المقاربات المحلية والدولية لظاهرة الإرهاب وجنوح السلطات الحكومية في الدول المتضررة نحو “تسليح” جماعات من السكان المحليين؛ فإن القارة على وشك أن تشهد موجة جديدة، أكثر عنفًا واتساعًا، من الأنشطة الإرهابية كما اتضح في الأسابيع الأخيرة من العام الجاري.
ملامح التمدد الأولية:
تشهد إفريقيا في الآونة الأخيرة إرهاصات موجة كبيرة ومتصاعدة من الأنشطة الإرهابية في أرجائها؛ ودل على ذلك تجدد عمليات خطف التلاميذ وتفجير المدارس في غرب إفريقيا، وضرب موجة إرهاب عدة دول للمرة الأولى منذ سنوات، منها ساحل العاج التي رصد الاجتماع الأخير “لدراسة الإنذار المبكر لانتشار التطرف العنيف في دول “إيكواس” الساحلية” (أبوجا 22 نوفمبر الفائت) تمدد النشاط الإرهابي إليها من جارتها بوركينا فاسو منذ العام 2020م الذي شهد أول العمليات الإرهابية بها منذ العام 2016م.
أما في شرق إفريقيا، فكانت أوغندا أحدث وجهات الأنشطة الإرهابية؛ حيث بدأ “تنظيم الدولة” في أكتوبر الفائت بالإعلان عن تبنّي هجوم على مركز للشرطة دون مقتل ضحايا. وفي منتصف نوفمبر أعلن التنظيم مسؤوليته عن هجوم في قلب العاصمة كمبالا أدَّى إلى مقتل ثلاثة أفراد بينهم شرطيين وإخلاء مقر البرلمان الأوغندي مما أدَّى إلى صدمة وسط دولة معروفة بتكوينها “منطقة حاجزة” ضد تمدد أنشطة المسلحين في شرق إفريقيا، ودأب رئيسها يوري موسيفني في دعم احتياجات الأمن الغربي في الإقليم.
ويمثل هذا التطور اختراقًا لافتًا من عدة نواحٍ منها: إعلان “تنظيم الدولة” مسؤوليته عن الحادث الذي قام به عناصر من “القوات الديمقراطية المتحالفة” Allied Democratic Forces (ADF) (حسب تأكيدات عناصر استخباراتي وشرطية أوغندية)، وهي جماعة إرهابية مكونة بالأساس من عناصر أوغندية نشطت في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ممّا يمثّل بدء استراتيجية “إرهابية” في العمل داخل الأراضي الأوغندية؛ كما يستكمل حضور “تنظيم الدولة” في أوغندا تحرُّكها الكبير والمرتقب فيما تصنّفه الأولى باسم “إقليم وسط إفريقيا” مع استهداف رواندا، التي تقود جهود مكافحة الإرهاب في شمالي موزمبيق، مطلع أكتوبر الفائت بمحاولة لم تُسفر عن ضحايا يتوقع أن تليها محاولات أخرى.
بحيرة تشاد وتصعيد ما بعد مقتل “أبو بكر شيكاو”:
تكثفت في نوفمبر الفائت عوامل تبدّد آمال دول حوض بحيرة تشاد في تحقيق انتصار مستدام على جماعة بوكو حرام بعد إعلان مقتل زعيمها أبو بكر شيكاو في مايو 2021م؛ حيث أعلنت قيادة قوات مكافحة الإرهاب في الإقليم من الكاميرون ونيجيريا وتشاد (18 نوفمبر) عن تزايد الهجمات الإرهابية على المواقع العسكرية التابعة لها، وأن تنظيم “الدولة في إقليم غرب إفريقيا” ISWAP يغيّر على نحو كامل “من تكتيكات الإرهاب لكسب تعاطف المدنيين في حوض بحيرة تشاد”، وأنه يستهدف أن يحلّ محل “بوكو حرام” التي ضعفت بقوة بعد مقتل زعيمها.
ودفع هذا التطور، واحتمالات نجاح التنظيم في استمالة قطاعات من المدنيين مما يزيد من تعقيد مواجهة الإرهاب، إلى عقد مسؤولين عسكريين بقوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات MNJTF (ومقرها العاصمة التشادية إنجامينا، وتتكون من 10 آلاف جندي من النيجر والكاميرون وتشاد ونيجيريا) اجتماعًا بالكاميرون منتصف نوفمبر “لصياغة استراتيجية إزاء التهديد الإرهابي المستحدَث”، مع تأكيد قوة المهام لجوء التنظيم الإرهابي إلى “تقديم فرص عمل، وظروف معيشة أفضل لإقناع الشباب المهمَّش والعاطل بالانضمام له”.
وقادت المخاوف من ترسيخ “التنظيم” أقدامه، والتحذيرات الدولية المتكررة من عملية إعادة هيكلة التنظيم لنفسه في الإقليم، السلطات الكاميرونية إلى “عسكرة” كاملة للخدمات المقدَّمة لأهالي المنطقة الحدودية مع نيجيريا وتشاد؛ حيث استبدل المدرسون والأطقم الطبية والإداريون المدنيون بعناصر عسكرية في أرجاء قرى هذه المنطقة، إلى جانب بدء السلطات في تكوين “ميليشيات” من فلاحي هذه القرى لمواجهة أيّ أنشطة إرهابية حالية أو محتملة.
شرق إفريقيا: ساحة التمدد الإرهابي المرتقب؟
يمكن رصد نقطتي ارتكاز للتمدد الإرهابي الجاري في شرق إفريقيا، وهما الصومال الذي شهد تراكمًا في النشاط الإرهابي؛ لا سيما منذ التدخل العسكري الإثيوبي فيه في العام 2006م الذي قاد لانتشار أنشطة جماعة الشباب في أوغندا وجيبوتي وكينيا (دون حوادث تذكر في الأراضي الإثيوبية).
أما النقطة الثانية فتتمثل في مناطق شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ نهاية الحرب الأهلية بها في العام 2003م، ورسوخ وجود جماعتي القوات الديمقراطية المتحالفة ADF وجيش الرب للمقاومة Lord’s Resistance Army (الأوغنديتين) في هذه المناطق طوال الأعوام الفائتة. وارتبطت استجابات حكومات المنطقة لهذه التهديدات بمستوى سيطرتها على الأراضي وهو مستوى متدنٍ للغاية، وقد لا يوجد في بعض الحالات، مع ملاحظة العلاقة بين ضَعْف السيطرة الحكومة وتكليف قوات الجيش بمهام مكافحة الإرهاب، مقابل تكليف قوات الشرطة في الدول التي تشهد سيطرة معقولة على أراضيها النائية.
لكنَّ مراقبين يلاحظون فجوة خطيرة في جهود مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا تتمثل في استمرار تلقّي دول بعينها (مثل كينيا ورواندا) مساعدات منتظمة من المنظمات الدولية والشركاء الدوليين في مجال مكافحة الإرهاب، بينما لا تحظى بقية دول الإقليم بمثل هذا الاهتمام، ممَّا يعزّز فرص تمدُّد التطرف العنيف والجريمة المنظّمة من الإقليم إلى منطقة إفريقيا الجنوبية.
وتمثل الأزمة الإثيوبية وتداعياتها الإقليمية المرتقبة عاملًا كبيرًا في تمدُّد الأنشطة الإرهابية في شرق إفريقيا، وتمكُّن الجماعات الإرهابية من “التواصل الجغرافي” فيما بين عناصرها؛ وتجسَّدت هذه المخاوف في تقارير متواترة في أواخر نوفمبر 2021م عن دخول عناصر “بأعداد غير محددة” من جماعة الشباب الصومالية إلى الأراضي الإثيوبية، وعبرت الوساطة الكينية في “الأزمة الإثيوبية” عن مخاوفها من هذا التمدد الإرهابي (في الإقليم) الذي عانت منه الحكومة الكينية لا سيما في مناطقها الشمالية الحدودية مع الصومال وإثيوبيا.
مواجهة الإرهاب في إفريقيا: أُفُق للمقاربات البديلة؟
ظلت مسألة الإرهاب في إفريقيا قيد تناول تجريدي وسطحي، متعمّد في واقع الأمر، على نحو يفيد براجماتية خطابات سياسية داخلية (في الدول المتضررة منه) وخارجية (شركاء هذه الدول في سياقات عدَّة)، ويوحي في محصلته بأن ظاهرة الإرهاب مجرد تهديد أمني يمكن مواجهته بتعبئة الموارد لتقوية القوات الشرطية والعسكرية بالدول المعنية. لكن تصاعدت في الآونة الأخيرة خطابات ومقاربات بديلة، حتى مِن قِبَل رؤساء دول إفريقية ورئيسا الولايات المتحدة وفرنسا، للظاهرة باعتبارها ذات صلة وثيقة، تأثرًا وتأثيرًا، بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعلى سبيل المثال لفت مسؤولون بمجلس الأمن الدولي نهاية أكتوبر الفائت إلى الأهمية القصوى لتحقيق السلام والأمن في إفريقيا التي تواجه “عددًا من الاتجاهات المقلقة” حسب أمينة محمد نائبة رئيس المجلس. ولاحظت أيضًا –فيما يخص التهديدات الإرهابية المحتملة في شرق إفريقيا- أن “الصراع المستمر في إقليم التيجراي شمالي إثيوبيا” يُوفّر فرصًا لانتشار الإرهاب والتطرف العنيف في بقية الإقليم، ورأت ضمن تناول موسَّع لقضايا الإقليم أن التنمية المستدامة والشاملة تُمثّل الفرصة الأفضل “لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع وتحقيق مستقبل سلمي ومزدهر للجميع”.
كما يمكن ملاحظة تصاعد هذه النبرة في نيجيريا (الدولة الإفريقية الأكثر تضررًا من ظاهرة الإرهاب منذ قرابة عقد كامل)؛ حيث أكد البروفيسور المعروف توين فالولا Toyin Falola (منتصف نوفمبر) على حاجة “الزعماء الأفارقة لتبنّي طرق جديدة لمعالجة (ظاهرة) الإرهاب”، معتبرًا أنَّ القارة تواجه جائحة مزدوجة (كوفيد-19 والإرهاب) أثرت على التعليم بشكلٍ مباشر في دولها (لا سيما تعليم الفتيات)”، وأن “محاربة الإرهاب ليست معنية فحسب بشنّ جهد مسلح ضد المسلحين وتحقيق الأمن؛ ولكن يجب أن يُنظَر له على أنه حرب من أجل البقاء الاقتصادي، والنمو، والتنمية”.
وفي المحصِّلة ربما تشي هذه الرؤى الجديدة بتواتر قراءات مغايرة لظاهرة الإرهاب في إفريقيا، ووضعها في سياقاتها المجتمعية، غير أن استمرار “نخبويتها” قد يُحيلنا -من جهة أخرى- إلى ملاحظة فجوة في السياسات الفعلية في مقاربة فعَّالة لتقليل التأثيرات السَّلبية للظاهرة مردّها إلى استمرار تجاهل الأسباب التنموية والاقتصادية والسياسية الضرورية لمواجهة الإرهاب والحد من فُرَص توسُّعه في الإقليم.