جلست أتأمل مليًّا قصة مدينة فاضلة رسم معالمها الاقتصادي السنغالي “فلوين سار” في كتابه عن “أفروتوبيا”. تبدو صورة المستقبل مشرقة؛ حيث يمكن تصوُّر إفريقيا التي نحلم بها على أنها “يوتوبيا فاضلة”، مساحة لم تتحقق بعدُ، ولكنها ممكنة تمامًا، ترتكز على موارد القارة وثقافاتها وأنظمة المعرفة الخاصة بها.
تدعو “أفروتوبيا” الأفارقة إلى رفض نماذج التنمية المفروضة من الخارج، وإعادة تصوُّر التنمية المستدامة والحوكمة والعلاقات الاجتماعية من خلال المنظور الحضاري الإفريقي، وتُركّز على الحقائق المحلية، وتتخلَّص من آثار الاستعمار فكرًا وعملًا، وتُعزّز حلولًا إبداعية ومستدامة لتحديات إفريقيا.
هذه الرؤية ليست نظرة متفائلة وكفى؛ ولكنها مشروع يستهدف الغوص في أعماق الذات الحضارية، واستعادة الثقافة، وبناء نماذج جديدة للعيش والحياة تتكيّف مع السياقات الفريدة لإفريقيا.
وتُظهِر أمثلة واقعية، مثل: متحف الحضارات السوداء في داكار –الذي يُجسِّد تاريخ إفريقيا كما تُصوّره سنغور، والدفع نحو استعادة التراث الإفريقي من المؤسسات الغربية؛ كيف أن مفهوم “أفروتوبيا” بدأ يتشكّل بالفعل في المجالات الثقافية والرمزية.
معضلة “ديستوبيا” الاستعمارية:
ومع ذلك، يتعايش هذا الأفق المتفائل مع شبح مدينة فاسدة أخرى “الديستوبيا”؛ والتي تُجسِّد الجانب المُظلم من حاضر إفريقيا ومستقبلها المُحتمل. وتتسم “الديستوبيا” باستمرار المنطق الاستعماري في استغلال موارد القارة، والتدهور البيئي، وعدم الاستقرار السياسي، وتراجع القِيَم الإفريقية المركزية تحت وطأة الضغوط الخارجية والداخلية.
وفي هذا السياق، نجد أن العديد من المجتمعات الإفريقية لا تزال تُصارع إرث الاستعمار، والاقتصادات الاستخراجية، وفرض نماذج التنمية الغربية التي غالبًا ما تفشل في مراعاة الاحتياجات والتطلعات المحلية. ولا يقتصر مخيال المدينة الفاسدة المُظلم على الجانب الأدبي فحسب؛ بل ينعكس في أزمات حقيقية؛ منها: الصراع، والفقر، والهجرة، والتنافس على الموارد والهوية، وغيرها.
يُلاحظ هذا التناقض بين المدينتين في الأدب والفن الإفريقي المستقبلي بحسبانه صرخة تحذير ودعوة إلى العمل في آنٍ واحد؛ تشمل مقاومة فكرة نهاية العالم، وإعادة تصور البقاء، والتحوُّل من خلال إستراتيجيات تُركّز على إفريقيا.
إن التصادم بين “أفروتوبيا” و”ديستوبيا” ليس مجرد ثنائية بسيطة، بل طيفٌ من الاحتمالات. كما يُجادل “سار” وغيره من الباحثين، فإنّ تخيّل اليوتوبيا -أي تصوّر ترتيبات اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة-، هو في حدّ ذاته شكل من أشكال المقاومة وخطوة ضرورية نحو تحقيق مستقبل أفضل. في الوقت نفسه، فإنّ مواجهة الحقائق البائسة -من خلال تحديد الأزمات التي تواجهها إفريقيا وفهمها-، تُرسّخ هذا التفكير الطوباوي في متطلبات الحاضر المُلحّة.
وهكذا، يتم التفاوض على مستقبل إفريقيا من خلال التفاعل بين هذين القطبين؛ العمل الإبداعي والواعد المتمثل في تخيُّل ما يمكن أن يكون، والحساب الرصين لما هو كائن. وسوف يعتمد مسار القارة إلى الأمام على قدرتها على تسخير خيال “أفروتوبيا” لتغيير الظروف البائسة، وصياغة مستقبل لا يُحدّده النقص أو الأزمة، بل يتَّسم بالفاعلية والابتكار ويتسلح بالإمكانات الجماعية.
تحديات “أفروتوبيا”:
ولتحقيق الرؤية الإفريقية المثالية -مستقبل تكون فيه إفريقيا متحررة، مزدهرة، ومرتبطة بقِيَمها وتراثها الحضاري الأصيل-، علينا أولًا أن نفهم ونعالج التهديدات المعقدة التي تُعيق هذا المسار حاليًّا. هذه التهديدات مترابطة بعمق، وتتطلب تحليلًا وحلولًا إفريقية مركزية حتى نخرج من إسار دستوبيا الواقع:
أولًا: أزمة الحكم الرشيد
أزمة الحكم الرشيد تمثل عائقًا أساسيًّا أمام تحقيق أيّ مشروع نهضوي إفريقي. ففي مناطق مثل الساحل، أدَّى التنازع الداخلي على السلطة إلى تفشّي الفساد والمحسوبية وتقييد الحريات، كما شهدنا في موجات الانقلابات المتكررة في مالي وبوركينا فاسو، وتفاقم عدم الاستقرار السياسي في تشاد بعد وفاة الرئيس إدريس ديبي.
كما أن استمرار الأنظمة العسكرية والنزاعات الحدودية -مثل الخلافات بين الصومال وإثيوبيا، أو بين الكونغو الديمقراطية ورواندا-؛ يُعمّق الانقسامات ويُعرقل التنمية والاستقرار.
أضف إلى ذلك، أن ضعف المنظمات الإقليمية مثل “إيكواس” أمام تصاعد النزاعات الداخلية وخطر التفكك يفتح الباب لتدخلات خارجية متزايدة مِن قِبَل قوى خارجية مثل روسيا والصين، بينما يفاقم التنافس الجيوسياسي بين المغرب والجزائر من تهريب الأسلحة ونشاط الجماعات الإرهابية والهجرة غير النظامية. وإذا لم تُنفَّذ إصلاحات جذرية في الحوكمة والشفافية، ستتفاقم الصراعات الداخلية والإقليمية، ويزداد الاعتماد على التدخلات الخارجية، مما يُعيق تحقيق نموذج إفريقيا التي نريدها.
ثانيًا: تهديد الجماعات الإرهابية
من المتوقع أن يستمر تصاعد التهديد الذي تُمثله الجماعات الإرهابية في إفريقيا جنوب الصحراء، خاصةً في مناطق الغرب والوسط والشرق، خلال السنوات القادمة. يعود ذلك إلى عدة عوامل مترابطة، أبرزها الإستراتيجيات طويلة الأمد التي تتبعها التنظيمات الأم مثل داعش والقاعدة، والتي تُركّز على بناء شبكات محلية، وتجنيد عناصر جديدة، وتوسيع نفوذها عبر الحدود.
كما أن تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العديد من الدول الإفريقية يخلق بيئة خصبة لانتشار الفكر المتطرف؛ حيث يستغل الإرهابيون مشاعر الإقصاء والتهميش والفقر لجذب المجندين الجدد. ويُفاقم من خطورة الوضع فشل الحكومات في تنفيذ إصلاحات حقيقية لمعالجة جذور الأزمة، مثل سياسات دمج المجتمعات المهمشة، ومكافحة بطالة الشباب، وفتح قنوات الحوار مع الجماعات المسلحة، وتعزيز الحوكمة والتنمية المحلية. ورغم الجهود المبذولة لتطوير قدرات الجيوش الوطنية، إلا أن ضعفها المستمر وعدم قدرتها على بسط الأمن في المناطق الهشَّة يُتيح للإرهابيين هامشًا واسعًا للتحرك والتوسع، مما يُنذر بتعقيد المشهد الأمني في القارة الإفريقية مستقبلًا.
وعلى الرغم من عمليات الاستحواذ واسعة النطاق التي تقوم بها الحكومات التي تحارب الجماعات الإرهابية، على الطائرات المسيرة؛ إلا أن الطائرات المسيَّرة وحدها لن تكون كافية لحل مشكلة الإرهاب الأوسع. وربما تُسهّل بعض آثار تغيُّر المناخ (زيادة التوترات المجتمعية وتزايد الهجرة الداخلية) عمليات تجنيد الجماعات الإرهابية المسلحة.
ثالثًا: تصاعد المنافسة الإستراتيجية الدولية
تشهد إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تصاعدًا في المنافسة الإستراتيجية بين القوى العالمية، خاصة مع توسع النفوذ الروسي والصيني، وهو ما يُنذر بتحديات متزايدة للمصالح الغربية في المنطقة. وبحلول عام 2040م، من المتوقع أن تواصل الصين تعزيز حضورها عبر شراكات اقتصادية ضخمة واتفاقيات عسكرية متنامية، مثلما فعلت بالفعل في جيبوتي؛ حيث أنشأت أول قاعدة عسكرية خارجية لها. وهناك مؤشرات قوية على أن بكين قد تسعى لتكرار هذا النموذج في دول أخرى مثل تنزانيا ومدغشقر، وربما على طول ساحل المحيط الأطلسي في غينيا الاستوائية، ما يُهدِّد النفوذ التقليدي للولايات المتحدة وفرنسا في هذه المناطق. فعلى سبيل المثال، تشير تقارير إلى مفاوضات صينية لبناء منشآت بحرية في تنزانيا، وتعزيز التعاون العسكري مع دول مثل نيجيريا وأنغولا، في إطار مبادرة “الحزام والطريق” التي تربط الاستثمارات الاقتصادية بالمصالح الإستراتيجية.
أما روسيا، فقد ركزت إستراتيجيتها على استغلال الموارد الطبيعية الإفريقية، وتوقيع اتفاقيات دفاعية، وتوسيع وجودها العسكري، كما يظهر في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والسودان. ففي مالي، على سبيل المثال، لعبت مجموعة “فاغنر” الروسية دورًا محوريًّا في دعم الحكومة ضد الجماعات المسلحة، ما أدَّى إلى تراجع النفوذ الفرنسي بعد انسحاب قوات “برخان”. وفي السودان، سعت موسكو للحصول على قاعدة بحرية في بورتسودان، ما يعكس رغبتها في تأمين موطئ قدم إستراتيجي على البحر الأحمر.
هذه التحركات لا تقتصر على المنافسة الاقتصادية أو العسكرية المباشرة، بل تشمل أيضًا الانخراط في صراعات بالوكالة، كما حدث في مالي والسودان؛ حيث أدى الدعم الروسي لبعض الفصائل إلى تعقيد المشهد الأمني وزيادة عدم الاستقرار المحلي، خاصةً في ظل استمرار الحرب بالوكالة بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية. في الوقت نفسه، تواجه فرنسا تراجعًا ملحوظًا في مناطق نفوذها التقليدية، مثل خليج غينيا؛ حيث تتزايد الاستثمارات الصينية والوجود الروسي، إلى جانب جهود موسكو لتهميش باريس في مناطق جديدة مثل المحيط الهندي. وقد ظهر ذلك في دعم روسيا لمطالب مدغشقر بجزر إيبارسيس، وفي دعم مطالب جزر القمر بجزيرة مايوت، ما يُمثل تحديًا مباشرًا للوجود الفرنسي.
من جهة أخرى، تستعرض الصين قوتها البحرية في المحيط الهندي، وتعمل على تعزيز قدراتها اللوجستية والعسكرية في موانئ إستراتيجية، بينما تعتمد روسيا على تكتيكات هجينة تجمع بين الدعم العسكري، والحملات الإعلامية، وتوظيف الشركات الأمنية الخاصة. كل ذلك يأتي في سياق بيئة إقليمية هشّة؛ حيث تواجه العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء تزايدًا في عدم الاستقرار الداخلي، ما يجعلها أكثر عُرضة للتدخلات الخارجية وتغيُّر موازين القوى.
في النهاية، من المرجّح أن تزداد حدة المنافسة بين هذه القوى في السنوات المقبلة، مع تزايد أهمية إفريقيا في معادلات الطاقة والتجارة والأمن العالمي.
رابعًا: التهديدات الهجينة
تشهد القارة الإفريقية تصاعدًا في التهديدات الهجينة؛ حيث تتداخل العوامل الأمنية التقليدية مع مخاطر جديدة ناتجة عن استغلال آثار تغيُّر المناخ والتقنيات الحديثة مِن قِبَل جهات فاعلة حكومية وغير حكومية. ومن أبرز هذه التهديدات استهداف البنى التحتية الحيوية للطاقة والاتصالات؛ إذ أضحت الكابلات البحرية التي تمر قبالة سواحل شرق إفريقيا، خاصة قرب جيبوتي والبحر الأحمر، هدفًا محتملًا لهجمات إلكترونية أو تخريبية قد تُنفّذها دول أو جماعات غير حكومية. مثل هذه الهجمات قد تتسبَّب في تعطيل حركة التجارة الدولية، وقطع الاتصالات، وإلحاق أضرار اقتصادية جسيمة بدول تعتمد بشكل كبير على هذه البنية التحتية، كما حدث في حالات سابقة لانقطاع الكابلات البحرية في غرب إفريقيا، مما أدَّى إلى توقف خدمات الإنترنت في عدة دول لأيام.
إلى جانب ذلك، تبرز قضية الصراعات على الموارد الطبيعية، خاصةً المياه، كعامل رئيسي في زعزعة الاستقرار الإقليمي. مثال على ذلك: تلك التوترات المستمرة بين مصر والسودان وإثيوبيا حول سد النهضة على نهر النيل؛ حيث يخشى مراقبون من أن يؤدي تصاعد الخلافات إلى مواجهات إقليمية مفتوحة. كما أن الجماعات الإرهابية، مثل بوكو حرام وتنظيم الدولة في غرب إفريقيا (استخدمت بالفعل تكتيك “تسليح المياه” عبر تسميم مصادرها أو السيطرة عليها)، ومِن المُرجّح أن تزداد هذه الممارسات مع اشتداد ندرة الموارد بسبب تغيُّر المناخ.
أما على صعيد التكنولوجيا، فإن الذكاء الاصطناعي بدأ يشقّ طريقه إلى الإستراتيجيات العسكرية في إفريقيا؛ حيث بدأت دول مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات الدفاع والمراقبة. جنوب إفريقيا، على وجه الخصوص، تتصدر أبحاث الذكاء الاصطناعي في القارة، لكن هذا التطور يجذب أيضًا اهتمام قوى عالمية مثل الصين وإسرائيل، ما يثير مخاوف بشأن الاعتماد التكنولوجي، واحتمالات المراقبة، والتأثير الخارجي على السياسات الدفاعية الإفريقية.
في المقابل، يُشكّل استخدام الذكاء الاصطناعي مِن قِبَل الجماعات الإرهابية، إلى جانب تصاعد الهجمات الإلكترونية، تحديًا متزايدًا للأمن الإقليمي، خاصةً في ظل ضعف منظومات الحماية الإلكترونية في العديد من الدول الإفريقية.
ولا تقتصر التهديدات الهجينة على الفواعل المحلية، بل تشمل أيضًا قوى إقليمية ودولية مثل الصين وتركيا ودول الخليج، التي قد تتبنَّى إستراتيجيات عدوانية غير تقليدية دون الانزلاق إلى صراع مسلح مباشر، خاصةً إذا تصاعدت المنافسة مع القوى الغربية. فعلى سبيل المثال، قد تلجأ الصين إلى الضغط الاقتصادي أو التلاعب بالمعلومات أو دعم وكلاء محليين للرد على إجراءات غربية تمسّ مصالحها الحيوية، كما في حالة المواقف الفرنسية من قضايا تايوان أو التبت. ورغم أن إفريقيا ليست دائمًا محور الاهتمام الأول لهذه القوى، إلا أن التحولات الجيوسياسية قد تدفعها إلى تعزيز حضورها عبر أدوات الحرب بالوكالة، والضغط الإعلامي، واستغلال الأزمات المناخية والاقتصادية لتعزيز نفوذها في مناطق إستراتيجية مثل القرن الإفريقي.
وختامًا، لفهم هذه التهديدات من منظور “أفروتوبيا”، يجب التعامل معها كعقبات أمام تحقيق السيادة الحقيقية والتنمية المستدامة والنهضة الثقافية. ولعل ذلك يتطلب إصلاحات جذرية في الحوكمة، وتبنّي سياسات شاملة لدمج المجتمعات المهمشة، وبناء مؤسسات قوية وشفافة، وتعزيز التعاون الإقليمي بعيدًا عن التبعية الخارجية. كما يستدعي تطوير إستراتيجيات أمنية وتقنية إفريقية مستقلة، وإعادة الاعتبار للمعرفة المحلية والموارد الذاتية، حتى تتحوَّل إفريقيا من ساحة تنافس إلى فاعل رئيسي في رسم مستقبلها.