عقدان من السلام: أين وصلت بوروندي اليوم بعد عشرين عامًا من نهاية الحرب الأهليَّة؟

مقدمة:

قبل عشرين عامًا، وتحديدًا في عام 2005م، وضعت الحرب الأهليَّة في بوروندي أوزارها كنتيجة لمُفاوضات السلام والمُصالحة الوطنيَّة التي جرت بين الحكومة والجماعات المتمردة، لتطوي البلاد بذلك مرحلة مريرة من الفوضى والعنف، والتي كان للأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المضطربة والمُتراكمة مُنذ حقبة الاستعمار دور رئيسي في انفجارها وتأجيج الصراع بين مجموعتي الهوتو والتوتسي الإثنيتين، وما أدّى إليه من وقوع إبادات جماعيَّة وعمليات تطهير عِرقي بحقّ عشرات الآلاف من الشعب البوروندي.

اليوم، وبعد عقدين من انتهاء الحرب الأهليَّة، فإنَّ المجتمع البوروندي يبدو متمتّعًا بقَدْر من السلام الداخلي في ظل تراجع مُحفّزات الصراع الإثني واستقرار نظام الحكم، ومع ذلك فإنَّ عددًا من التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة لا يزال قائمًا، ويُهدّد البلاد باحتمالات تراجع الاستقرار وتفاقم العنف والاختلافات بين النُّخَب السياسيَّة.

تُعدّ جمهورية بوروندي إحدى دول شرق إفريقيا، وهي دولة حبيسة لا تُطِلّ حدودها على أيّ سواحل بحريَّة؛ حيث تَحُدّها رواندا شمالًا، وتنزانيا شرقًا، ومن الغرب تجاورها جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، فيما تحدّها بحيرة تنجانيقا من ناحيتي الجنوب والغرب([1]).

وبحسب إحصائيات 2023م، بلغ عدد سكانها نحو 13.2 مليون نسمة، ما يجعلها بذلك من أكثر دول العالم من ناحية الكثافة السكانيَّة، وتتميز بوروندي باقتصاد منخفض الدخل وقليل التنوع؛ إذ يعمل نحو 80% من سكانها في قطاع الزراعة([2]).

يسعى هذا المقال، عبر أربعة محاور، إلى استكشاف الواقع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه جمهورية بوروندي وما حققته حتى اليوم بعد عقدين من السلام الداخلي (2005- 2025م)؛ حيث يتناول المحور الأول طبيعة الحياة السياسيَّة في بوروندي، ويُعالج المحور الثاني الواقع الاقتصادي وفرص التنمية، فيما يتطرق المحور الثالث إلى قضية المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وأخيرًا يناقش المحور الرابع العلاقات الإقليميَّة لبوروندي تجاه دول الجوار.

الحياة السياسيَّة في بوروندي: ديمقراطية هشّة… وديكتاتورية مستقرة

أدَّى اغتيال ملشيور ندادايي Melchior Ndadaye في أكتوبر من عام 1993م، وهو أول رئيس مُنتخَب ديمقراطيًّا في بوروندي، وينتمي إلى عِرْقية الهوتو، على يد مجموعة من المتطرفين التوتسي، إلى اندلاع اضطرابات واسعة ومواجهات مُسلحة بين الهوتو والتوتسي، سُرعان ما تطورت إلى أعمال إبادة جماعيَّة ضد أقلية التوتسي مِن قِبَل المليشيات المُسلَّحة المدعومة من الحكومة، واستمر القتال بين الجانبين، رغم جهود الوساطة الإقليميَّة، لنحو  12 عامًا (1993- 2005م)، مُخلِّفًا عشرات الآلاف من الضحايا، ومثلهم من اللاجئين الذين نزحوا إلى دول الجوار؛ خوفًا من العنف والتهديد بالقتل، إلى أن توصّل أطراف النزاع إلى اتفاقية “أروشا” للسلام والتعايش السلمي الذي رعته جهات إقليميَّة ودوليَّة متعددة، إضافةً إلى ممثلين من عرقيتي الهوتو والتوتسي المتصارعتين، وكان أهم ما تضمنته الاتفاقية المذكورة بشأن الديمقراطيَّة والحكم الرشيد: تطبيق اللامركزيَّة كأساس لتحقيق التنمية المحليَّة، وإقامة ديمقراطيَّة توافقية قوامها تقاسم السُّلطة بين المجموعات العرقيَّة للمُجتمع البوروندي، ولا سيَّما المجموعتين العرقيتين المتنافستين؛ الهوتو والتوتسي ودعم نظام الأحزاب السياسيَّة، أعقب ذلك إجراء انتخابات برلمانيَّة فاز فيها المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة”، الذي تحوَّل من مليشيا متمردة خلال الحرب الأهليَّة إلى حزب سياسي، تلا ذلك انتخاب بيير نكورونزيزا Pierre Nkurunziza، مِن قِبَل البرلمان البوروندي، أول رئيسٍ للبلاد بعد الحرب.

سعى نكورونزيزا إلى تكريس نفسه كزعيم قوي للبلاد، فأُعيد انتخابه لولاية ثانية عام 2010م، كما واصل الحزب الحاكم (المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة”) تكريس سطوته وتعزيز سيطرته على مؤسسات الدولة سيطرةً مطلقة، ولم يتوانَ قادة الحزب في سعيهم لذلك عن ارتكاب انتهاكات جسيمة تتعلق بحقوق الإنسان وتقييد الحريات العامة وإطلاق حملات اعتقال واسعة استهدفت الشباب والناشطين السياسيين وأفراد المجتمع المدني، فضلًا عن توظيف أجهزة الدولة الأمنيَّة والاستخباريَّة بغرض توطيد دعائم الحكم وإظهار عدم التسامح مع أي شكل من أشكال المعارضة.

أدت هذه الممارسات التعسفية إلى حالة من الغضب الشديد في أوساط المجتمع البوروندي بكل أطيافه ومكوناته العرقيَّة، وتزايدت حالة الاحتقان السياسي مع إعلان الحزب الحاكم، في أبريل 2015م، دعمه للرئيس بيير نكورونزيزا مرشحًا له في الانتخابات الرئاسيَّة لولاية ثالثة، وهو ما قاد إلى اندلاع احتجاجات واسعة تنديدًا بهذا القرار؛ باعتباره انتهاكًا للدستور الوطني واتفاقية “أروشا” التي وضعت حدًّا للحرب الأهلية، إلا أنَّ السُلطات البورونديَّة واجهت هذه الاحتجاجات بقمع شديد ووحشية مفرطة، اندفع على إثرها كثير من المعارضين، بما في ذلك أفراد من المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة”، الذين أعلنوا رفضهم لترشح نكورونزيزا، إلى الفرار خارج البلاد هربًا من تنكيل الحكومة وأجهزتها الأمنيَّة([3]).

سعيًا منه لتهدئة الأوضاع واحتواء الانتقادات المحليَّة والدوليَّة؛ أعلن بيير نكورونزيزا في منتصف 2018م عدم ترشحه لولاية رئاسية رابعة، وبالتالي تراجعه عن خوض الاستحقاق الرئاسي لعام 2020م، جاءت هذه الخطوة المفاجئة بالرغم من التعديلات الدستوريَّة التي تم الاستفتاء عليها في مايو 2018م والتي قضت بزيادة مدة الرئاسة من خمس إلى سبع سنوات، إلى جانب توسيع صلاحيات الرئيس وتقييد مدة الرئاسة بفترتين متتاليتين، مما كان سيتيح لنكورونزيزا الترشح لولايتين جديدتين، مدة كل منهما سبع سنوات، لكنه فضَّل بدلًا من ذلك عدم الترشح، مؤكدًا أنَّ تلك التعديلات الدستوريَّة لم تكن لصالحه، كما روَّج خصومه، ليُعلن الحزب الحاكم أنَّ الجنرال إيفاريست نداييشيميي Evariste Ndayishimiye سيكون مرشحًا للحزب في الانتخابات الرئاسيَّة القادمة.

جرت الانتخابات الرئاسيَّة الأخيرة في يونيو 2020م تزامنًا مع الانتخابات البرلمانيَّة، وانتهت بانتزاع نداييشيميي أغلبية الأصوات ليتوج رئيسًا لبوروندي خلفًا للرئيس المنتهية ولايته نكورونزيزا، لكن هذه الانتخابات -التي سبقتها أعمال عنف واعتقالات واسعة بحق نشطاء ومعارضين وفقًا لمنظمات حقوقيَّة محليَّة-، وُصفت مِن قِبَل المعارضة بـ”المزورة”، وبافتقارها إلى النزاهة.

ومع اتجاه نداييشيميي إلى تعيين المتشددين العسكريين في حكومته ممن يتبنون أفكارًا قوميَّة وعرقيَّة متطرفة، تصاعدت وتيرة القلق، محليًّا ودوليًّا، من أنْ يمثل ذلك مؤشرًا لتراجع السلام والديمقراطيَّة في البلاد، وتعزَّز هذا القلق في سبتمبر 2023م، عندما دعا الأمين العام للمجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة” أنصار حزبه علنًا إلى القضاء على «الذئاب»، وهو ما فُسِّر على أنه دعوة مباشرة إلى العنف ضد أتباع حزب المؤتمر الوطني من أجل الحرية (CNL) المُعارض([4]).

جدول-1: نتائج الانتخابات الرئاسيَّة البورونديَّة لعام 2020م

الجدول من إعداد بالباحث اعتمادًا على البيانات الواردة في:

Voa News, Ruling Party Candidate Wins Burundi Presidential Election, May 25, 2020, at: https://2u.pw/UtvJK

وفيما يقترب موعد الانتخابات البرلمانيَّة المقررة لهذا العام، 2025م؛ يواصل المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة” سياسة التضييق بحق المعارضة؛ في محاولة منه للقضاء على أيّ شكل للمنافسة السياسيَّة أو الحزبيَّة قبيل إجراء الانتخابات؛ حيث استبعدت اللجنة الانتخابيَّة في ديسمبر 2024م جميع مرشحي المجلس الوطني للحرية (CNL)، وهو حزب المُعارضة الرئيسي في البلاد، كما قرَّرت اللجنة أيضًا منع ائتلاف «بوروندي للجميع» من خوض الانتخابات التشريعيَّة في يونيو 2025م بحجة أنَّ ثلاثةً من مرشحيه الأربعة هم نواب حاليون في المجلس الوطني للحرية، مما يُخالف القوانين الانتخابيَّة التي تحظر على المرشحين تمثيل حزب مُعلق([5]). وقد فُسِّر هذا القرار بكونه محاولة لإقصاء أهم شخصيات المُعارضة، وفي مقدمتهم أغاثون رواسا، الزعيم الأسبق للمجلس الوطني للحرية والمنافس الرئيسي للرئيس نداييشيميي في الانتخابات الرئاسيَّة الأخيرة.

مما تقدم، يُمكن القول: إنه مع تراجع مُحفّزات الصراع العرقي في بوروندي مُنذ إعلان أروشا للمُصالحة السياسيَّة، فإنَّ الانقسام الرئيسي يبرز اليوم بين الأحزاب السياسيَّة وداخلها بدلاً من الجماعات العرقيَّة([6])؛ حيث إنَّ هيمنة المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة” على المشهد السياسي ومحاولاته الرامية إلى تعزيز قبضته الحديدية على مقاليد السُّلطة في بوروندي تُهدّد فعليًّا بتقلص مساحة الديمقراطيَّة إلى حد كبير، وتُمهّد لإرساء نظام استبدادي بما يُؤشِّر للعودة تدريجيًّا، بحكم الأمر الواقع، إلى نظام الحزب الواحد.

الواقع الاقتصادي: فرص طموحة وانتعاش طفيف

لا تزال بوروندي، بعد 20 عامًا على انتهاء الحرب الأهليَّة، تُصنّف باعتبارها بلدًا صناعيًّا متخلفًا، فالزراعة فيها تُمثِّل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي، ويشتغل بها قرابة الـ80% من سُكانها، وتعتمد على نصف عائداتها من النقد الأجنبي على صادراتها الرئيسيَّة من القهوة والشاي والذهب، وتُمثل المُساعدات الخارجيَّة المُقدَّمة من الجهات المانحة الثنائية ومتعددة الأطراف نحو 48% من الدخل القومي لبوروندي، وهي من أعلى النِّسب في دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى([7]).

ساهم وصول المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة” إلى السُّلطة عام 2005م في طرح عدة مبادرات لإنعاش اقتصاد البلاد الذي دمّرته الحرب الأهليَّة، كما حفّز الهدوء والاستقرار النِّسبيان خلال السنوات الأولى بعد الحرب الجهات المانحة على دعم الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي في بوروندي، مما ساعد على تطبيق عدة برامج استهدفت تحسين رفاهية المواطنين، بما في ذلك التسجيل المجاني في المدارس، ومجانية الرعاية الصحيَّة، وخلق فرص العمل من خلال برامج كثيفة العمالة، وعودة اللاجئين وإعادة إدماجهم، وإصلاح البنية التحتية في مختلف القطاعات، وقد ساهمت هذه المكاسب الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في تحسين صورة المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة” بوصفها جهةً فاعلة في بناء السلام([8]).

وتشير توقعات مجموعة بنك التنمية الإفريقي إلى أنَّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في بوروندي قد ينمو بنسبة 5.9% في عام 2025م، مدعومًا بالاستثمار في قطاع التعدين والاستثمار العام، كما يُتوقَّع انخفاض ​​التضخم إلى 12.6% في ظل تحسُّن الإمدادات الغذائيَّة المحليَّة، إلا أنَّ المخاطر الناجمة عن التغيرات المُناخيَّة وإمكانية تدهور الأوضاع السياسيَّة في البلاد كلها عوامل قد تُضعف هذه التوقعات؛ لذا يتعين على حكومة بوروندي مواصلة الإصلاحات الاقتصاديَّة والماليَّة التي يدعمها البنك الإفريقي للتنمية وغيره من الشركاء الدوليين وتعزيز القدرة على التكيف مع التغيرات المناخيَّة في مشاريع التنمية المحليَّة([9]).

وضمن جهودها لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي وتعزيز فرص التنمية المحليَّة، تبنت حكومة بوروندي خطةً طموحة لضمان سياسة اقتصاديَّة واجتماعيَّة متوسطة وطويلة المدى، أطلق عليها «رؤية بوروندي… دولة ناشئة بحلول عام 2040م، ودولة متقدمة بحلول عام 2060م»؛ وتتمثل أبرز أهدافها في تحقيق اقتصاد تنافسي مدفوع بقطاعات الأعمال الزراعيَّة والصناعيَّة ذات القيمة المُضافة العالية، إلى جانب التعدين([10]).

علاوةً على ذلك، تهدف الرؤية إلى جعل بوروندي دولة مزدهرة من خلال زيادة إنتاج السلع والخدمات، والقيام بتغييرات هيكلية تؤدي إلى زيادة متوسط ​​العمر المتوقع، وتلبية الاحتياجات الأساسيَّة، والحدّ من أوجه عدم المساواة والبطالة والفقر بجميع أبعاده، إضافةً إلى اتباع نهج يضمن جودة حياة أفضل من خلال حماية البيئة ومراعاة المساواة بين الجنسين والإنصاف للجميع([11]).

شكل-1: الركائز الخمس لرؤية بوروندي المستقبلية

الشكل من إعداد وتصميم الباحث

المُجتمع المدني وحقوق الإنسان: الخطاب في مواجهة الواقع

يعود تاريخ ظهور المُجتمع المدني في بوروندي إلى أواخر عام 1980م؛ عندما أنشأ أساتذة جامعيون جمعيتين لحقوق الإنسان، هما رابطة إيتيكا Iteka ورابطة سونيراSonera ، وعندما اعتمدت البلاد دستورًا جديدًا لها عام 1992م تم الاعتراف بالحقوق والحريات المدنيَّة والسياسيَّة، بما في ذلك حرية تكوين الجمعيات والمنظمات المدنيَّة، ومع اندلاع الحرب الأهليَّة في العام التالي تطوَّر دور المُجتمع المدني بصورة ملحوظة؛ حيث شارك في مُحادثات السلام بين الحكومة آنذاك والجماعات المتمردة، كما سعت بعض منظمات المجتمع المدني إلى مقاضاة مرتكبي الإبادة الجماعيَّة، وأطلقت نداءات تحثّ الحكومة البورونديَّة على اتخاذ تدابير فعَّالة لمنع تكرار أعمال العنف وتعويض الضحايا([12]).

هذا الزخم الذي اكتسبته منظمات المُجتمع المدني خلال مرحلة الحرب الأهليَّة، والذي منحها دورًا كبيرًا في الحياة السياسيَّة البورونديَّة ما لبث أنْ تراجع كثيرًا، فقد شهدت السنوات التالية لنهاية الحرب تضييقًا كبيرًا مِن قِبَل السُلطات لدور التنظيمات المدنيَّة والمؤسسات الإعلاميَّة التي اصطدمت برامجها في مجالات السياسة وحقوق الإنسان بالنظام الحاكم بقيادة نكورونزيزا الذي تطلع إلى بسط سيطرته على كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك المؤسسات والمنظمات غير الحكوميَّة التي بدا أنها غير راضية تمامًا عن ممارسات السُّلطة، سواء فيما يتعلق بأدائها سياسيًّا واقتصاديًّا، أو مواقفها من المعارضة السياسيَّة.

ازدادت أوضاع المُجتمع المدني في بوروندي سُوءًا، وبلغت حدًّا كبيرًا من التضييق الممنهج في أعقاب الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد عام 2015م ردًّا على إعلان الرئيس الأسبق بيير نكورونزيزا الترشح لولاية ثالثة؛ حيث لجأت السُّلطات إلى إخماد هذه الاحتجاجات من خلال العنف والقمع المفرطين، وإغلاق مقارّ معظم المنظمات غير الحكوميَّة والمؤسسات الإعلاميَّة؛ مما أدَّى إلى فرار آلاف المعارضين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان خارج البلاد.

واستمرارًا لسياسة قمع المُجتمع المدني وتقييده، فقد صدر في عام 2017م قانون بشأن المنظمات غير الحكوميَّة الأجنبيَّة، والذي اعتُبر مُعارضًا لالتزامات الدولة في مجال حقوق الإنسان، وقد كان لهذا القانون آثاره الواضحة في تحجيم عمل منظمات المُجتمع المدني في بوروندي، وكذلك تقييد دور الناشطين في مكافحة الفساد والدفاع عن حقوق الإنسان عبر تطبيق العديد من الإجراءات التي كان الهدف منها عرقلة استقلاليتهم وترهيبهم والانتقام من الجهات الفاعلة في المُجتمع المدني، في حين يواصل أعضاء المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة- قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة، وجهاز المخابرات الوطني انتهاكاتهم لحقوق الإنسان في إطار سعيهم لحجب أيّ معلومات تعتبرها السُّلطات حساسة أو معادية لها([13]).

شكَّلت نهاية حقبة نكورونزيزا بعد خمسة عشر عامًا قضاها على رأس السُّلطة دافعًا جديدًا لدى البورونديين والمُجتمع المدني لبدء مرحلة جديدة أقل عنفًا وأكثر نزوعًا إلى الالتزام بمقررات اتفاقية أروشا وبروتوكولها الثاني الذي حضّ على تطوير المُجتمع المدني وتعزيزه  وتقديم الدعم لوسائل الإعلام المُستقلة، لكن ذلك لم يحدث حتى اليوم بالرغم من مُضي خمس سنوات على انتخاب إيفاريست ندايشيميي رئيسًا جديدًا للبلاد، فلا تزال أعمال الترهيب والمضايقة والاعتقالات والملاحقات القضائيَّة بحقّ المُعارضة والنشطاء السياسيين مستمرةً، ولا يبدو أنَّ السُّلطات البورونديَّة عازمة على التراجع أو تغيير نهجها العدواني رغم خطابها السياسي الذي يُناقض أفعالها على أرض الواقع.  

علاقات بوروندي الإقليميَّة: تفاهمات محسوبة في إقليم مضطرب

سيُحاول هذا القسم الأخير من المقال مناقشة العلاقات الخارجيَّة لبوروندي مع دول الجوار المباشر وهي: رواندا، تنزانيا، والكونغو الديمقراطيَّة، للوقوف على جوانب التعاون والصراع الناجمة عن التفاعلات المعقدة والموروثات التاريخيَّة والتداخلات العرقية بين هذه البلدان. ومِن ثَمَّ يُمكن القول: إنَّ هناك ثلاثة محددات أو عوامل تحكم علاقات بوروندي بدول الإقليم، وهي: الموقع الجغرافي الحبيس، والتداخل الإثني والعرقي، إضافة إلى الحدود المُشتركة وقضية اللاجئين البورونديين. ونتناول فيما يلي هذه العوامل بشيء من الإيجاز.

شكل-2: خريطة توضح موقع دولة بوروندي ودول الجوار في شرق إفريقيا

Source: Burundi Map, at: https://2u.pw/TdPNy

1- الموقع الحبيس كمُحدّد للعلاقات بين بوروندي وتنزانيا

كما ذكرنا في مقدمة هذا المقال، فإنَّ بوروندي تُعدّ من بين الدول الإفريقيَّة الحبيسة أو الداخليَّة التي لا تُطل حدودها على أيّ مسطحات مائيَّة. وهذه الظاهرة الجيوبوليتيكية تفرض على الدولة عددًا من التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة؛ إذ تكون مضطرة إلى الاعتماد على الموانئ الأجنبيَّة في تصدير أو استيراد البضائع، ومن ناحية أخرى يتعين عليها تطوير علاقات إيجابية مع دول العبور واتباع سياسات خارجيَّة متناغمة معها كي يتسنَّى لها استخدام موانئها البحريَّة([14]).

تأسيسًا على ذلك، انخرطت بوروندي مع جارتها الشرقيَّة -تنزانيا- المُطلة على المُحيط الهندي في مبادرات تعاونيَّة متنوعة بهدف تعزيز التجارة والبنية التحتيَّة، مثل تطوير شبكات النقل التي تربط بوروندي بميناء دار السلام في تنزانيا، من أجل تسهيل وصول بوروندي إلى الأسواق الدوليَّة، لكنّ هذه العلاقة لا تخلو من التوترات الناجمة عن النزاعات الحدوديَّة وإدارة الموارد الطبيعيَّة، كالنزاع حول حقوق الصيد في المُسطحات المائيَّة المُشتركة والذي أدَّى إلى مواجهات بين الصيادين المحليين والسُلطات من كلا الجانبين([15]).

2- الحدود المشتركة وقضية اللاجئين البورونديين في دول الجوار

تثير مسألة الحدود بين بوروندي وجيرانها عددًا من التوترات السياسيَّة بين الحين والآخر. فالحدود المشتركة بين بوروندي والكونغو الديمقراطيَّة، والتي تصل إلى 236 كيلو مترًا تقريبًا تشهد اختراقات متواصلة وأنشطة غير مشروعة مِن قِبَل تجار المعادن والأسلحة والمخدرات والسلع المهربة، كالوقود والأقمشة والماشية، كما تنشط على الحدود الكونغوليَّة جماعات مُسلحة، بما في ذلك المتمردون البورونديون الذين يشنُّون غارات متقطعة على بوروندي، الأمر الذي يدفع جيش هذه الأخيرة إلى الرد بغارات محدودة([16]). وقد اتهمت حكومة بوروندي نظيرتها الكونغوليَّة بالفشل في مراقبة الحدود والسيطرة عليها، مما أدى إلى توترات دبلوماسيَّة بين الجانبين.

كما تتهم بوروندي جارتها الشماليَّة، رواندا، بدعم جماعات متمردة مُعادية لها، وتحديدًا جماعة «ريد تابارا»، ومقرها جنوب كيفو- شرق الكونغو، وتقديم التدريب والتمويل اللازمين لأفرادها والسماح لهم باستخدام حدودها لشن هجمات على أراضيها، فيما تنفي رواندا دعمها لهذه الجماعات، وكان من نتائج ذلك إغلاق الحدود بين الدولتين لفترة طويلة بين عامي 2015- 2022م، قبل أن تعاود السُّلطات البورونديَّة إغلاقها مجددًا في يناير 2024م.

بدَورها تُشكّل قضية اللاجئين عاملًا مؤثرًا في علاقات بوروندي بدول الإقليم، فقد تسببت الاضطرابات السياسيَّة وحالات انعدام الأمن التي شهدتها بوروندي، وكذلك حملات الاعتقال والمُلاحقات القضائيَّة بحق المُعارضة في عهد الرئيس الأسبق نكورونزيزا إلى نزوح جماعي لعشرات الآلاف من السُكان المدنيين إلى دول الجوار؛ حيث تُمثل هذه القضية موضعًا للخلاف والتجاذبات السياسيَّة بين الحكومة البورونديَّة وحكومات تلك البلدان المُضيفة.

وتُقدّر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أعداد اللاجئين البورونديين في دول الإقليم بنحو 327,900 لاجئ، يتركز معظمهم في خمس دول، وهي: تنزانيا، رواندا، أوغندا، جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، وكينيا؛ حيث تستضيف تنزانيا أكبر عدد من اللاجئين بإجمالي 104 آلاف لاجئ، تليها الكونغو الديمقراطيَّة وروندا بعددٍ متقارب يصل إلى 51، و49 ألفًا على التوالي([17]). (انظر الشكل أدناه).

شكل-3: مخطط بياني يوضح توزيع أعداد اللاجئين البورونديين في دول الجوار

الشكل من إعداد الباحث اعتمادًا على البيانات الواردة في:

Burundi Situation, Operational Data Portal, 31 March, 2025, available at: https://2u.pw/QCICZ

3. التداخل الإثني والعرقي كمُحدد للعلاقات البورونديَّة الروانديَّة

تتسم العلاقات بين بوروندي ورواندا بالتعقيد؛ إذ يُمثل الهوتو والتوتسي المجموعتين العرقيتين في كلا البلدين، كما يتشابه البلدان في نسب التركيبة السُكانيَّة للمجموعتين؛ حيث يُشكل الهوتو الأغلبية، بينما يشكل التوتسي الأقلية، فضلًا عن ذلك، يضم البلدان نِسَبًا ضئيلة لا تُذْكَر من عرقية التوا والآسيويين والأوروبيين([18]).

وقد شكَّل هذا التداخل الإثني دافعًا لاستمرار التوتر وانعدام الثقة بين قادة البلدين؛ فالمتطرفون الهوتو في المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة يعتقدون أنَّ رواندا تخضع لسيطرة التوتسي العنصريين، وأنها لن تهدأ حتى يسود نظام التوتسي في بوروندي، وبدورهم ينظر المتطرفون في الجبهة الوطنيَّة الروانديَّة الحاكمة إلى الهوتو الحاكمين في بوروندي بوصفهم أفرادًا يتشاركون نفس أيديولوجية الهوتو الروانديين الذين ارتكبوا الإبادة الجماعيَّة بحق التوتسي عام 1994م([19]).

ولا شك أنَّ هذا التصور المُتبادل قد ألقى بظلاله على علاقات البلدين خلال السنوات الأخيرة، فرغم المُحاولات التي تُبذل بين الحين والآخر لتعزيز العلاقات الاقتصاديَّة، بما في ذلك توقيع اتفاقيات تجاريَّة بهدف تعزيز التجارة عبر الحدود، فإنَّ ذلك لا يبدو كافيًا لتجسير هوة الخلافات القائمة والمتجذرة؛ حيث تتَّهم بوروندي جارتها بإيواء ودعم المتمردين البورونديين والتدخل في شئونها، فيما أعربت رواندا عن قلقها إزاء معاملة التوتسي في بوروندي([20])، ووجهت أصابع الاتهام للحكومة البورونديَّة باستضافة بعض عناصر القوات الديمقراطيَّة لتحرير رواندا (FDLR) والسماح لهم بالتنقل بحرية بين بوروندي والكونغو الديمقراطيَّة([21]). وقد شهدت الأشهر الأخيرة توترًا كبيرًا بين البلدين، بسبب دعم بوروندي للقوات الكونغوليَّة المسلحة في حربها ضد متمردي حركة إم 23 الذين تدعمهم كيغالي. 

خاتمة:

لا تزال بوروندي، بعد انقضاء عشرين عامًا على حربها الأهليَّة، تُواجه عددًا من التحديات الخطيرة والمُعقدة، داخليًّا وخارجيًّا. فاستمرار المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطيَّة “قوات الدفاع عن الديمقراطيَّة” في استهداف المُعارضة، من خلال عمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختطاف القسري والمُلاحقة القضائيَّة، سيقوِّض فرص الديمقراطيَّة التوافقية، ويدفع باتجاه انفجار العنف والفوضى؛ وهو ما يستدعي ضرورة تطوير آليات جديدة لتفعيل المُصالحة الوطنيَّة بين الحكومة والنخب السياسيَّة المختلفة.

 ومن ناحية أخرى، لا تزال بوروندي تُعاني وضعًا اقتصاديًّا متخلفًا، فهي من أكثر دول القارة فقرًا، كما يشهد هذا البلد تراجعًا واضحًا فيما يتعلق بأداء منظمات المُجتمع المدني نتيجة التضييق المُتعمَّد الذي تمارسه الحكومة بشأنها، والأهم من ذلك لا يزال يتعين على الحكومة البورونديَّة تقديم التسهيلات اللازمة لضمان العودة الطوعية للاجئين الذين اضطروا إلى الفرار بحثًا عن الأمن في أعقاب الاحتجاجات والاشتباكات الدامية التي شهدتها البلاد مُنذ عام 2015م، في وقتٍ يخشى فيه عشرات الآلاف من هؤلاء اللاجئين العودة إلى بلدٍ لا تزال انتهاكات حقوق الإنسان متوطنة فيه.

………………………………….

([1]) محمد عتريس، مُعجم بلدان العالم وفق آخر التطورات السياسيَّة مع خرائط وأحدث البيانات الإحصائيَّة، الطبعة السادسة (القاهرة، مكتبة الآداب، 2016م)، ص293.

([2]) World Bank Group, A report published on 1 April, 2025, available at: https://2u.pw/3cLV7

([3]) Burundi crisis: The legacy of 2015 brings fear for 2020, Amnesty international, 2 May 2019, available at: https://2u.pw/ahlJI

([4]) Fabrice Nshimirimana, Exclusionary Governance in Burundi: Implications for Democracy and Consolidating Peace, Accord, December 20, 2024, available at: https://2u.pw/Ue4nd

([5]) Burundi, The Global State of Democracy Initiative, available at: https://2u.pw/gjsSo

([6]) Fabrice Nshimirimana, Op. cit.

([7]) Burundi – Economic Indicators, Moody’s Analytics, available at: https://2u.pw/VJk7

([8]) Gervais Rufyikiri,  Resilience in Post-civil War, Authoritarian Burundi: What Has Worked and What Has Not?, Geneva Centre for Security Policy, March 2021, P. 20.

([9]) Burundi Economic Outlook, African Development Bank Group, available at: https://2u.pw/lkgDE

([10])  Oral Ofori, Burundi adopts new “Vision 2040–2060” development model, The  African dream, December 10, 2024, , available at: https://2u.pw/Fdxr9

([11])Burundi’s Vision: An Emerging Country by 2040 and a Developed Country by 2060, Republic of Burundi: Office of the President, July 2023, P.7

([12]) Vital Nshimirimana, The relationship between civil society and public institutions in Burundi, Ideas for peace, June 29, 2012, available at: https://2u.pw/qiJPV

([13]) Burundi: As the elections approach, civic space remains dire for CSOs and journalists, civicus, 4 July 2024, available at: https://2u.pw/Hrb8n

([14]) هشام قدري أحمد، واقع الدول الإفريقيَّة الحبيسة: بين التحديات الاستراتيجيَّة وأحكام القانون الدولي، قراءات إفريقيَّة، 30 يناير 2025م، متاح على  https://2u.pw/7XYPv

([15]) Burundi and Its Neighbors: A Study of African Diplomatic Relations, A World of History, available at: https://2u.pw/HkKIa

([16]) Cross border dynamics: Burundi-DRC, Reliefweb, August 6, 2019, available at: https://2u.pw/wi9q2

([17]) Burundi Situation, Operational Data Portal, 31 March, 2025, available at: https://2u.pw/QCICZ

([18]) Stephen B. Isabirye and Kooros M. Mah moud, Rwanda, Burundi, and Their ” Ethnic” Conflicts, Ethnic Studies Review, Volume 23, P. 63. available at: https://2u.pw/motbF

([19]) Antoine Prosper Estime, and Paul-Simon Handy, Burundi and Rwanda on a reconciliation path, 11 January 2022, Institute for Security Studies, available at:  https://2u.pw/V0icb

([20]) Burundi and Its Neighbors: A Study of African Diplomatic Relations, Op. cit.

([21])  Jill Craig, Relations Between Burundi, Rwanda Deteriorating, voanews, October 14, 2015, available at: https://2u.pw/5t44r