تطرح قيادة الرئيس بول كاجامي في رواندا نموذج “المستبد العادل” في التقاليد الإفريقية المعاصرة. حيث إن الانتعاش الاقتصادي لرواندا بعد مأساة الإبادة الجماعية عام 1994م والتي أودت بحياة نحو 800 ألف شخص من أبناء التوتسي والهوتو المعتدلين يُعدّ قصة نجاح سوف تذكرها كتب التاريخ.
بَيد أن هذه القصة قد رسم معالمها وحدد أحداثها بول كاجامي، الذي تولّى السلطة رسميًّا في عام 2000م. هو شخص مثير للجدل داخل رواندا وخارجها؛ حيث يعتبره البعض بمثابة رائد في مجال حقوق المرأة وحماية البيئة ومصلح يسير على نفس درب مؤسِّس سنغافورة الحديثة.. في حين ينتقده آخرون بسبب قبضته الحديدية على السلطة وكتم أنفاس المعارضة.
من الناحية القانونية، لا شيء يقف في طريق كاجامي للبقاء في السلطة ربما مدى الحياة. ففي استفتاء على الدستور في عام 2015م، صوَّت الروانديون بأغلبية ساحقة للسماح لكاجامي بالترشح مرة أخرى للمنصب بعد نهاية ولايته الثانية، التي انتهت في عام 2017م. ونظريًّا، يمكنه الترشح والبقاء في السلطة حتى عام 2034م، على الرغم من أن فترته الحالية تنتهي في عام 2024م.
متلازمة الرجل القوي: يد تبني وأخرى تبطش
يصوّر كاغامي نفسه بأنه مجدّد القرن في بلاده وإفريقيا؛ حيث ألَّف كتابًا بعنوان: “تحويل رواندا: تحديات على طريق إعادة الإعمار”. وقد حظي الرجل باعتراف دوليّ من خلال ثلاثة مشروعات سياسية كبرى هي: مساواة المرأة، وتعزيز التقنيات الجديدة، وتدابير حماية البيئة.
ليس من قبيل المصادفة أن يأتي أول هاتف ذكي “صُنِعَ في إفريقيا” من رواندا؛ حيث تمَّ تصنيع “هاتف مارا” في منطقة صناعية في العاصمة كيغالي، على مقربة من مصنع فولكس فاجن.
ومع ذلك وجّهت منظمات حقوقية مزاعم خطيرة ضد كاجامي. تدعي هيومن رايتس ووتش، على سبيل المثال، أنه منذ أن تولَّى كاجامي منصبه، تمَّت مقاضاة العديد من الأفراد لشكّهم في تفسير الحكومة الرسمي للإبادة الجماعية.
وهناك سلسلة طويلة من جرائم القتل والاختفاء والاعتقالات ذات الدوافع السياسية والاعتقالات غير القانونية للمنتقدين وأعضاء المعارضة والصحفيين.
ولعل أبرز هذه الجرائم: حالة رئيس جهاز المخابرات السابق والمنشق باتريك كاراجيا، الذي قُتِلَ خنقًا حتى الموت في غرفة فندق في جنوب إفريقيا.
وفي سبتمبر 2021م قضت محكمة في العاصمة الرواندية كيغالي بحبس بول روسيسباغينا، البطل الحقيقي لفيلم “فندق رواندا”، وهو من أشد معارضي الرئيس بول كاجامي، لمدة 25 عامًا لإدانته “بالإرهاب”.
ووصف مؤيدو روسيسباغينا المحاكمة بأنها “سياسية”، فيما أعربت الولايات المتحدة -التي منحته وسام الحرية الرئاسي عام 2005م- والبرلمان الأوروبي وبلجيكا عن قلقهم حيال ظروف اعتقاله ومحاكمته.
معضلة التنمية المستدامة:
إن رواندا دولة صغيرة مُغلَقة، وليس لها سواحل على البحر، ذات كثافة سكانية عالية وموارد طبيعية محدودة، على عكس بعض دول الجوار الغنية بثرواتها المعدنية. ومع ذلك فقد حقَّقت نهضة تنموية ملحوظة تحظى باعتراف على نطاق واسع؛ حيث تمكَّنت من تحقيق إنجازات ملموسة في معدلات الحدّ من الفقر، والسلامة العامة والأمن.
يجادل البعض بأن هذا النمط من التنمية غير مستدام؛ حيث إن نجاحها التنموي في السنوات الخمس والعشرين الماضية يرجع في الغالب إلى المساعدات الخارجية، ويرتكز على فكر ورؤية شخص واحد (بول كاجامي).
وقد ظهرت بالفعل هشاشة هذا النموذج التنموي في عام 2012م عندما علق بعض المانحين مساعداتهم بعد اتهام رواندا بأنها دعمت حركة إم 23 المتمردة في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وللحد من اعتماد رواندا على المساعدات الخارجية، أنشأ الرئيس بول كاجامي صندوقًا خاصًّا للتنمية بهدف تحسين الاستقلال المالي للبلاد.
ومن هذا المنطلق بدأت رواندا تستثمر في مصادر القوة الناعمة التي تمتلكها لتقدِّم نموذجًا يُحْتَذى للدول الإفريقية الأخرى، بغض النظر عن سياق المشهد السياسي والقبضة الحديدية للنظام الحاكم.
أبعاد القوة الناعمة الرواندية:
يمكن التمييز بين ثلاثة أبعاد للقوة الناعمة الرواندية الصاعدة والتي تجعلها تجربة مثيرة للبحث:
الدبلوماسية العسكرية:
تُعد رواندا -على الرغم من صِغَر حجمها- عملاقًا في حفظ السلام. هناك اليوم ما لا يقل عن 6650 جنديًّا وشرطيًّا وخبيرًا ومستشارًا روانديًّا يقدِّمون دعمًا حاسمًا لبعثات حفظ السلام؛ بما في ذلك: بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى، وبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، وقوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة في إقليم أبيي بين دولتي السودان. كما كانت رواندا أيضًا جزءًا من اليوناميد في منطقة دارفور بالسودان حتى أكملت انسحابها في يونيو 2021م.
وقد أثارت المشاركة العسكرية الأخيرة لرواندا في دولتين إفريقيتين اهتمامًا واسعًا بصعود نجم الدبلوماسية العسكرية في فضاء السياسة الخارجية الرواندية. في يوليو 2021م أرسلت قواتها إلى موزمبيق وقبل ذلك في نوفمبر 2020م إلى جمهورية إفريقيا الوسطى.
وعلى الرغم من أن رواندا تُعدّ –كما ذكرنا آنفًا- واحدة من أكبر المساهمين في إفريقيا في عمليات الأمم المتحدة للسلام، لكنَّ المشاركة الأخيرة في كل من موزمبيق وإفريقيا الوسطى قد انتهجت الترتيبات الثنائية، وذلك في سياق التدخلات المتعددة الأطراف في البلدين.
ولعل ذلك هو ما طرح تساؤلاً مشروعًا حول إمكانية أن تصبح رواندا بمثابة شرطي إفريقيا القادم؟ وبعيدًا عن الجدل الذي أثارته عمليات الانتشار العسكرية الأخيرة من المهم تقييم ما يبدو أنه نهج رواندا الشامل للدبلوماسية في إفريقيا، وذلك على النحو التالي:
1- يبدو أن المشاركة العسكرية للقوات الرواندية في إفريقيا الوسطى وموزمبيق تعكس استراتيجية سياسة خارجية كبرى تهدف إلى تأمين مصالح رواندا على المدى الطويل، مع بناء شراكات إفريقية استراتيجية لمواجهة التحديات الهيكلية للبلاد. نحن هنا أمام نموذج لفرض السلام بالمفهوم الرواندي، وهي حالة تشبه ما كان يطمح إليه الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي.
2- تتمتع رواندا بقدرات ملحوظة في العمل في البلدان التي لا تشترك معها في الحدود. فقد كان الدعم العسكري لموزمبيق مثيرًا للإعجاب من حيث السرعة والفعالية. وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، كانت القوات الرواندية جنبًا إلى جنب مع المدربين الروس وجيش إفريقيا الوسطى بالغة التأثير والفعالية، وذلك في إطار زمني محدود.
3- يمكن تبرير مشاركة رواندا في جمهورية إفريقيا الوسطى من خلال عضويتها في كل من الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا والمنظمة الفرنكوفونية، بَيْد أن الوضع مختلف في موزمبيق؛ حيث إنها ليست عضوًا في الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي، وإن اشتركت في عضوية الكومنولث مع موزمبيق. وفي سياق جهودها لتنويع مصادر الدخل والاستفادة من مزايا الاحتراف العسكري والاستقرار السياسي فإن رواندا تُوظّف دبلوماسيتها العسكرية من أجل دعم الطموحات الاقتصادية التي تُغذّي القوة الناعمة للبلاد.
4- فوق ذلك كله، فإن فعالية المشاركة الرواندية في ظل الانسحاب الغربي من أنشطة محاربة الإرهاب في إفريقيا تطرح أهمية الاعتماد على المقاربات الأمنية الإفريقية، سواء من خلال الترتيبات الثنائية أو متعددة الأطراف.
دبلوماسية التجارة الحرة:
تحاول رواندا التخلُّص من لعنة الجغرافيا وعيوب الدولة الحبيسة من خلال اتباع سياسة الأبواب المفتوحة وانتهاج سياسة التكامل الاقتصادي الإقليمي.
يهدف حماس كاجامي للتجارة الحرة إلى تقليل تكاليف النقل والطاقة التي تعوق التنمية الاقتصادية لرواندا. ومع ذلك، فإن هذا الاهتمام ليس بلا حدود، كما يتضح من الإغلاق المتكرر للحدود مع أوغندا منذ عام 2019م؛ بسبب التوترات طويلة الأمد بين البلدين. قد يُشكّل هوس رواندا بالتهديدات الأمنية الخارجية المتصورة أو الحقيقية خطرًا شديدًا على طموحات السياسة الخارجية للبلاد.
ويُلاحظ أن موزمبيق لها حدوده مع تنزانيا، وفي نفس الوقت تحصل رواندا على العديد من وارداتها من ميناء دار السلام. وهو ما يعني أن عدم استقرار تنزانيا يمكن أن يؤثر على اقتصاد رواندا.
أضف إلى ذلك فقد أبرمت جمهورية الكونغو الديمقراطية مع رواندا اتفاقية بشأن الاستغلال المشترك للذهب في يونيو 2021م. وتُعد رواندا واحدة من 19 دولة عضوًا في السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا) التي تقدم شروطًا تجارية تفضيلية لأعضائها.
كما أنها أيضًا عضو في منظمة التجارة العالمية، وانضمت إلى جماعة شرق إفريقيا في عام 2007م، والكومنولث في عام 2009م. أضف إلى ذلك فهي عضو في الجماعة الاقتصادية للبحيرات العظمى والجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا. وقد استضافت رواندا حفل التوقيع على اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية في عام 2018م، وكانت واحدة من أوائل الدول التي صدَّقت على تلك الاتفاقية، والتي دخلت حَيِّز التنفيذ في 30 مايو 2019م.
دبلوماسية الصناعات الإبداعية:
لماذا يحلم الشباب الأفارقة وربما حول العالم بالذهاب والعيش في الولايات المتحدة الأمريكية؟ سؤال يتردد دائمًا. هل لأنهم تأثروا بما تكتبه الصحف العريقة مثل الواشنطن بوست أو النيويورك تايمز. لا والله. إنهم محبّون لنمط الحياة الأمريكي؛ لأنهم يشاهدون أفضل ما تنتجه هوليود من أفلام عالمية أو أحد أفلام مغني الراب شون كارتر المعروف باسم جاي زد، أو من خلال متابعاتهم لمباريات كرة السلة الأمريكية. تلك هي أبرز أدوات القوة الناعمة الأمريكية وأمضاها تأثيرًا على جذب العقول والقلوب.
ويبدو أن رواندا التي تُمثّل قوة إفريقيا الناعمة الصاعدة تعلمت هذا الدرس سريعًا. لقد اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي نشاطًا وحركة بمجرد سماع تعاقد فريق كرة السلة الوطني مع أحد لاعبي دوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين، ويشارك لأول مرة في دوري كرة السلة الإفريقي.
الطريف في الأمر أن هذا اللاعب -جيرمين كول- هو أيضًا أحد فناني الهيب هوب المشهورين عالميًّا. ولا شك أن هناك فوائد واضحة من وجود هذا اللاعب والفنان داخل رواندا، سوف تضيف يقينًا إلى العلامة التجارية الصاعدة لهذا البلد الصغير.
لقد بات من الواضح أن العلامة التجارية “قم بزيارة رواندا” غيرت قواعد اللعبة في مجال القوة الناعمة الإفريقية. ويبدو أن الرئيس الرواندي بول كاجامي يسير على نهج الرئيس المؤسس لسنغافورة، لي كوان يو حينما قال: “قم بتشييدها، ولسوف يأتون”. وعليه سوف يكون من غير المجدي، إذا تم حثّ الناس في العالم على “زيارة رواندا”، إذا لم تكن لديها البنية التحتية المناسبة لاستقبالهم.
ثمة استثمار حقيقي في التعبير الإبداعي والفني غير الملموس: المشاهير، الجوائز، الثروة، والأعمال التجارية. ولعل ذلك يخالف العقلية السائدة في الأعمال التجارية التي كانت تنظر لمثل هذه الأعمال على أنها غير ذات صلة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ما لم يتمكن المرء من إظهار “عائد استثمار” ملموس من الناحية المادية على المدى القصير.
الواقع يخالف هذه الرؤية العتيقة التي عفا عليها الزمان. دعونا ننظر إلى لغة الأرقام. في المملكة المتحدة ينمو قطاع الصناعات الإبداعية بمعدل أسرع بخمس مرات من الاقتصاد الوطني: 111 مليار جنيه إسترليني في عام 2018م. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد بلغت قيمة الإنتاج الفني والثقافي في عام 2019م نحو 919.7 مليار دولار بنسبة 4.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي فرنسا تُظهر الأرقام أنه في عام 2018م، حققت هذه الصناعة الإبداعية 91 مليار يورو، وأظهرت نموًّا بنسبة 4.7٪ بين عامي 2013م و2018م.
وثمة دول إفريقية اهتمت بهذا المجال؛ حيث شكّلت صناعة الأفلام والتسجيلات في نيجيريا (موطن نيليود) 1.2 تريليون نايرا (أي حوالي 3.1 مليار دولار أمريكي) من الناتج المحلي الإجمالي لنيجيريا في عام 2016م، بينما في جنوب إفريقيا، ساهمت الصناعات الإبداعية الأساسية بنسبة 3.05٪ في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017م، أي 155 مليار راند (10.7 مليار دولار).
كما كان نصيب الصناعة الداعمة 2.24٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي بمقدار 115 مليار راند، وهو ما يمثل حصة إجمالية قدرها 5.29٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وبالمثل فإن العلامة التجارية “قم بزيارة رواندا”، وكذلك صفقات رعاية أرسنال وباريس سان جيرمان كان لها تأثير واضح على صناعة السياحة في البلاد.
تم تصنيف رواندا في المرتبة الثانية (بعد موريشيوس) من حيث سهولة ممارسة الأعمال التجارية في إفريقيا مِن قِبَل البنك الدولي، وقد تم مَنحها لقيادتها في مجال السياحة والقدرة التنافسية الاقتصادية مِن قِبَل مجلس السفر والسياحة العالمي والمنتدى الاقتصادي العالمي على التوالي.
يستطيع المستثمرون في رواندا تسجيل أعمالهم في ست ساعات فقط وكذلك الاستفادة من الفرص التي توفرها اتفاقيات التجارة الحرة التي وقعتها رواندا مع أكثر من 50 دولة حول العالم.
وختامًا:
ينبغي التأكيد على أن تجربة رواندا في مجال القوة الناعمة تستحق الاهتمام والدراسة. توضّح تجربتها كيف يمكن للبلدان الصغيرة والمتوسطة الحجم تحسين مكتسباتها على المسرح الدولي وممارسة درجة معينة من التأثير.
ومع ذلك كما يقول الكاتب والفيلسوف والمنشق الروسي ألكسندر سولجينتسين: إن “المعركة بين الخير والشر تدور رحاها في قلب كل رجل”. بينما يُوصَف بول كاغامي بأنه مصلح كبير ساعدت رُؤَاه التقدمية على استقرار بلد مزَّقته الحرب، يعتقد الكثيرون أن أساليبه القمعية أدَّت إلى استمرار الألم والمعاناة، مما يجعل من الصعب على مجتمع ما بعد الإبادة الجماعية في رواندا أن يتعافى تمامًا.