من المرجَّح أننا نشهد بداية عصر جديد من تنافُس القوى العظمى في النظام الدولي؛ فثمة تنافس حادّ بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة والصين من جهة أخرى. إنها منافسة استراتيجية واسعة النطاق وشاملة تستهدف الحصول على الثروة والسلطة والنفوذ، سواء داخل إفريقيا أو على مستوى العالم.
وتتسم هذه المنافسة بوجود أنماط مختلفة للحوكمة السياسية والتنمية الاقتصادية ووجهات النظر المختلفة حول هيكل وقواعد النظام العالمي والمصالح المتباينة. وفي هذا السياق التنافسي الذي يُحاكي خبرة الحرب الباردة يسعى كل طرف إلى تعظيم موقعه العالمي، وحرية حركته، وذلك على حساب الطرف الآخر.
وعلى كلِّ حالٍ، وقياسًا على حالة الحرب الباردة الأولى؛ فإنَّ تصعيد المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين سوف يكون له تداعيات كبرى على إفريقيا؛ إذ قد يؤدّي التنافس الجامح بين واشنطن وبكين إلى مضاعفة التحديات التي تواجهها الدول الإفريقية بدلاً من المساعدة في التوصل إلى حلول ناجعة لمواجهتها.
الجدل حول الصعود الصيني في إفريقيا:
لعل أحد أهم التطورات على مدى العقدين الماضيين هو النمو السريع للتجارة والاستثمار والتدفقات المالية الرسمية القادمة من الصين إلى إفريقيا. وعلى الرغم من النموّ الهائل في العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والقارة الإفريقية؛ إلا أن السّمة الغالبة في العلاقة بين الصين وإفريقيا كانت التمويل الصيني لتطوير البنية التحتية.
لقد خصَّصت الصين ما يقرب من 153 مليار دولار أمريكي كقروض للدول الإفريقية خلال الفترة بين عامي 2000 و2019م. كما تم توجيه التمويل الصيني لإفريقيا في الغالب من خلال بنك التنمية الصيني وبنك إكسيم الصيني، وأنشأت الشركات الصينية البنية التحتية الحيوية بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية والموانئ،.. إلخ.
ومع ذلك، ففي السنوات الأخيرة حظي الوجود المتزايد للشركات الصينية في القارة الإفريقية باهتمام غير مسبوق، لا سيما من بعض الدول الغربية التي تدّعي أن الشركات الصينية غير قادرة على خلق فُرص عمل جديدة في إفريقيا؛ لأنها تجلب عمالًا من الصين لملء الوظائف الشاغرة.
تم الترويج لهذه الرواية مِن قِبَل العديد من المؤسسات الإعلامية في الغرب، جنبًا إلى جنب مع العديد من كبار المسؤولين الحكوميين في الولايات المتحدة.
على سبيل المثال؛ قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال مناقشة افتراضية مع خريجي مبادرة القادة الأفارقة الشباب: “يجب أن تبحث بجدية عما إذا كانت الدول الأخرى ستأتي لبناء مشروع كبير للبنية التحتية، فهل يجلبون العمال معهم؟ أم أنهم يمنحون وظائف للناس في البلد الذي يستثمرون فيه؟”، وهو يعني بذلك الصين بكل تأكيد.
وعلى أي الأحوال، هناك روايتان لتأثير الصين على البلدان الإفريقية من خلال تقديم الصين إمَّا على أنها “تهديد” أو “فرصة” لإفريقيا. وهو ما يعني افتقاد النظرة الموضوعية لدور الصين في إفريقيا إلى حد كبير. ويعتقد كثير من الأفارقة أن الصين تقوم بدور مهم في التنمية الإفريقية؛ من خلال مساهمتها في تطوير البنية التحتية، وهو ما يُشكِّل حافزا رئيسيًّا أمام النمو.
من ناحية أخرى، هناك مَن ينتقد بشدة السياسات الصينية في إفريقيا، ولا سيما “دبلوماسية مصيدة الديون”. كما تحدث البعض أيضًا عن مشكلة “الديون المستترة”؛ حيث لا يتم الإبلاغ عن جزء كبير من الإقراض الصيني للدول الإفريقية. وفقًا لدراسة حديثة أجرتها (ايد داتا)، فإن ديون الصين غير المُبَلَّغ عنها للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط تصل إلى 385 مليار دولار أمريكي.
ثمة مؤشرات حول تراجع النفوذ الصيني في إفريقيا. فقد أدَّت أعباء الديون المتزايدة والنمو الاقتصادي المتعثر إلى ترك خيارات أقل أمام الدول الإفريقية. لجأت العديد من الدول الإفريقية إلى إلغاء المشاريع الصينية لأسباب متعددة قد ترجع لغياب الشفافية أو عدم الجودة.
ويمكن أن نشير إلى أربعة أمثلة حديثة:
أولها: حدث في أبريل 2020م عندما وصف الرئيس التنزاني الراحل، جون ماجوفولي، مشروع خليج مبيجاني الذي تبلغ قيمته 10 مليارات دولار أمريكي ووقَّعه سلفه، جاكايا كيكويتي، بأنه مشروع لا يمكن قبوله إلا مِن قِبَل شخص “سكِّير”.
ثانيًا: في عام 2020م، ألغت المحكمة العليا الكينية عقد السكك الحديدية بين الحكومة الكينية وشركة الطرق والجسور الصينية؛ لأنها فشلت في الامتثال لقواعد المشتريات في البلاد.
ثالثًا: ألغت غانا هذا العام مشروعًا صينيًّا لتطوير نظام ذكيّ لإدارة حركة المرور لعاصمتها أكرا، بسبب مخاوف بشأن جودة عمل الشركة الصينية.
رابعًا: دعا فيليكس تشيسكيدي، رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى مراجعة عقود التعدين بموجب عقد الشركة الصينية الكونغولية للمناجم (سيكومين) -الذي أطلق عليه فيما بعد باسم “صفقة القرن”-، والذي تم توقيعه في عام 2008م.
البديل الغربي لمبادرة الحزام والطريق:
لقد كانت القارة الإفريقية تاريخيًّا ساحة معركة على الثروة والنفوذ مِن قِبَل القوى الكبرى في النظام الدولي، ونظرًا لتصاعد التنافس الاستراتيجي بين الصين والغرب، فمن المرجَّح أن تُواجه الصين سياسة أكثر حدة من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في إفريقيا. ولعل ذلك ما تمثله مبادرة البوابة العالمية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي ومبادرة “إعادة بناء العالم على نحو أفضل” التي تقودها الولايات المتحدة.
أولاً: مبادرة “البوابة العالمية”:
تُعد مبادرة “البوابة العالمية” هي الأحدث في سلسلة إجراءات واستراتيجيات سياسة الاتحاد الأوروبي المصممة لخلق بديل قابل للتطبيق لمبادرة الحزام والطريق، التي طوَّرتها جمهورية الصين الشعبية. على الساحة العالمية، تهيمن الصين على التجارة. وعليه، هناك مخاوف متزايدة مِن قِبَل صانعي السياسة في الاتحاد الأوروبي إزاء التأثير الواسع النطاق الذي يمكن أن يكون لمبادرة الحزام والطريق، لا سيما في البلدان التي يكون للاتحاد الأوروبي فيها مصالح استراتيجية.
البوابة العالمية هي رؤية تلخص جهود الاتحاد الأوروبي لتمويل بناء البنية التحتية في دول الجنوب العالمي وتعزيز العلاقات التجارية مع هذه البلدان. من جهة أخرى ففي 15 سبتمبر 2021م، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن الاتحاد الأوروبي سينفّذ استراتيجية اتصال تُسمى البوابة العالمية. يعني ذلك أن الاتحاد الأوروبي سيبني شراكات مع دول حول العالم لدفع الاستثمارات في البنية التحتية عالية الجودة، وربط السلع والأشخاص والخدمات.
علاوة على ذلك، تحاول أوروبا انتقاد مبادرة الحزام والطريق، ولو من طرفٍ خفيّ؛ من خلال التوكيد على أن النهج الأوروبي سوف يقوم على الشفافية والقِيَم الأخلاقية لإنشاء روابط وليس علاقات تبعية؛ حيث يوجد قلق متزايد بشأن فخّ الديون الصيني.
وعلى أية حال يواجه الاتحاد الأوروبي مهمة صعبة في طرح المبادرة الجديدة بنجاح. لن يتطلب ذلك دافعًا سياسيًّا واقتصاديًّا مستدامًا فحسب، بل سيحتاج أيضًا إلى الحصول على دعم البلدان في الجنوب العالمي – وهو أمر غير مضمون بالضرورة؛ نظرًا لأن البعض قد تحالف بالفعل مع مبادرة الحزام والطريق.
يمكن لمبادرة البوابة العالمية أن تعزز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا، مما يجعله شريكًا مهمًّا لتحقيق النمو في القارة.
عند مناقشة أهداف المبادرة المتمثلة في تعميق الروابط التجارية وتعزيز سلاسل التوريد، تبدو الحاجة ملحة إلى تطوير مشاريع استثمارية جديدة حول التقنيات الخضراء والرقمية. ويمكن للاتحاد الأوروبي من خلال الجمع بين الصفقة الأوروبية الخضراء ومبادرة البوابة العالمية، إنشاء علاقة ذات قيمة مضافة مع إفريقيا، مع إمكانات هائلة لتطوير الاقتصادات على نطاق واسع من خلال المساهمة في الاقتصادات الخضراء والرقمية الناشئة في القارة.
وعلى أيّ حال سوف تتجه كل الأنظار إلى القمة الأوروبية الإفريقية المقبلة في فبراير 2022م، حيث أعلن أن مبادرة البوابة العالمية ستكون أولوية في هذه القمة.
ثانيًا: مبادرة “إعادة بناء العالم على نحو أفضل”:
في وقتٍ اشتدت فيه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، اتفق الرئيس الأمريكي جو بايدن وشركاؤه في مجموعة السبع في يونيو 2021م على إطلاق مبادرة “إعادة بناء العالم على نحو أفضل” (تعرف باسم بيلد باك بتر وورلد أو بي 3 دبليو)، وهي شراكة ذات بنية تحتية تقوم على مبادئ الشفافية وقيم السوق وذات معايير جودة عالية؛ للمساعدة في تضييق فجوة البنية التحتية التي تبلغ قيمتها ما يزيد على 40 تريليون دولار في العالم النامي بحلول عام 2035م.
تهدف مبادرة (بي 3 دبليو) إلى تعبئة رأس المال الثنائي والمتعدد الأطراف، وكذلك من القطاع الخاص للاستثمار في المناخ والصحة والأمن الصحي والتكنولوجيا الرقمية الحديثة، والمساواة بين الجنسين. والغرض من هذه المبادرة أن تكون عالمية النطاق، وأن تغطّي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
إن مبادرة إعادة بناء العالم التي تقودها الولايات المتحدة هي تطوير لشبكة النقطة الزرقاء الجديدة التي أقامتها الولايات المتحدة وأستراليا واليابان لدعم الاستثمارات عالية الجودة التي يقودها القطاع الخاص في مشروعات البنية التحتية الكبرى، ما يُتيح للناس معرفة أن المشروعات مستدامة وليست استغلالية.
تُعتبر مبادرة إعادة بناء العالم “جديدة”؛ من حيث إنها جمعت دول مجموعة السبعة، ووجهت أيضًا دعوات إلى الديمقراطيات الأخرى، بما في ذلك الهند وأستراليا وكوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا للانضمام. وتعتمد خطة هذه المبادرة على الجهود الأمريكية السابقة لتعزيز تمويل البنية التحتية الدولية، ولا تهدف بالضرورة إلى مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية بشكل مباشر.
وختامًا: فإن قارة إفريقيا تُواجه صراعًا جديدًا. لا تتنافس فيه الصين والولايات المتحدة فقط على النفوذ، ولكن أيضًا القوى الاستعمارية السابقة؛ مثل فرنسا والمملكة المتحدة. ومع ذلك، بدأت بعض الدول الإفريقية، مثل زامبيا وجنوب إفريقيا وكينيا، في إدراك التأثير السلبي لسياسات التنافس الدولي، ولا سيما ما يتعلق بفخّ الديون أو المشروطية السياسية التي تنال من سيادة واستقلال الدول الإفريقية.
إن مصالح القوى الكبرى في إفريقيا تشمل كل شيء، ابتداءً من المخاوف بشأن نقاط الارتكاز البحرية الجيواستراتيجية، ومرورًا باندماج القارة الأكبر في الاقتصاد العالمي، وفرص ومخاطر التحول الديموغرافي لإفريقيا، وانتهاء بالقوة التصويتية لإفريقيا في المنتديات العالمية. يعني ذلك أن إفريقيا سوف تظل مسرحًا للصراع خلال فترة تشكل النظام الدولي في العقود القادمة.