وليد وفيق
كاتب سياسي مصري مهتم بشؤون المنطقة العربية والشرق الأوسط وإفريقيا
ثلاثون عامًا مضت منذ تولي الرئيس ديبي إتنو سُدَّة الحكم في جمهورية تشاد وحتى رحيله، ولا يزال الشعب التشادي يكافح من أجل التغيير، منذ استقلال تشاد في 11/8/1960م لم تشهد نظام حكم مدني منتخب، لكنها شهدت تجارب مختلفة للحكم بأنظمة عسكرية، وفترات انتقالية، وانتفاضات شعبية، وثورات مسلحة، والكثير من اتفاقيات السلام بين الحكومة والمعارضة، وتحالفات سياسية، رغم ذلك لا تزال القوى السياسية في تشاد عاجزة عن الوصول إلى معادلة لتأسيس نظام حكم ديمقراطي مستقر.
يشير سياق تقلبات الأوضاع السياسية الحالية في تشاد إلى وصول الدولة إلى طريق مسدود للحوار ولَمْلَمَة القُوَى؛ نتيجةً لتوتر الأوضاع، غير أن ما يميّز الوضع السياسي الراهن في تشاد هو أن كل القوى السياسية -سواء المعارضة منها والمتحالفة مع الحزب الحاكم- منقسمة على نفسها؛ الأولى عاجزة عن الحكم، والثانية تشغلها صراعات داخلية أثرت على قدرتها على تغيير النظام، والمعارضة المسلحة خسرت الرهان، وبالتالي لا تُشكّل خطرًا على المشهد.
هذا الواقع المأزوم يضع القوى السياسية أمام اختبار صعب لإخراج البلاد من هذا الوضع الخطير، الذي كشف هشاشة القوى السياسية بشقيها المعارضة والحاكمة، الأمر الذي يجعل البلاد عُرْضَة لمطامع دولية أكثر من ذي قبل، ظلّ التشاديون في انتظار تحقيق حُلْم التغيير الذي لطالما أصبح شغلهم الشاغل منذ عقدين من الزمان، منذ إلغاء حدود فترات الولاية الرئاسية في عام 2005م، إلا أن اللعبة السياسية بالدستور لم تنته بعدُ.
ما حدث في تشاد مع الرحيل المفاجئ للرئيس ديبي هو مزيج من الانتصار والهزيمة؛ أي نجاح حركة التمرد المسلحة في القضاء على رأس النظام، في الوقت الذي تقرّر أن يستلم السلطة مجلس عسكري انتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي نجل الرئيس الراحل البالغ من العمر 37 عامًا، وهو الذي كان يشغل منصب رئيس الحرس الرئاسي، وليس له خبرة سياسية كبيرة.
ورغم أن هناك الكثير من الغموض الذي ما يزال يحيط بالأحداث الأخيرة؛ إلا أن معلومات المصادر التشاديّة تتلخص في العناصر التالية:
مشاركة الرئيس ديبي المباشرة في المعركة التي احتدمت مع قوات “جبهة التناوب والتوافق” التي هاجمت من الحدود الليبية إقليمَيْ تيبستي وكانم، ووصلت إلى مسافة 300 كيلومتر من العاصمة إنجامينا. ومع أن ديبي كان قد تعوَّد مِن قبلُ على المشاركة في المعارك ضد الحركات المسلحة المعارضة، إلا أن المعطيات المتوافرة تؤكّد أنه وَاجَهَ مخاطرَ لم تكن متوقَّعة رغم مساعدة الفرنسيين الاستخباراتية، ووجود كتيبة منتخبة من الحرس الرئاسي يقودها نجله محمد ديبي. وقد أُصيب الرئيس ديبي في صدره، ولم يصل إلى العاصمة إلا بعد مفارقته الحياة.
بعد رحيل الرئيس ديبي ظهرت نقاشات عارمة بين أركان نظامه من القيادات العسكرية والزعامات القَبَلِيَّة الحليفة حول الخيارات المناسبة لتسيير المرحلة الانتقالية. وقد برز اتجاهان أساسيان هما: العمل بنصوص الدستور الذي يعهد إلى رئيس البرلمان بإدارة المرحلة الانتقالية، ويشرف بعد ذلك على تنظيم انتخابات رئاسية في مدة لا تتعدى 90 يومًا، أو تسلّم الجيش مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية. وتم تبنّي الخيار الثاني من أجل ضمان استمرارية السلطة، ومواجهة مخاطر حركات المعارضة المسلحة. وتم تبنّي الخيار العسكري بالتوافق مع فرنسا وبعض الدول الإفريقية الحليفة لها، مثل الكونغو والنيجر وبوركينا فاسو.
بالنظر إلى الخلافات الداخلية التي تعرفها المجموعة الزغاوية، التي هي القاعدة القبلية لنظام ديبي، تم الاتفاق على محمد إدريس ديبي الذي يبدو أنه الأقدر على جمع كلمتها، والحفاظ على وحدتها وانسجامها، كما أن القيادات العسكرية الكبرى اتفقت على تسليمه السلطة.
لا يزال الغموض قائمًا حول طبيعة الدور الخارجي في تصفية الرئيس ديبي. فالمعروف أن “جبهة التناوب والتوافق” تأسست عام 2016م في جنوب ليبيا من مجموعات “الغوران” التي تنتمي لعشيرة التبو، والتي لها حضور قوي في إقليم فزان بليبيا وفي شرق النيجر وشرق تشاد، والجبهة في أصلها قد انشقت عن “اتحاد قوى الديمقراطية والتنمية” الذي يقوده وزير الدفاع الأسبق الجنرال محمد نوري.
وقد لقيت الجبهة عند تأسيسها دعمًا قويًّا من قوات مصراتة، في إطار صراعها مع الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، إلا أنها الْتحقت بحفتر، وانضمت إليه في حربه للسيطرة على طرابلس في أبريل 2019م، وأصبح لها وجود دائم في الجنوب الليبي وارتباط قوي بقوات فاغنر الروسية.
وبما أن المشير خليفة حفتر حليف للرئيس ديبي فإنه قد عمل على كبح جماح الجبهة وصدّها عن الهجوم على النظام التشادي. إلا أن المعادلة الجديدة في ليبيا قد فرضت إخراج الحركات المسلحة الأجنبية من الأراضي الليبية، فلجأت قوات الجبهة إلى منطقتي أم الأرانب والواو الكبير على الحدود التشادية، وأصبحت خارج سيطرة الجيش الوطني الليبي. وتسرَّبت بعض المعلومات حول إمكانية استفادتها من دعم خارجي ضمن معطيات الصراع الإقليمي في ليبيا، باعتبار أن تصفية الرئيس ديبي تضعف حظوظ المشير حفتر في السيطرة على الجنوب الليبي.
وعليه توجد ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الوضع في تشاد:
الأول: الحكم العسكري الانتقالي، وهو سيناريو محفوف بالمخاطر بسبب رفض القوى السياسية والحركات المسلحة له ومطالبتها بسلطة انتقالية مدنية توافقية لتسيير المرحلة القادمة.
والثاني: سيناريو الصراع العسكري مع اشتداد المواجهة بين قوات النظام والحركات المعارضة المسلحة، وهذا السيناريو يعتمد كثيرًا على موقف فرنسا.
والثالث: سيناريو التوافق الوطني على غرار النموذج السوداني، وهذا السيناريو الأكثر نجاعة وسيدعمه الاتحاد الإفريقي.
1- سيناريو الإدارة العسكرية
هذا السيناريو يدعو إليه محمد إدريس ديبي، الذي استلم السلطة خلفًا لأبيه، وألغى الدستور، وحلّ الحكومة والبرلمان، وقرر تنظيم انتخابات رئاسية “حرة وديمقراطية” بعد 18 شهرًا. ويبدو أن هذا السيناريو هو نتاج التوافق الداخلي بين أجنحة النظام العائلية والقبليَّة والعسكرية، والتوافق الإقليمي في بلدان منطقة الساحل ووسط إفريقيا، ويبدو أنه يحظى بدعم فرنسا مع تحفُّظٍ على المدة الانتقالية، واشتراطٍ لحوار سياسي شامل لإخراج البلاد من أزمتها الداخلية. إلا أن هذا السيناريو يظل محفوفًا بكثير من المخاطر، من بينها ضعف القاعدة السياسية للنظام، وتصدُّع قاعدته القبلية، واتساع المنافسة والخلاف بين القيادات العسكرية، فضلًا عن رفض القوى السياسية المعارضة والحركات المسلحة لخيار الحكم العسكري الانتقالي، ومطالبتها بسلطة انتقالية مدنية توافقية لتسيير المرحلة القادمة.
2- سيناريو الصراع العسكري:
باشتداد المواجهة بين قوات النظام والحركات المعارضة المسلحة التي دعت إلى الهجوم على العاصمة إنجامينا وفرض التغيير بالقوة. وأهم هذه الحركات المسلحة هي “اتحاد قوى المقاومة” الذي هو تكتُّل من عدة جماعات مسلحة تتركز حول المتمردين من قبيلة الزغاوة التي ينحدر منها الرئيس ديبي، ويقودها ابن أخته تيمان أرديمي الذي كاد أن يسيطر على إنجامينا عام 2008م، وهو حاليًا مقيم في الخارج، وله قاعدة قوية في إقليم دارفور السوداني، وكذلك “جبهة التناوب والتوافق” التي تنشط في جنوب ليبيا وتضم وحدات جيدة التسلح والتدريب.
وبالنظر إلى المسار السياسي الحديث لتشاد؛ فإن الوصول إلى السلطة يتم عادة من خلال حركات التمرد المسلحة، وقد تستفيد من مصاعب الانتقال السياسي الحالية لانتزاع السلطة. إلا أن السؤال المطروح هنا يتعلق بالموقف الفرنسي في حال بروز تهديد حقيقي للنظام العسكري الجديد، بالنظر إلى وجود قاعدة جوية فرنسية ثابتة في إنجامينا تدخلت في السابق لإنقاذ نظام الرئيس ديبي الذي هو أهم حليف لفرنسا في حروبها ضد الجماعات المتطرفة في الساحل.
3- سيناريو التوافق الوطني:
بما يعني قيام وساطة إفريقية ودولية للتقريب بين الفُرَقاء من مؤسسة عسكرية وقوى سياسية ومجتمع مدني وحركات مسلحة، وصولًا إلى تشكيل مؤسسات انتقالية إجْماعية بدل انفراد القيادات العسكرية بإدارة المرحلة الانتقالية.
وهذا السيناريو هو الأكثر نجاعة وفاعلية، ويبدو أنه سيُطرح من داخل الاتحاد الإفريقي انسجامًا مع مرجعياته الرافضة للأحكام العسكرية، باستلهام تجربة السودان التي نُقل تطبيقها بشكل ما إلى مالي، وبخاصة أيضًا أن تشاد تترأس حاليًا الاتحاد الإفريقي ورئيس المفوضية هو موسى فكي الذي كان يشغل سابقًا وزير خارجية تشاد.
من جانب آخر يحاول محمد إدريس ديبي وحكومته السيطرة على حدود الدولة، وتثبيت دعائم النظام في الداخل عبر جهود يبذلها في عدة اتجاهات منها.
محاولات لإحياء الاتفاق الرباعي:
اقترح رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد محمد إدريس ديبي “إعادة إحياء الاتفاق الرباعي بين ليبيا والسودان والنيجر وتشاد” من خلال تشكيل قوة عسكرية مشتركة على الحدود مع ليبيا.
وهو يهدف بهذا المقترح إلى تفادي ما حدث في أبريل الماضي، وأدَّى إلى مقتل والده إدريس ديبي خلال معارك مع جماعات متمردة مسلحة تشادية أتت من ليبيا.
كما يشار إلى أن الدول الأربع كانت وقَّعت في عام 2018م اتفاقية تعاون أمني لمكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر، إلا أن الاتفاق لم يمنع تمركُّز قوات شبه عسكرية في جنوب ليبيا وتوغل متمرّدين تشاديين من هذا البلد الغارق منذ 10 سنوات في الفوضى والاقتتال، وتقدمهم أكثر من مرة في باتجاه العاصمة نجامينا.
وخلال زيارة تُعدّ الأولى منذ مقتل الرئيس إدريس ديبي، قام بها نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي، موسى الكوني إلى نجامينا، قال رئيس المجلس العسكري الانتقالي التشادي إنَّ بلاده “تُؤيِّد مبادرة إعادة إحياء الاتّفاق الرباعي بين ليبيا والسودان والنيجر وتشاد؛ من خلال تشكيل قوة مشتركة على طول حدودها”, موضحًا أن تشاد ملتزمة بقوة بأداء دورها في مساعدة الشعب الليبي، لكنْ في المقابل فإن تشاد تأمل بقوة ألَّا يزعزع المرتزقة والعصابات المسلحة التي تجوب ليبيا استقرار الدول المجاورة لها.
كان محمد إدريس ديبي قد كثَّف مؤخرًا من مبادرات الانفتاح على الجماعات المسلّحة المتمرِّدة، ودعا الجميع إلى المشاركة في “الحوار الوطني الشامل” المفترض أن “يجمع كلّ التشاديين لتشكيل دولة يسودها السلام”.
ووعد ديبي في هذا الصدد “باتخاذ إجراءات ملموسة فيما يتعلّق بالعفو والإفراج عن أسرى الحرب، وإعادة الممتلكات، ودمج المسلّحين في الجيش التشادي”.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة التشادية أنّها ستخفّض إلى النصف عدد جنودها العاملين في إطار القوة المشتركة لمكافحة المسلحين التابعة لمجموعة دول الساحل الخمس والمنتشرين منذ فبراير في “منطقة المثلث الحدودي” على الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأرجعت قرارها إلى “إعادة انتشار استراتيجي”.
الحكومة التشادية ودعوات للحوار الوطني:
في ذات الوقت دعت الحكومة التشادية الجماعات المسلحة للمشاركة في “الحوار الوطني الشامل” الذي يفترض أن يُفْضِي إلى تنظيم أول انتخابات رئاسية وتشريعية في البلاد منذ مقتل الرئيس بأيدي متمردين في أبريل.
حيث قال المتحدث باسم الحكومة عبد الرحمن كلام الله: إن “كل الجماعات المسلحة بلا استثناء مدعوة إلى المشاركة في الحوار؛ شرط أن تُلقي السلاح وتنخرط في اللعبة السياسية”، مبيِّنًا أن “الهدف من هذا الحوار” الذي سيعقد في نوفمبر وديسمبر “هو ضمان تجمُّع كل التشاديين ليُشَكِّلوا دولة تنعم بالهدوء”.
وكان رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم محمد إدريس ديبي إتنو نجل رئيس الدولة السابق قد وجَّه في خطاب إلى الأمة عشية عيد الاستقلال نداءً عاجلًا إلى السياسيين العسكريين، وقال: إن “من واجبهم الوطني مراجعة مواقفهم والعودة إلينا من أجل إعطاء دفع جماعي لحيوية الوحدة الوطنية والعيش المشترك”.
وأعلن أن “الحوار الصريح والصادق الذي نطلبه سيكون مفتوحًا، وبالتحديد للحركات السياسية والعسكرية”، موضحًا أنه “سيتم تشكيل لجنة بسرعة كبيرة بهدف تحديد الوسائل العَمَلية لعقد هذا الاجتماع المهم”.
وكان النظام قد استبعد -حتى الآن- إجراء مناقشات مع “الجبهة من أجل التناوب على السلطة والوفاق في تشاد” المجموعة المتمردة التي شنت في 11 أبريل يوم الانتخابات الرئاسية، هجومًا قُتِلَ فيه الرئيس إدريس ديبي بعد حكم دام ثلاثين عامًا.
من جانبها, أعربت جبهة التغيير والوفاق في تشاد، التي تقف وراء تمرد دام وقع هذا العام، عن استعدادها للمشاركة في حوار وطني اقترحه رئيس البلاد المؤقت محمد إدريس ديبي.
وقال المتحدث باسم جبهة التغيير والوفاق: “إذا كانت هناك مبادرات سلمية لبناء تشاد ديمقراطية جديدة تخلو من الديكتاتورية والمصادرة المطلقة للسلطة، فإننا سننضم إليها بالتأكيد”.
ورحبت الجماعة المتمردة المتمركزة في ليبيا، والتي أعلنت مسؤوليتها عن مقتل الرئيس السابق، الآن بدعوة ديبي إلى إجراء محادثات مع جميع الجهات المعنية، ومن بينها الجماعات المسلحة المعارضة ورفض المجلس العسكري الانتقالي بقيادة ديبي في السابق التفاوض مع الجماعات المتمردة، لا سيما أعضاء جبهة التغيير والوفاق، التي اجتاحت البلاد في أبريل قادمة من قواعدها في ليبيا متجهة جنوبًا لتصل على بُعد 300 كيلو متر من العاصمة نجامينا قبل أن يبعدهم الجيش.
ومن خلال هذا الوضع المعقَّد تبقى كل الاحتمالات مفتوحة في المشهد السياسي والعسكري في تشاد، وفي ظل هذا الوضع المتأرجح يظل التشاديون يتطلعون إلى الاستقرار، لا سيما بعد ما مرت به البلاد من أزمات عاصفة في الآونة الأخيرة، الأمر الذي انعكس على تردِّي الحياة السياسية والمجتمعية التشادية إلى حَدّ يُنْذِر بتداعيات سلبية خطيرة على الداخل التشادي، وعلى دول الجوار، التي بدورها تعاني من أزمات ومشاكل كبيرة، ويظل حُلْم التوريث قائمًا في تشاد بدعم من النظام والقبيلة على حدّ سواء، كما يظل طموح المعارضة وحركات التمرد التشادية ماثلًا، وأملها الوصول إلى السلطة وتغيير النظام في تشاد.