وليد وفيق
كاتب سياسي مصري مهتم بشؤون المنطقة العربية والشرق الأوسط وإفريقيا
دائمًا هناك رابط حيوي يربط الدول الاستعمارية بمستعمراتها القديمة، وهذا الرابط يُعد بمثابة حبل سُرّي من أجل ديمومة التدخل عند الحاجة؛ إذا استدعى الأمر ذلك.
والرابط الذي يربط فرنسا بمستعمراتها القديمة في إفريقيا ليس الرابط الفرانكوفوني فحسب، وإنما النفوذ المتوارث لكل أنظمة الحكم في الدول التي تحررت، لذلك لا يجب أن نستغرب التدخل عند الحاجة، مِن قِبَل القوى الكبرى في مستعمراتها البائدة التي نالت استقلالها ظاهريًّا، ولكن باطنيًّا التأثير الاستعماري القديم لا يزال موجودًا وفاعلاً، لكنَّه لا يظهر إلا عند حدوث الأزمات، وهذا ما يحدث دومًا وسيحدث مستقبلاً.
ومثال على ذلك: التدخل الفرنسي في مالي على وجه الخصوص، والذي لن يكون الأخير، كما حدث سابقًا، وفي إشارة واضحة على وجود الدور الاستعماري الفرنسي في إفريقيا خلال أزمة كوت ديفوار، وغيرها من الأزمات التي تجلَّى فيها هذا الدور والتأثير.
إن أزمة مالي تعود إلى عقود مضت من التعارض بين الحكومة المركزية ومجموعات مسلحة من الطوارق، تطالب بعددٍ من الحقوق، وقد تتطرف الجماعات المسلحة في مطالبها إلى حد المطالبة باستقلال منطقة أزواد، وفي كل مرة تتصاعد الأزمة بين المسلحين والحكومة تنتهي بإجراء مزيد من المفاوضات، يُعطى من خلالها الطوارق عددٌ من الاستحقاقات تنتهي بموجبها الأزمة دون الحاجة لتدخل خارجي.
إلا أن الأزمة في مالي أخذت منحًى آخر، وساهم في تطورها عددٌ من العوامل، منها سقوط نظام القذافي في ليبيا، الأمر الذي مكَّن الطوارق من الحصول على أسلحة متطورة وبسط نفوذهم على شمال البلاد، بالإضافة إلى الانقلاب العسكري الذي قاده أحد قادة الجيش، ممن تدرب في أمريكا سابقًا.
هذا الانقلاب أضعف قدرات الجيش المالي على مواجهة الحركة المسلحة في الشمال، وأدَّى إلى انقسام البلاد، وهو الأمر الذي ساعد الطوارق في حربهم ضد الجنوب. وزاد الموقف تعقيدًا مع دخول مجموعات مسلحة على الخط، ودعمها للطوارق في حربهم وسيطرتهم على عدد من المدن في الشمال.
هذا المشهد رغم تعقيداته كان من الممكن التوصل فيه إلى حلول تُرضي جميع الأطراف، من خلال ممارسة ضغوط من دول الجوار على الأطراف المتصارعة، خاصةً وأن الفصيل الرئيسي في الشمال، جماعة أنصار الدين، والذي يسيطر على معظم المدن الشمالية، أعرب عن قبوله للحوار، وأبدى مرونة في هذا المجال، إلا أن المشهد تطور، مع تدخل فرنسا تلبيةً لنداء استغاثة من السلطات، لوقف زحف المسلحين نحو باماكو العاصمة، وقصف الطيران الفرنسي مواقع في معقلهم بكيدال، وسيطر الجيشان الفرنسي والمالي على غاو كبرى مدن شمال مالي التي استعادها إثر هجوم خاطف، في الوقت الذي يقود مالي سلطات انتقالية متعددة، تشكلت بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس أمادو توماني توري في ٢٠١٢م، مما سرع في سقوط شمال مالي في أيدي الحركات المسلحة والمتمردين الطوارق.
إن الهدف الأول للنفوذ الفرنسي هو حماية مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية، وفرنسا كقوة استعمارية سابقة في إفريقيا، لم تقبل أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح القوى الوطنية، أو لقوى أخرى بدأت تتغلغل إليها كالصين وإيران وتركيا، لذلك رأت أن الوقت والظروف مناسبان لحماية مصالحها، خاصة بعد اكتشاف الموارد المعدنية، واحتياطيات النفط واليورانيوم والفوسفات في إقليم أزواد.
إنه لمن المخيف أن تكون المصالح الفرنسية مدخلاً لتطبيق السيناريو الصومالي في مالي، خاصةً وأن معظم الدول المحيطة بمالي دولٌ هشَّة، وستتضرر من التدخل الفرنسي، ففي موريتانيا عددٌ من المتمردين، وتعاني نواكشوط من أوضاع أمنية واجتماعية واقتصادية مزرية لن تحتمل حرب استنزاف طويلة في هذه المنطقة، بالإضافة إلى الجزائر التي ترتبط بحدود طويلة مع مالي؛ مما يصعب السيطرة التامة عليها، فضلاً عن أن ردود فعل الجماعات المسلحة التي تسيطر على شمال مالي لا يمكن التحكم فيها، وقد تلجأ إلى دخول أراضي الجزائر في حال اشتداد الضغوط عليها.
إنَّ التدخل الفرنسي في مالي يُعتبر بمثابة حرب استباقية ومقامرة كبيرة سيكون له ثمن باهظ، وهو استمرار لخطط الهيمنة الغربية على ثروات القارة السمراء، وتكرار مستهلك لاستراتيجيات اتبعت في الحرب على العراق لتغيير الكل بالجزء. إن أزمة مالي متشعبة ومعقدة، ولن تنتهي باللجوء إلى الخيار العسكري.
منذ فترة وأخبار التدخل الفرنسي تحتل صدر الصفحات الأولى في الجرائد والصحف ونشرات الأخبار في الإعلام الفرنسي والفرانكوفوني في مالي وبلدان إفريقية عدَّة. لكنَّ بعض هذا الإعلام وهو البعض الأقل والأضعف ينتقد بشدة ذلك التدخل، في حين أن معظم الإعلام يرحب به. حتى إن الصحافة الإفريقية انقسمت مواقفها أمام التدخل الفرنسي في مالي، كما في الصومال، بين مؤيّد بخجل ومندّد بشدة، فهل لفرنسا مصلحة من وراء تدخلها العسكري فيها؟، فوراء كل تدخل عسكري غربي في أيّ بلد يشهد حربًا داخلية، هدف يرمي البلد الغربي المتدخل إلى تحقيقه، وهو وضع اليد على ثرواته الطبيعية، ولا سيما إذا كانت تلك الثروات في مالي موادّ أولية نادرة كاليورانيوم والبلوتونيوم والسيليكون، وما إلى ذلك. أما الذهب الذي يشكّل 15% من موارد مالي المالية، فمناجمه نادرة وقليلة حوالى 10 مناجم فقط، وهو إلى جانب القطن، يشكّل المورد الوحيد للاقتصاد المالي الذي تراجع بنسبة 4.5% عن العام الماضي، عندما بدأ تمرد قبائل الطوارق على السلطات المالية.
إن فرنسا ليس لها أطماع في مالي إلا من زاوية كونها ملاصقة للنيجر؛ حيث تستخرج شركة أريڤا الفرنسية مادة اليورانيوم. وسيكون لامتداد النزاع إلى شمال النيجر مفعول خطير على أمن فرنسا لجهة تزودها بانتظام باليورانيوم الذي يشكل مصدر طاقة مهمة جدًّا بالنسبة إليها و”أريڤا” هي نتيجة تضافر جهود شركتيْ “ألستوم” و”شنيدر إلكتريك”، وهي مجمع صناعي فرنسي مختصّ بالصناعات النووية، ولها أنشطة تجارية في أكثر من 100 دولة، وأنشطة صناعية في 43 دولة. والنيجر بلد استراتيجي بالنسبة إلى شركة “أريڤا” التي تستخرج منه أكثر من ثلث حاجاتها من اليورانيوم، وهذا ما يفسّر تحمّلها للمخاطر جرّاء بقائها في هذا البلد.
غير أن الشركات الفرنسية اكتشفت امتدادًا هائلاً لمناجم اليورانيوم في النيجر تصل إلى أعماق الداخل في مالي. وعلاوة على ذلك، فإن مالي تحاذي موريتانيا الغنية بالنفط، والتي تحصل شركة “توتال” الفرنسية على النصيب الأكبر منه، وتحاذي ساحل العاج (كوت ديفوار) عاصمة منطقة الفرنك الإفريقي، كما تحاذي الجزائر الشريك التجاري الأول لفرنسا، والسوق الثالثة لتصريف منتجاتها الصناعية خارج منطقة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
وكان وزير الخارجية الفرنسية قد طرح، ضرورة قيام شراكة استراتيجية بما فيها التعاون العسكري بين فرنسا والجزائر، وسرعان ما وضعت هذه الشراكة موضع التنفيذ باشتراك الجيش الجزائري في شنّ الهجوم على مجموعة من المسلحين احتجزوا عددًا كبيرًا من العاملين في منشأة نفطية جنوب شرق الجزائر، بمن فيهم الأجانب من فرنسيين وبريطانيين وأميركيين ويابانيين.
إذًا، وباستثناء المبررات الجيوسياسية والأمنية التي يطرحها استيلاء أيّ فريق على الحكم في مالي، وانعكاس ذلك على الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، وفي ما يتعدى المبررات الإنسانية الهادفة إلى مساعدة الشعب المالي، يطرح السؤال نفسه حول المصالح الاقتصادية لفرنسا.
وعلى الرغم من أن مالي مستعمرة سابقة لفرنسا، حصلت على استقلالها من فرنسا في العام 1960م، وما زالت فرنسا تحتفظ بعلاقات تجارية مميزة معها، لكنها علاقات ليست بأهمية تذكر؛ فبحسب وزارة الخارجية الفرنسية تحتل مالي المرتبة السابعة والـثمانين بين الدول التي تشتري من فرنسا، والمرتبة الخامسة والستين بعد المائة بين الدول التي تبيع إليها. ولا تتجاوز صادرات مالي من القطن والأبقار والذهب إلى فرنسا 10 ملايين يورو سنويًّا، أي ما نسبته 0.002% من جملة ما تستورده فرنسا من جملة دول العالم. خلافًا لذلك، فإن فرنسا كانت في العام 2015م الدولة الرابعة المُصدِّرة إلى مالي، من دون أن تتجاوز قيمة صادراتها إليها 280 مليون يورو، أي ما يعادل 0.065% من جملة صادرات فرنسا.
في مالي 50 فرعًا لمؤسسات تجارية فرنسية أو ذات رأسمال فرنسي، تُشغّل ما يقارب 2500 شخص، 65% من هذه المؤسسات تعمل في المجال الخدمي، و15% منها يعمل في القطاع الصناعي، و20% في القطاع التجاري. وفي مالي أيضًا حوالى 60 مشروعًا استثماريًّا خاصًّا تعود ملكيته إلى فرنسيين مقيمين في مالي أو إلى ماليين متجنسين بالجنسية الفرنسية. غير أن فرنسا تأتي في المرتبة 111 بين الدول التي لها استثمارات في مالي. يبلغ عدد المستثمرين الفرنسيين في مالي حوالى 5 آلاف مستثمر. في حين أن الجالية المالية في فرنسا تُعدّ حوالى 80 ألف شخص.
برّرت فرنسا تدخلها العسكري في مالي بكونها تستجيب لنداء المساعدة العسكرية التي يطلبها منها الرئيس المالي، فلماذا قرر الرئيس الفرنسي التورط بالتدخل في مالي، وطلب المساعدة من بعض الدول العربية، وفي مقدمها الإمارات والجزائر؟ ولماذا قررت الجزائر فجأة إغلاق حدودها مع مالي، وتقديم مساعدة لفرنسا في تدخلها هذا، بالسماح للمقاتلات الفرنسية بالطيران فوق أراضيها؟
الأزمة التي تعاني منها مالي مزدوجة؛ نتيجة اغتنام المسلحين فرصة تمرُّد الطوارق على السلطات المالية المركزية، من أجل فَرْض سيطرتهم على شمال البلاد، وبهذا يمكن تفسير وقوع شمال مالي في يد المسلحين التابعين للزعيم الإسلامي ناصر الدين، ويسمون “أنصار الدين”، لكن الأقرب هو أن التنافس الأمريكي الفرنسي على المنطقة أدى إلى “زجّ” فرنسا التي اعتقدت أنها بذلك تسبق الولايات المتحدة إليها، وإن كان الطرفان متفقين على تفكيك بلدان المغرب العربي على غرار ما يجري من فرط لكيانات الدول العربية المشرقية، وتفتيتها إلى كيانات ووحدات عرقية ومذهبية وقبلية.
غير أن التدخل الفرنسي ليس لعبة فيديو يمكن إيقافها، أو المضي فيها ساعة كما يريد اللاعب. وفرنسا تلعب اليوم لعبة التدخل الاستعماري من جديد، وتعيد إلى الأذهان تجارب ماضيها الاستعماري في البلدان الإفريقية؛ فإذا انتصرت على المسلحين فإنهم سيعودون متى سحبت قواتها من مالي، وإذا انهزمت فسوف تصبح أضحوكة في نظر الأفارقة. وفي كلتا الحالتين ستكون فرنسا خاسرة، إن كان على المدى القريب أو على المدى البعيد، وسيدفع الثمن القتلى من الجنود والرعايا الفرنسيين، الذين ربما يربحون أيضًا نقاطًا إضافية وعلاوات على رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية. وحدها ربما سوف تربح مصانع الأسلحة ومصانع السيارات والعربات العسكرية وناقلات الجند.
إن فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي ينشر قوات عسكرية ميدانية في مالي خاصة والساحل الإفريقي عامة، منذ 2013م؛ فقد نشرت فرنسا آلاف الجنود سنة 2013م، عندما تدخلت لمساعدة الحكومة المالية على استعادة مساحات شاسعة من أراضيها الشمالية من بينها مدن تمبكتو وغاو التي استولى عليها المسلحون.
وزاد انتشار الجماعات المسلحة في منطقة الساحل، وهي منطقة إفريقية تمتد من ساحل المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، وتشمل ما لا يقل عن 14 دولة، بما في ذلك أجزاء من مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى.
كما تعود أسباب الوجود العسكري الفرنسي في أقطار الساحل الإفريقي لدوافع تاريخية أيضًا، فالاهتمام الفرنسي بهذه المنطقة يعود إلى الحقبة الاستعمارية، فقد احتلت فرنسا السنغال وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وعلى الرغم من أن دولًا أوروبية عديدة تقدم الدعم اللوجستي، إلّا أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي لها وجود عسكري دائم على الأرض في الساحل، وذلك ما تنتقده كل من أحزاب اليسار واليمين في فرنسا.
في المقابل تسعى الحكومة الفرنسية، إلى مشاركة دول أوروبية أخرى في الحرب ضد المسلحين في الساحل، والتي يمكن أن تكون ملاذًا آمنًا للجماعات الإرهابية.
لذلك حثت فرنسا الدول الأوروبية الأخرى على بذل المزيد من الجهد في غرب إفريقيا، مشيرة إلى أنه إذا كانت الجماعات الإرهابية قادرة على التحرك بحرية في هذه المنطقة، فإنها تهدد دول القارة برمتها، وفي ظل هذه الأوضاع المتغيرة، والتي يجب على أيّ نظام حاكم في مالي مراعاتها، فإن الطريق يبدو صعبًا، لكنه ليس مستحيلاً لاستعادة الدور الوطني، والتخلص من آثار النفوذ الفرنسي، وتبنّي شراكة حقيقية تقوم أساسًا على عناصر استقلالية القرار المالي دون ضغوط من أيّ طرف.
وهذا لن يتأتَّى إلا عندما تستطيع مالي أن تسترد دورها الحقيقي في منطقة الساحل والقارة الإفريقية، والتي هي الحاضن والداعم الحقيقي للشعب المالي، وفي حال الإبقاء على حالة السيولة الخطيرة التي عليها الأوضاع فإن النفوذ الفرنسي سيظل ضاغطًا بما يضمن تبعية مالي لباريس.