لعل من أبرز المفارقات الكبرى في تاريخ العمل الأفريقي المشترك هو إقرار الاتحاد الأفريقي لمبادرة اسكات البنادق وجعل أفريقيا آمنة وخالية من الصراعات العنيفة بحلول عام 2020. بيد أن الأمور ازدادت سوءا حيث تصاعدت حدة الهجمات العنيفة من قبل الجماعات الارهابية تحت وطأة جائحة كوفيد_19 ، كما انزلقت أثيوبيا إلى حالة حرب غير مبررة في إقليم التيغراي.
لا شيء في أثيوبيا- الدولة المضيف لمقر الاتحاد الأفريقي- يعلو فوق صوت المعركة. نحن نشهد مواجهات مسلحة مشحونة عرقياً قد تُفضي إلى نتائج لا يمكن تخيلها .
يأتي ذلك في ظل روايات الحرب وشعارات القومية المحملة بمعاني وقيم متباينة بحسب الميول والتوجهات السياسية.
في خطابه أمام البرلمان ، قال رئيس الوزراء آبي أحمد إن حكومته يمكن أن تجمع 100 ألف من القوات الخاصة في أي وقت من الأوقات. ثم أضاف أن بإمكانه تجنيد مليون شاب مستعدون للقتال من أجل الدفاع عن بلدهم في مواجهة جبهة التيغراي.
وفي المقابل يتردد الخطاب نفسه المشحون عاطفيا بين صفوف شعب التيغراي حيث تمت عسكرة المجتمع بأسره للدفاع عن الأرض والعرض.
وفي ظل هذا التجاذب الأيديولوجي والتعبئة العامة على أساس عرقي وسياسي نجد أن الوضع مؤلم وبالغ التعقيد. على سبيل المثال، أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 5.2 مليون شخص في التيغراي بحاجة إلى مساعدة إنسانية. كما أن حوالي 400 ألف منهم أضحوا تحت خط المجاعة. تقول اليونيسف إن 33 ألف طفل معرضون لخطر الموت الوشيك بسبب الجوع.
عدم فعالية الاتحاد الأفريقي:
يطرح الكثير من المراقبين تساؤلات حول عدم قدرة الاتحاد الأفريقي على وضع حد لحرب التيغراي وإنقاذ الأرواح؟ أليس ما يحدث في أثيوبيا اليوم يندرج تحت نص المادة الرابعة من القانون التأسيسي للاتحاد؟
قبل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نبين مدى سلطة الاتحاد الأفريقي في قضايا السلم والأمن. على الرغم من أن الاتحاد الأفريقي الذي ورث منظمة الوحدة الأفريقية منذ عام 2002 قد تعامل بشكل فعال مع قضايا السلام والأمن في أفريقيا إلا أنه يواجه تحديات جسام قد تصيبه بالعجز المطلق في نهاية المطاف. قام الاتحاد برفع سقف التوقعات المتزايدة من خلال شعار “حلول أفريقية لمشاكل أفريقية”.
بيد أن تعقد وتشابك الواقع الأفريقي واشكاليات التعامل مع سياسات الحماية والأمن في إفريقيا قد أعاقت عمل الاتحاد الأفريقي نفسه، ومع ذلك ، فإن القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي يمثل خطوة متقدمة نحو الأمام.
في المادة 4 (ح) ، اكتسب الاتحاد الأفريقي الحق في التدخل في أي دولة عضو ، بعد قرار من المؤتمر ، في حالة حدوث ظروف خطيرة مثل جرائم الحرب أو الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية. كما أنه مخول برفض التغييرات غير الدستورية للحكومات في الدول الأعضاء.
من الناحية المؤسسية حقق الاتحاد الأفريقي بعض التوقعات المرجوة من خلال منظومة السلم والأمن الأفريقية التي اجتذبت اهتمام الجهات الدولية المانحة في الشمال المتقدم. ولعل ذلك كان سلاحا ذو حدين، ففي الوقت الذي أسهم فيه المانحين في بناء قدرات هذا الهيكل الجديد وتمويل العجز في ميزانيته، فإنهم قاموا أيضا بالتأثير على قرارته وخطط عمله.
يحتوي البناء الأمني الجديد بشكل أساسي على خمسة أقسام تعمل من أجل منع النزاعات وإدارتها وحلها، حيث يمكنهم التعاون مع المؤسسات الأفريقية المختلفة. هذه الأقسام هي مجلس السلم والأمن، ولجنة الحكماء، ونظام الإنذار المبكر القاري؛ والقوات الاحتياطية وصندوق السلام. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يقوم الاتحاد الأفريقي بدور فعال في حفظ السلم والأمن الأفريقي؛ ومع ذلك، لم تعمل هذه الأبنية جميعها على النحو المتوخى.
التحديات وعدم الفاعلية:
ولعل من أبرز العقبات التي يواجهها البناء المؤسسي المتعلق بالسلم والأمن في أفريقيا هو دور المتغير القيادي. إذ يقوم الاتحاد الأفريقي بالتعامل مع المشكلات التي تواجهها الدول الأعضاء من خلال مجلس السلم والأمن ومبادرات رئيس المفوضية، إلى جانب مفوض السلم والأمن والشؤون السياسية. ومع ذلك ، يمكن أن يمارس رئيس الدولة الذي يترأس الاتحاد الأفريقي دورًا حاسمًا.
وعلى أية حال فإن مجلس السلم والأمن الذي يتألف من 15 عضوا يمثل جهاز صنع القرار القاري حيث يقوم بتنفيذ سياسات صنع السلام والأمن، كما يشرف على بعثات السلام، ويوصي بالتدخلات عند تحقق الشروط المنصوص عليها في نص المادة 4 آنفة الذكر.
من ناحية الممارسة العملية كان لمجلس السلم والأمن الأفريقي نجاحات واخفاقات بسبب القيود العديدة التي تواجه عمل المجلس.
أولا: على الرغم من قاعدة الأغلبية البسيطة في اتخاذ القرار، إلا أنه غالبًا ما ينتهي إلى صيغ توافقية بسبب التحالفات وتعبئة الآراء الخاصة بالقضايا التي ينظرها . عادة ما تحاول الدول الفوز بعضوية المجلس، للحيلولة ضد اتخاذ إجراءات بحقها أو ضد حلفائها.
ثانيا : يواجه مجلس السلم والأمن عقبات لوجستية وإدارية بسبب عدم كفاية الموارد المالية والبشرية.
ثالثا : التدخلات الخارجية ، في بعض الأحيان يجد مجلس السلم والأمن أن جهوده قد تجاوزتها الأحداث من خلال التدخل الأجنبي ، كما حدث في ليبيا أو منطقة الساحل، حيث تحدد القوى الدولية المانحة مسارها الاستراتيجي الخاص بغض النظر عن موقف الاتحاد الأفريقي.
رابعا : المعايير المزدوجة. رفض الاتحاد الأفريقي تأييد الانقلاب في السودان، وقام بتعليق عضوية البلاد في يونيو 2019. وعلى الرغم من تعليق عضوية مصر بعد تدخل الجيش ضد نظام حكم جماعة الاخوان المسلمين، إلا أنها استعادت عضويتها لاحقًا في عام 2014، بل إن الرئيس عبد الفتاح السيسي تولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي في عام 2019. لكن هذا يسلط الضوء على المعايير المزدوجة للاتحاد الأفريقي. لم يعلق الاتحاد قط عضوية زمبابوي بسبب الانقلاب الذي أنهى رئاسة روبرت موغابي عام 2017. كما أنه لم يتخذ موقفا ضد الجنرال كونستانتينو تشيوينجا ، قائد الانقلاب ،الذي أصبح نائب الرئيس. مثال آخر على الفشل كان في ليبيا، حيث يُنظر إلى الاتحاد الأفريقي على أنه يغسل يديه بينما يتصاعد الصراع المميت وتجعله الأطراف الدولية ساحة للحرب بالوكالة.
الاتحاد الأفريقي وأزمة التيغراي:
يُظهر تحليل اجتماعات مجلس السلم والأمن الأفريقي غياب الاهتمام تقريبا من الناحية الرسمية بما يحدث في التيغراي.
خلال الفترة من نوفمبر 2020 إلى مارس 2021، عقد المجلس 19 اجتماعا. تركز النقاش في هذه الاجتماعات على قضايا بوكو حرام، و جمهورية إفريقيا الوسطى ، والسودان ، والصومال ، وحول مواضيع مختلفة متعلقة بهيكل السلم والأمن في أفريقيا.
وبعد ضغوط دولية عديدة اقترح رئيس الوزراء أبي أحمد في 9 مارس الماضي، على الاتحاد الأفريقي إجراء تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في التيغراي. وبالفعل في 21 مارس ، وافق رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي على ذلك في اجتماع مع وزير الخارجية الإثيوبي.
كان من الواضح تماما أن هذا التحرك الظاهري من جانب أثيوبيا يستهدف تخفيف الضغط الدولي والسعي إلى “حل أفريقي للمشاكل الأفريقية”. تمثل الاقتراح الأيسر في أن تقوم اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بإجراء تحقيقات بالاشتراك مع اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان.
كان بإمكان مجلس السلم والأمن الافريقي إنشاء لجنة خاصة قياسا على حالة جنوب السودان في عام 2013، أو قيام المجلس بالتحقيق كما حدث في مالي عام 2012. كما تم استخدام اللجنة الأفريقية لحقوق الانسان والشعوب في حالتي دارفور وزيمبابوي.
لقد حضرت إثيوبيا طوعا إلى مجلس السلم والأمن وسعت إلى إجراء تحقيق. وبصفتها الدولة المضيفة للاتحاد الأفريقي، فإن لها تأثير كبير على مؤسساته وأجهزة صنع القرار فيه. ويعتقد بعض المحللين أن قواعد الاتحاد الأفريقي خاصة بالآخرين ولا تنطبق على إثيوبيا! لم يكن مستغربا أن مجلس السلم والأمن الأفريقي لم يتخذ أي إجراء ضد إثيوبيا.
وعلى الرغم من عدم فعالية المقاربات العقيمة السابقة للاتحاد الأفريقي في أزمة التيغراي إلا أنه قام بالجهود التالية ربما بغرض تجميل الصورة:
أولاً. عين الرئيس السابق للاتحاد الأفريقي، سيريل رامافوزا، ثلاثة من الرؤساء الأفارقة السابقين في موزمبيق (يواكيم شيسانو) ، وليبيريا (إيلين جونسون سيرليف )، و جنوب أفريقيا (كجاليما موتلانثي) كمبعوثين له للسعي إلى وقف إطلاق النار وبدء محادثات الوساطة. بيد أن الحكومة الإثيوبية رفضت تماما جهود الاتحاد الأفريقي ، على اعتبار أن قواتها التي كانت تسير إلى ميكيلي للإطاحة بقوات جبهة التيغراي وذلك في إطار مهمة لإنفاذ القانون. ترتب على هذا الرفض الأثيوبي أن الاتحاد الأفريقي لم يرسل منذ نوفمبر 2020 ، أي مبعوث ولم يقدم أي اقتراح سلام. ويتناقض هذا تماما مع جهود الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذين أرسلوا مجموعة من المبعوثين لتأمين وقف الأعمال العدائية وتشجيع الأطراف المتحاربة على المشاركة في العملية التفاوضية.
ثانيا: في 26 أغسطس 2021 أعلن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فقي محمد، عن تعيين أولوسيغون أوباسانجو ، الرئيس السابق لجمهورية نيجيريا الاتحادية ، كممثل أعلى لمنطقة القرن الأفريقي. ولعل من أبرز مهام هذا الممثل السامي هو تكثيف اتصالاته مع جميع الجهات السياسية الفاعلة وأصحاب المصلحة المعنيين في المنطقة من أجل ترسيخ السلام والاستقرار الدائمين في منطقة القرن الأفريقي. والطريف أن بيان الاتحاد الأفريقي لم يشر صراحة إلى حرب التيغراي. وربما يفسر ذلك اتهام جبهة تحرير التيغراي للاتحاد الأفريقي بالتحيز تجاه الحكومة الإثيوبية، ورفضها وساطة أوباسنجو.
ثالثا: دعا الاتحاد الافريقي 3 سبتمبر 2021الحكومة الاثيوبية الى بذل المزيد للسماح بتسليم المساعدات الانسانية الى إقليم التيغراي من أجل تجنب وقوع مجاعة مروعة. وقال بانكول أديوي مفوض الاتحاد الأفريقي للشؤون السياسية والسلام والأمن بلغة غير حازمة “نعلم أن الحكومة الإثيوبية تبذل قصارى جهدها، لكننا نريد عمل المزيد لضمان عدم تجويع الناس. النساء والأطفال يجب ألا يظلوا ضحايا لنزاع ليس من صنعهم”.
هناك أسباب متعددة تفسر لنا سبب تخلي الاتحاد الأفريقي عن حل أكثر النزاعات تدميراً في إفريقيا اليوم، وهو حرب التيغراي. من المفهوم أنه منذ رحيل العقيد القذافي ، لا يوجد زعيم أفريقي يمكنه تهديد النفوذ الإثيوبي على الاتحاد الأفريقي. وهكذا، بعد ميليس زناوي، تمتع القادة الإثيوبيون، وإن لم يكونوا في نفس قامة ميليس ، بمكانة متميزة في الاتحاد الأفريقي حتى عندما لا تكون أثيوبيا عضوًا في مجلس السلم والأمن الأفريقي. ويتجلى ذلك في إخلاص الاتحاد الأفريقي للموقف الإثيوبي في كل من أزمتي التيغراي وسد النهضة. في هذا يكمن النجاح الدبلوماسي الإثيوبي من جهة والفشل الواضح لأجهزة صنع السلام والحفاظ على الأمن في الاتحاد الأفريقي.
خاتمة:
يبدو أن الاتحاد الأفريقي ليس غائبا فقط عن حرب التيغراي ولكنه غائب عن الصراعات الأخرى الكبرى. تشمل النزاعات البارزة الانفصاليين الطوارق والمسلحين في مالي، وبوكو حرام في شمال نيجيريا، والميليشيات المتمردة في بوركينا فاسو، وحركة الشباب في الصومال، والحرب العرقية في جمهورية أفريقيا الوسطى.
كما شهدت العديد من الدول حروبا أهلية مثل ليبيا وجنوب السودان والحرب التي شنها الانفصاليون الناطقون بالأنجلوفون ( أمبازونيا) في الكاميرون.
ولعل الفضاء الأوسع للصراعات الأفريقية يتركز في خمسة مناطق كبرى هي : منطقة الساحل ، بما في ذلك مالي وبوركينا فاسو وشمال نيجيريا وتشاد والسودان وإريتريا. ومنطقة بحيرة تشاد، بما في ذلك الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا. والقرن الأفريقي، بما في ذلك الصومال والسودان وجنوب السودان وكينيا، ومنطقة البحيرات العظمى، ولا سيما بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا. وعلى الرغم من كونها محلية ، فإن معظم هذه النزاعات تميل إلى أن تكون عابرة للحدود. إنها تهدد الاستقرار بين الدول والأقاليم. وعلى سبيل المثال، تستغل حركة الشباب في الصومال الحدود المليئة بالثغرات لتنفيذ هجمات مميتة في كينيا.
ربما يدعو ذلك كله إلى ضرورة اصلاح الاتحاد الأفريقي. إذ يجب عليه إعادة النظر في قانونه التأسيسي لمعالجة المبادئ التي تحد من قدرته على التدخل في النزاعات في أراضي الدول الأعضاء. وهذا من شأنه أن يمهد الطريق لصياغة تشريعات وسياسات ومؤسسات وآليات قوية لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل في هذه البلدان. بعد ذلك، يجب أن يعمل الاتحاد من خلال الجماعات الاقتصادية الإقليمية والأفراد على مستوى القاعدة لإنهاء الصراع. وينبغي أن تحاكي أقاليمها الثمانية المعترف بها نجاحات الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ( الايكواس).