يأخذ الصراع الدائر في إثيوبيا منحًى تصاعديًّا يُنْذِر بمرحلة جديدة حاسمة ومحورية في مسار الصراع الذي يدخل عامه الثاني وسط سياق حاكم مضطرب يغلب عليه حالة اللايقين السياسي والأمني في المشهد الإثيوبي، ووسط تباين حسابات أطراف الصراع قاصرة النظر إلى تحقيق مكاسب مصلحية ضيِّقة دون النظر إلى تداعيات استمرار هذا الصراع على وحدة الدولة الإثيوبية، وما يصاحبه من انعكاسات سلبية قد تؤدي إلى زعزعة أمن واستقرار منطقة القرن الإفريقي؛ مما يزيد الأمر تعقيدًا بخصوص مستقبل المشهد الإثيوبي بشكل عام خلال الفترة المقبلة.
ملامح المشهد العملياتي الراهن:
نجحت مقامرة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في توريط بلاده في صراعٍ كان يعتقد أن قواته ستقضي على إقليم تيجراي في غضون أسبوعيْنِ، إلا أن تطورات المشهد السياسي الإثيوبي منذ اندلاع الصراع تعكس تأزم موقف آبي أحمد وقواته، ومحدودية الخيارات أمامه بشأن مَخْرج يضمن له على الأقل استمرارَهُ في حكم البلاد، خاصةً في ضوء طغيان ملمح استراتيجي مهمّ يتمثل في استمرار التفوق العسكري لقوات دفاع تيجراي في جبهات القتال، وتوغُّلها في عمق إقليم أمهرة، وسيطرتها على العديد من المدن الاستراتيجية تمهيدًا للوصول إلى العاصمة أديس أبابا -التي تبعد عنها ما يقرب من 130 كيلومتر تقريبًا- بهدف الإطاحة بحقبة آبي أحمد، والتخلص من نظامه، والشروع في تدشين مرحلة انتقالية جديدة في البلاد.
ويتزامن مع هذا التقدم العسكري لقوات دفاع تيجراي تطور استراتيجي وتكتيكي مهمّ يعزّز من التفوق العسكري للأخيرة، وهو الإعلان عن تشكيل تحالف “تساعي” في 5 نوفمبر الجاري (2021م) يُطلق عليه الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفدرالية الإثيوبية([1])؛ بهدف إسقاط النظام الحاكم في البلاد بقيادة آبي أحمد، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة تدير البلاد.
الأمر الذي يعكس حالة الاصطفاف والانقسام في الداخل الإثيوبي، فقد تسبب آبي أحمد في اندلاع حرب أهلية بين أربع قوميات إثيوبية هي تيجراي وأمهرة وعفر وأورومو، بالإضافة إلى الميلشيات المسلحة التابعة لعدد من الولايات الإثيوبية التي تنخرط في جبهات القتال إلى جانب القوات الحكومية، وهو ما يُنْذِر بتوسُّع الحرب الأهلية على نطاق جغرافي واسع في جميع أنحاء البلاد في حالة تفاقم الصراع وعدم وضع حد نهائي لاستمراره وانفلات الأوضاع الأمنية في البلاد، خاصةً في حالة سقوط العاصمة أديس أبابا تحت سيطرة قوات دفاع تيجراي خلال الأيام المقبلة.
ومع استمرار زحف قوات دفاع تيجراي نحو أديس أبابا، انتفض آبي أحمد ليعلن الانضمام إلى قواته العسكرية لقيادتها في جبهة القتال ضد قوات تيجراي، في محاولة منه لرفع معنويات قوّاته المنخرطة في الصراع، وتعطيل تقدُّم قوات دفاع تيجراي نحو العاصمة أديس أبابا، وهو ما يعني تراجع القوات الحكومية في ميدان القتال أمام تقدم قوات دفاع تيجراي.
وقد وجَّه آبي أحمد خطابًا إلى الشعب الإثيوبي حمل في طيَّاته دلالات عدَّة، لعل من أبرزها اعتراف آبي بتأزم موقف بلاده في الصراع الحالي، يدلل عليه التحول الدراماتيكي في وصف الصراع مع جبهة تيجراي بأنه حرب وجودية تهدِّد الدولة الإثيوبية، بعدما أُطلق عليه “عملية إنفاذ القانون” في بداية الصراع في نوفمبر 2020م، وهو ما انعكس في تكرار كلمات التضحية والاستشهاد لأكثر من مرة في خطابه، واستمرار دعواته للحشد والتعبئة لجموع الشعب الإثيوبي للتورط في الحرب الدائرة.
وحاول رئيس الوزراء توسيع دائرة الاهتمام بأزمته الداخلية عن طريق إثارة النزعة القومية الإفريقية باستدعائه للدول الإفريقية لدعم السود، وإنقاذ إثيوبيا من حملة الاستعمار الجديد ضدها في إشارة لانتقاده للمواقف الغربية، لا سيما الموقف الأمريكي تجاه الأزمة في إثيوبيا. ومع ذلك، لا يزال آبي أحمد عاجزًا عن إيجاد مخرج للصراع الدائر في البلاد، في ظل محدودية قدرات وكفاءة قواته وحلفائه، وإصراره على الاستمرار في الحرب بهدف القضاء نهائيًّا على جبهة تحرير تيجراي.
دلالات كاشفة:
تحمل التطورات المتسارعة في الصراع الإثيوبي المستمر دلالات عدة حول ملامح المشهد العام في إثيوبيا، والتي تتمثل أبرزها فيما يلي:
1- استمرار تأزم موقف آبي أحمد: فهو لا يمتلك خطة عسكرية استراتيجية لوقف تقدُّم قوات تيجراي، في الوقت الذي تتراجع فيه قواته، بينما تتقدم الأخرى نحو العاصمة أديس أبابا. وهو ما دفَعه إلى الانضمام للقوات العسكرية في جبهات القتال، واستمرار دعواته للمواطنين الإثيوبيين بالتعبئة من أجل الانخراط في الحرب الإثيوبية؛ مما يمثِّل تهديدًا لأركان حكمه. وهو ما أوجد بعض المرونة لدى آبي أحمد فيما يتعلق بفتح قنوات حوار مع جبهة تحرير تيجراي بشروط مسبقة.
2- تحييد أبرز حلفاء آبي أحمد: حيث استطاعت العقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية -ضد أربعة كيانات إريترية ومسؤوليْنِ اثنين في النظام الإريتري الحاكم- تحجيم تحركات القوات الإريترية المتمركزة عند الحدود الشمالية مع إقليم تيجراي الإثيوبي دون الانخراط في الحرب؛ خوفًا من تشديد العقوبات عليها، إلا أنها تظل ورقة فاعلة في حالة تورطها مجددًا في هذا الصراع إلى جانب قوات آبي أحمد، من خلال الاعتماد عليها في فتح جبهة قتال جديدة في إقليم تيجراي قد تسهم في تعطل قوات دفاع تيجراي عن التقدم نحو أديس أبابا.
3- تكتل المعارضة المسلحة ضد نظام آبي أحمد: حيث يشكل التحالف العسكري الجديد عامل قوة لجبهة تحرير تيجراي يدفعها نحو استمرار التقدم العسكري في جبهات القتال، مما يمثل ضغطًا قويًّا على نظام آبي أحمد، إلا أنه في ذات الوقت يُنْذِر بتحوُّل البلاد إلى ساحة للحرب الأهلية مما يُهدِّد بتفككها خلال المرحلة المقبلة.
4- استبعاد وجود صفقة لإنهاء الصراع في المدى المنظور: في ظل إصرار طرفي الصراع على تحقيق أهدافهما بالقوة العسكرية، ورفض أيّ محاولات للتهدئة والدخول في مرحلة مفاوضات لإنهاء الصراع وإيجاد تسوية سياسية شاملة للصراع الإثيوبي، مما يجعلها أمرًا مستبعدًا بالرغم من الجهود الإقليمية والدولية المبذولة في هذا الصدد لا سيما الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة الأمريكية.
5- اتهامات متبادلة بين طرفي الصراع بالحصول على دعم خارجي: حيث تدَّعِي جبهة تحرير تيجراي بوجود عناصر أجنبية من دول إريتريا والصومال والصين وإسرائيل وبعض الأطراف الإقليمية الأخرى تحارب إلى جانب القوات الحكومية، بالإضافة إلى حصول الحكومة على العديد من الأسلحة من قبل بعض الدول مثل تركيا وإيران، وهو ما زاد من التكهُّنات بشأن تحول دراماتيكي محتمل للتوازن العسكري الاستراتيجي في الصراع لصالح قوات آبي أحمد في مقابل تراجع قوات دفاع تيجراي. في المقابل، اتهم آبي أحمد جبهة تحرير تيجراي باستقطاب عناصر أجنبية أيضًا للمشاركة في الحرب ضد القوات الحكومية، كما اتهم بعض الأطراف الإقليمية بتقديم دعم لوجستي لبعض الحركات المسلحة في منطقة بني شنقول-جوموز.
6- توتر العلاقات بين إثيوبيا والعالم الخارجي: ففي ضوء تفاقم الصراع الإثيوبي والتخوُّف من سقوط أديس أبابا المحتمل على يد قوات دفاع تيجراي، قامت بعض السفارات الأجنبية بدعوة مواطنيها إلى مغادرة أديس أبابا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وكندا وأستراليا وكوريا الجنوبية، وهو ما أثار استياء الحكومة الإثيوبية التي اتهمت بعض السفارات الأجنبية بالترويج للوضع الأمني في البلاد بشكل سلبي وغير صحيح، كما شككت في مصداقية الإعلام الغربي فيما يتعلق بتغطيته لتطورات الأزمة الإثيوبية.
في الوقت ذاته، يتصاعد التوتر بين إثيوبيا والولايات المتحدة بسبب تداعيات الصراع الإثيوبي الراهن في ضوء انتقاد واشنطن لسياسات آبي أحمد تجاه الصراع وانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق الصراع، مما دفع حزب الازدهار الحاكم إلى اتهام واشنطن بالانحياز إلى جانب جبهة تحرير تيجراي، قبل أن يؤكد المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي، جيفري فليتمان، أن واشنطن لا تقف مع طرف ضد آخر، وأنها تنظرلآبي أحمد باعتباره حاكم يحظى بشعبية كبيرة عقب فوز حزبه الحاكم (الازدهار) في الانتخابات الإثيوبية الأخيرة، وتجديد ولايته في البلاد؛ مما يكشف عن تحوُّل -ولو نسبيًّا- في الموقف الأمريكي تجاه الصراع الإثيوبي؛ يعكس حرص واشنطن على استمرار النظام الحاكم دون إسقاطه خوفًا من تداعيات ذلك إقليميًّا في منطقة القرن الإفريقي، لا سيما أن واشنطن تؤكِّد دائمًا منذ اندلاع الصراع على رفضها للحل العسكري بشأن تسوية هذا الصراع الدائر، مما قد يعيق دخول قوات دفاع تيجراي إلى العاصمة أديس أبابا برفض أمريكي قاطع.
وإجمالًا، تبدو أديس أبابا بمثابة الجولة الأخيرة الحاسمة بالنسبة للصراع القائم بين القوات الحكومية وقوات دفاع تيجراي منذ نوفمبر 2020م في حالة استمرار تقدم الأخيرة نحوها، مما يدفع نحو سيناريوهيْن محتمليْن في هذا الشأن:
يتمثل السيناريو الأول في نجاح قوات تيجراي في السيطرة على العاصمة، والإطاحة بحكم آبي أحمد من البلاد، واستعادة الحكم مرة أخرى برغم التلميحات الأمريكية الرافضة لهذا السيناريو، إلا أنه يظل قائمًا نظرًا لتطور الأحداث بشكل متسارع وتحولات المواقف والحسابات.
بينما يتمثل السيناريو الثاني في تصدّي القوات الحكومية لقوات تيجراي، والحيلولة دون دخولها إلى العاصمة، وذلك انطلاقًا من قدرة المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية على ممارسة الضغوط على كافة الأطراف الإثيوبية من أجل إنهاء الصراع ووقف إطلاق النار، والدخول في مرحلة تسوية شاملة ربما تكون بدعم إفريقي أمريكي، واستقطاب أعداد كبيرة من المناصرين للدفاع عن العاصمة أديس أبابا في مواجهة جبهة تيجراي.
ومع ذلك، يبدو أن إثيوبيا تسير بخطًى ثابتة نحو حقبة جديدة من الفوضى قد تُنْذِر بتحوُّل البلاد إلى حرب أهلية شاملة خلال الفترة المقبلة، ما لم يُمارَس المزيد من الضغط الدولي والإقليمي على أطراف الصراع من أجل تقديم بعض التنازلات للوصول إلى مساحة مشتركة يمكن معها البدء في جولة جديدة من المفاوضات الشاملة التي قد تُسْهِم في إنهاء الصراع الإثيوبي وتسويته بشكلٍ كاملٍ.
[1]– تتألف الجبهة من تسعة فصائل إثيوبية معارضة على رأسها جبهة تحرير تيجراي، وجيش تحرير أورومو، إلى جانب جبهة عفار الثورية للوحدة الديمقراطية، وحركة أقاو الديمقراطية، وحركة التحرير الشعبية-بني شنقول، وجيش التحرير الشعبي لغامبيلا، وحزب كيمانت الديمقراطي، وجبهة تحرير سيداما الديمقراطية، ومقاومة الدولة الصومالية.