تُواصل نيودلهي سياساتها الإفريقية الحثيثة للاضطلاع بدور فاعل في قضايا القارة ومستقبلها؛ ولا يَخفى سَيْرها بشكل واضح في ركاب السياسات الأمريكية-الغربية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي المتنامي في القارة، إضافةً إلى تنسيق الدور مع قوًى خليجية في عددٍ من دول القارة، لا سيما في شرقها.
ورغم الضآلة النسبية لقوة العلاقات الاقتصادية بين الهند وإفريقيا (وخاصةً عند مقارنتها بمثيلتها مع الصين أو الولايات المتحدة أو الإمارات)، فإن تركيز مقاربة الهند على قطاعات مثل الأمن البحري ومواجهة الإرهاب والتعاون الزراعي، يُكْسِب نيودلهي أرضًا جديدة وهامة في القارة.
يتناول المقال الأول الجولة المزمعة لرئيس الوزراء الهندي “ناريندار مودي” التي سيستهلها 2 يوليو المقبل وتشمل غانا وناميبيا في القارة الإفريقية؛ ويكشف المقال عن أهم ملامح هذه الجولة والقطاعات التي تستهدف نيودلهي تطويرها مع الدولتين الإفريقيتين، وأبزرها ملف مكافحة الإرهاب، وتوفير الأمن البحري.
أما المقال الثاني فيعرض لتجربة عملية لأوجه التعاون الهندي-الإفريقي؛ متمثلًا في شراكة مع شركة جنوب إفريقية لتصنيع عدد من الأمصال الهامة محليًّا، وإعادة توزيعها في دول إفريقية متنوعة.
ويتناول المقال الثالث فرص وتهديدات الشراكة الزراعية بين الهند والدول الإفريقية، ودور القطاع الخاص الهندي في تعزيز هذه الشراكة.
جولة مودي الإفريقية-الكاريبية تستهدف نفوذ الصين([1]):
يستعدّ رئيس الوزراء الهندي “ناريندار مودي” لزيارة دبلوماسية هامة إلى كلٍّ مِن غانا وناميبيا (إضافةً إلى ترينيداد توباجو في منطقة الكاريبي)، على أن تبدأ زياراته في 2 يوليو المقبل.
وتُمثّل جولته تلك أول زيارة رسمية لمودي لهذه الدول، وتدلّ على توجُّه الهند المتزايد لتوسيع وجودها الإستراتيجي والتنموي في إفريقيا ومنطقة الكاريبي، لا سيما وسط منافسة عالمية متزايدة مع الصين.
ويُنْظَر للجولة بشكل عام على أنها خطوة محسوبة لتعميق دور الهند كشريك موثوق به في الإقليمين (غرب إفريقيا والكاريبي) اللذين سبق أن أرست فيهما الصين حضورًا مهيمنًا بشكل واضح.
وتؤكد مقاربة الهند على التنمية الشاملة، والقِيَم الديمقراطية، وبناء القدرات بدلًا من استثمارات البنية التحتية المُكلّفة من جهة الديون (في إشارة لسياسات الصين).
وقد قادت الصين، طوال أكثر من عقدين، الحضور الخارجي في إفريقيا، وضخَّت استثمارات هائلة، وأطلقت مشروعات بنية تحتية واسعة. أما الهند، وإن لم تقارن جهودها ماليًّا بالصين، فكانت تنتهج، مقاربة مميزة متجذرة –بحسب بيانات وزارة خارجيتها-، في التركيز على التنمية لصالح الشعوب، والتدريب المهني، والرعاية الصحية، وتكنولوجيا المعلومات.
“إن انخراط الهند في شؤون القارة الإفريقية مستقل وقائم على الأولويات المتبادلة”؛ حسبما يقول خبراء هنود بمعهد مانوهار لدراسات وتحليلات الدفاع Manohar Parrikar Institute for Defence Studies and Analyses، مع التأكيد على أهمية أنشطة الهند في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتنمية الموارد البشرية، والزراعة، والرعاية الصحية.
وتُعدّ غانا نقطة توقُّف رئيسية في جولة “مودي”. فالعلاقات الثنائية بين البلدين قوية بالفعل؛ إذ تُصنّف الهند بين أكبر خمسة مستثمرين في البلاد. ومنذ العام 1994م دعمت الشركات الهندية أكثر من 820 مشروعًا في غانا، بقيمة استثمارات إجمالية بلغت 1.92 بليون دولار. وفي العام 2024م وحده وصلت الاستثمارات الخارجية الهندية المباشرة في غانا إلى 16.46 مليون دولار في قطاعات متنوّعة مثل التصنيع والزراعة والخدمات.
كما تُعدّ التجارة ذات أهمية مماثلة؛ فالهند مستورد رئيس للذهب الغاني. والآن فإن العلاقة على عتبة التوسع لتشمل التعاون الأمني، ولا سيما في مجال الاستجابة للتهديدات المتصاعدة من الجماعات المتطرفة، مثل داعش وبوكو حرام في غرب إفريقيا. ويُتوقَّع أن تدعم الهند غانا في التدريب على مكافحة الإرهاب، وتقوية الصلات بين مركز كوفي عنان لحفظ السلم التابع للأمم المتحدة Kofi Annan UN Peacekeeping Centre ومركز نيودلهي لحفظ السلام التابع للأمم المتحدة. وتواصل البلدان مساعيهما نحو تحقيق إجماع دولي حول (مواجهة) الإرهاب، من خلال المطالبة بتطبيق المعاهدة الشاملة حول الإرهاب الدولي Comprehensive Convention on International Terrorism (CCIT) في الأمم المتحدة، والدفاع عن موقف موحَّد ضد جميع أشكال العنف والإرهاب.
كما وصلت علاقات الهند بناميبيا ذروة جديدة عقب مبادرة نقل مواقع الشيتا في العام 2022. وأهدت ناميبيا للهند ثمانية من حيوان الشيتا من أجل دعم الشراكة البيئية مع الهند في سياق ما يُعْرَف بتعزيز الدبلوماسية البيئية. وإلى جانب الحفاظ على الحياة البرية فإن التجارة بين البلدين تقف عند 240 مليون دولار تقريبًا، وتُغطّي قطاعات التعدين، والخدمات، والتصنيع. كما تلعب الهند دورًا رئيسيًّا في تنمية رأس المال البشري في ناميبيا، وتقديم مِنَح علمية وتدريب في إطار برامج مثل ITEC وICCR.
وفي ضوء الأهمية الإستراتيجية لسواحل ناميبيا على المحيط الأطلنطي، فإن الأمن البحري يكتسب أولوية متزايدة في العلاقات بين البلدين. ويُتوقع من البلدين تحسين التعاون الثنائي بينهما من أجل تأمين الممرات البحرية، ومعالجة مشكلة القرصنة، وتعزيز دور الهند كمُوفّر للأمن البحري.
نقل تكنولوجيا الأمصال بين جنوب إفريقيا والهند لصالح إفريقيا([2]):
وقَّعت شركتا بيوفاك Biovac (الجنوب إفريقية المتخصصة في الأدوية البيولوجية) وبيولوجيكال إ Biological E (وهي مُورّد عالمي للأمصال مقرها الهند)، اتفاقية مهمة للغاية لنقل التكنولوجيا من أجل تصنيع وتوزيع مَصْل مضادّ للاتهاب الرئوي في إفريقيا.
وتمثل الإصابة بالالتهاب الرئوي، التي تستهدفها الأمصال المتوقع إنتاجها في إفريقيا، سببًا رئيسيًّا للعديد من الأمراض الرئوية في القارة. وقدَّرت منظمة الصحة العالمية أنه في العام 2005م أن الإصابة بالالتهاب الرئوي كانت مسؤولة عن وفاة نحو 1.6 مليون طفل في أرجاء العالم، وأنه فيما تراجع ذلك الرقم عالميًّا بشكل كبير فإنه ثمة حاجة لأمصال أحدث وأفضل.
وتتسق الاتفاقية مع التزام مفوضية الاتحاد الإفريقي والمراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها Africa CDC في العام 2022م بضمان أن تكون 60% من الأمصال المُستخدَمة في إفريقيا مُصنَّعة في القارة بحلول العام 2040م. وحاليًّا لا تُنتج إفريقيا سوى 1% من أمصالها، وهي فجوة سوف تساعد هذه المبادرة على جَسْرها.
وقالت شركة “بيوفاك” في بيان صدر (يوم 27 يونيو 2025م): إن شراكتها مع الشركة الهندية تمثل خطوة في معالجة عبء الأمراض التي تثقل كاهل القارة الإفريقية بحلول محلية تمامًا. وإن هذا التعاون سيمثل تطورًا مهمًّا للشركة الجنوب إفريقية؛ إذ يُمكّنها من توسيع وصولها لمنتجات الشركة الهندية وعلى نحوٍ يتَّسق مع أولويات جافي Gavi، وهو تحالف يُتيح ملايين الجرعات من الأمصال للأطفال في الأقاليم النامية. وقد أقرَّ تحالف “جافي” بهذا المصل كمُنْتَج هام للصحة العالمية، وأنه ذا أهمية إستراتيجية لمواجهة عبء الأمراض التي تُثقل كاهل القارة الإفريقية.
فيما أكد د. مورينا ماخانا Morena Makhaana، الرئيس التنفيذي لشركة بيوفاك، أن شركته في رحلة مستمرة لضمان توسُّع خطواتها فيما يتجاوز إفريقيا. مع الاستمرار في الاختيار الدقيق لشركاء الشركة داخل القارة وخارجها، ونوع المنتجات التي تُلبِّي حاجة عملاء الشركة. ويُضاف مصل مواجهة الالتهاب الرئوي إلى قائمة أمصال تنتجها الشركة الجنوب إفريقية بالتعاون مع نظيرتها الهندية مثل التيتانوس.
ورأى الرئيس التنفيذي أن عملية نقل التكنولوجيا سيسهم في جهد إفريقيا بالوصول لإنتاج ما نسبته 60% من الأمصال التي تحتاجها القارة بحلول العام 2040م، وضمان قدرة تصنيع مستدامة للأمصال وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المصال والاستعداد لمواجهة الأوبئة.
في المقابل أكَّدت الشركة الهندية أن التعاون مع الشركة الجنوب إفريقية سيُسْهِم بشكل كبير في تحسُّن الصحة العامة العالمية، والقدرة على بناء مُصنِّع إفريقي للأمصال، وكذلك، وهو الأمر الأكثر أهمية، ضمان حياة الأطفال في مواجهة الأمراض الرئوية في القارة الإفريقية.
الشراكة الهندية الإفريقية للتنمية الزراعية والأمن الغذائي([3]) :
باتت الشراكة الهندية-الإفريقية للتنمية الزراعية والأمن الغذائي، وسط تحديات متصاعدة مثل عدم الأمن الغذائي والتغيُّر المناخي، ذات أهمية متزايدة. لكن ما هو إطار 3A الهندي، وكيف يمكن أن يُقدِّم حلولًا ممكنة وذات تكلفة منخفضة تلائم الواقع الإفريقي؟ وللجانبين تاريخ طويل من التعاون في هذا القطاع.
ورغم أن الزراعة هي عمود فقري للتحوُّل الصناعي والقضاء على الفقر في إفريقيا فإنها تظل بالغة الهشاشة إزاء مخاطر تغيُّر المناخ والبنية الأساسية الضعيفة ومحدودية الوصول للتمويل والتكنولوجيا.
إفريقيا تُواجه تناقضًا
أثَّرت عوامل مثل تقلُّبات الطقس الحادة وموجات الجفاف واضطراب سقوط المطار والموجات الحرارية والعواصف طوال العقود السابقة على الزراعة في القارة الإفريقية بشكل ملموس. وفيما بين عامي 1970- 2020م (على سبيل المثال) كانت موجات الجفاف والأمطار الغزيرة الأكثر تكرارًا في التهديدات المناخية للقارة، لا سيما أن أغلب قطاع الزراعة في إفريقيا يعتمد على المطر، وليس على الري.
وتُحْدِث هذه الأنماط غير المتوقعة في الطقس تدهورًا حادًّا في الإنتاجية. وإضافة إلى ذلك يفتقر المزارعون عادة للوصول إلى خدمات هامة مثل بنية تحتية حديثة، وبيانات سوق يُعوّل عليها، وخدمات مالية، ودعمًا للتوسع الزراعي. وتتجاوز عواقب التغيُّر المناخي التأثير على المزارعين إلى مجمل سلسلة القيمة الزراعية بما فيها المُصنّعون والمُوزّعون والمستهلكون. وتتطلب معالجة مثل هذه التحديات مقاربة متكاملة وقائمة على سلسلة القيمة تدعم بدَوْرها التكيُّف المناخي وتخفيف حدة آثار التغيُّر المناخي أيضًا من أجل ضمان التنافسية والاستدامة.
وتُواجه إفريقيا تناقضًا واضحًا. ففيما تُوظِّف الزراعة نحو 65% من قوة العمل بها، فإن إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي للقارة يظل متدنيًا، ولا يتجاوز 15%. إضافةً إلى ذلك تعتمد إفريقيا بشكل كبير على واردات الغذاء. فقد ارتفعت واردات الغذاء في إفريقيا جنوب الصحراء منذ العام 2000 باضطراد قياسًا للإنتاج المحلي. وحتى العام الماضي (2024م) استوردت القارة ما قيمته 60 بليون دولار من الغذاء كل عام، وسيرتفع هذا الرقم في العام الحالي؛ بسبب الصراعات في أرجاء العالم، ليصل إلى 90-110 بلايين دولار.
دور الهند في التحوُّل الزراعي بإفريقيا
أصبحت الهند شريكًا إستراتيجيًّا لإفريقيا في تحوُّلها الزراعي. ورغم تطوُّر هذه الشراكة تدريجيًّا فإنها شهدت نموًّا كبيرًا في التعاون في السنوات الأخيرة في مجالات مثل التنمية الزراعية، تصنيع الغذاء، والتدريب، ونقل التكنولوجيا، والاستثمار الخاص، ويعمل هذا التعاون بالأساس عبر اتفاقات التعاون الحكومي الثنائي والتعاون مع القطاع الخاص.
وفيما يتعلق بالتعاون الحكومي فقد قدَّمت الهند قروضًا ناعمة soft loans وبرامج تدريب ومساعدات تكنولوجية للكثير من الدول الإفريقية. وتهدف مثل هذه الجهود إلى تحسين ممارسات الزراعة ونُظُم الري وجودة التربة والميكنة. وعلى سبيل المثال تلقَّت أنجولا خطًّا ائتمانيًّا بقيمة 23 مليون دولار من بنك التصدير والاستيراد الهندي لشراء جرارات وآلات زراعية، مع خطط لإقامة مركز لتصنيع الغذاء. كما استفادت زيمبابوي من الدعم في إقامة منطقة للتكنولوجيا الريفية، ومعملًا لاختبار الغذاء ومركزًا للتدريب المهني. كما أمَّنت ليسوتو خطًّا ائتمانيًّا بقيمة 5 ملايين دولار لشراء معدات زراعية، بينما تلقَّت مالاوي مليون دولار لتطوير مركز حاضنة أعمال يُقدّم تدريبًا قصير الأجل في معالجة المحاصيل، والسماد العضوي، وإنتاج الفحم المضغوط.
القطاع الخاص الهندي
كما يلعب القطاع الخاص الهندي دورًا هامًّا في تقوية التعاون الزراعي الهندي-الإفريقي. وقد استثمرت الكثير من الشركات الهندية في البنية الأساسية لصناعة الغذاء في أرجاء القارة الإفريقية. وعلى سبيل المثال شركة Surface Wilmar وهي شراكة بين مؤسسة التنمية الصناعية في زيمبابوي وشركة ميدكس جلوبال الهندية Midex Global Pvt. Ltd، والتي استثمر فيها 1.5 مليون دولار بناء محطة لإنتاج زيت الطعام قرب هراري، والتي أصبحت أكبر مُصنِّع لزيت الطعام في إفريقيا الجنوبية.
كما تنشط العديد من الشركات الهندية الكبرى في قطاع الزراعة في إفريقيا مثل Export Trading Group، وهي إحدى كبرى الشركات الزراعية المتكاملة، والتي تعمل حاليًّا في دول مثل تنزانيا وكينيا ومالاوي وموزمبيق ونيجيريا وجنوب إفريقيا.
وقد وافق بنك التنمية الإفريقي مؤخرًا على منحة قدرها 1.4 مليون دولار لدعم مشروع للمجموعة الهندية بدعم ريادة أعمال المرأة الإفريقية، وتمكين نحو 600 مشروع تقوده المرأة في موزمبيق وتنزانيا وزامبيا.
غير أن تقوية صلات الهند وإفريقيا الزراعية سوف تتطلب تعميقًا للشراكات ثنائية وثلاثية الأطراف وتوسيع مشاركة القطاع الخاص، ودعم منصات مشاركة المعرفة. وسيضمن مثل هذا التعاون الأمن الغذائي ودعم النمو الشامل وبناء القدرة على مواجهة التقلبات، ونظم زراعية مستدامة في أرجاء القارة.
…………………………………….
[1] Huma Siddiqui, Modi’s Landmark Africa-Caribbean Tour Targets China’s Influence, Start News Global, June 27, 2025 https://stratnewsglobal.com/india/modis-africa-caribbean-tour-targets-chinas-influence/
[2] Philippa Larkin, South Africa’s Biovac, India’s Biological E ink vaccine tech transfer deal to boost Africa supply, IOL. June 27, 2025 https://iol.co.za/business-report/companies/2025-06-26-south-africas-biovac-indias-biological-e-ink-vaccine-tech-transfer-deal-to-boost-africa-supply/
[3] Samir Bhattacharya, India-Africa partnership for agricultural development and food security, Indian Express, June 28, 2025 https://indianexpress.com/article/upsc-current-affairs/upsc-essentials/india-africa-partnership-for-agricultural-development-and-food-security-10092618/