يطرح الانقلاب العسكري الثاني الذي وقع مساء 24 مايو 2021م في مالي عندما قام الجيش باعتقال الرئيس باه نداو، ورئيس الوزراء مختار أواني ووزير الدفاع سليمان دوكوري العديد من التساؤلات حول طبيعة العلاقات العسكريَّة المدنيَّة في إفريقيا.
إنَّه يتعلّق بمفهوم الحكم “الدياركي”، وهو ترتيبٌ سياسيّ يصف وجود حكومة ثنائية الطابع يسيطر عليها بشكل مشترك المكونان العسكريّ والمدنيّ، وإن كانت الأولويَّة بالطبع تُعْطَى للعسكريين.
أعلن الجنرال عاصمي غوتا، رئيس المجلس العسكري الذي قاد انقلاب مالي عام 2020م، أنه تمَّ عزل الرئيس ورئيس الوزراء من منصبيهما، وأن انتخابات جديدة ستُجْرَى في عام 2022م.
هكذا بكل بساطةٍ!!، وكأن هذا الجنرال الذي كان يحتفظ بمنصب نائب رئيس الدولة قد خوَّل نفسه بأن يكون الرقيب الأعلى في البلاد.
لقد تراءى للرئيس نداو أنه يملك السلطة بشكلٍ فِعْلِيّ، ويحظى بدعمٍ إقليميّ ودوليّ؛ فقام بإجراء تغيير حكوميّ خرج على إثره اثنان من قادة انقلاب العام الماضي، وذلك دون موافقة الجنرال عاصمي غوتا.
مالي وعودة الروح لمفهوم “دياركية” الحكم:
جاءت فكرة الدياركية، وهي كلمة يونانية تعني الطابع الثنائي، كترتيب سياسي مِن اقتراح تقدَّم به ننامدي أزيكيوي، أول رئيس لنيجيريا المستقلة وأحد القوميين البارزين في البلاد، كحل للصراعات على السلطة التي عصفت بنيجيريا منذ الانقلاب العسكري الأول في يناير 1966م.
كان الجيش قد رفض الفكرة في الستينيات، ولكنه عاد ليطرحها في عام 1999م، ولكن في ثياب ديمقراطية هذه المرة.
ولعلّ المدقّق في مضمون دستور نيجيريا الحالي، الذي وافق عليه الجيش في 29 مايو 1999م يجد أنه يؤسِّس لحكم الدياركية ولو من طرفٍ خفيّ.
لقد كان الدستور النيجيري الحالي إيذانًا ببدء ترتيب سياسي جديد، يشكّل حلاً وسطًا بين رؤى ” النظام البريتوري” أي العسكري الخالص ورؤى المعارضة المدنية الديمقراطية.
إنه نموذج توافقيّ يطرح حلاً لمعضلة العلاقات المدنية العسكرية من أجل الخروج من تحت عباءة النماذج المعرفية الغربية المسيطرة والتي تشترط مفهوم حيادية ومهنية المؤسسة العسكرية.
إنَّ هذا النظام الثنائي يعني طلاقًا بائنًا مع مفاهيم عدم تسييس الجيش أو مقولة “إذا دخل الجيش من الباب خرجت السياسة من الشباك”.
ومع ذلك، فإن الصياغات الدستورية التي تُفضّل الترتيبات “المركزية” على المستوى الوطني، وأن يكون الجيش في المركز هي ما يميز هذا البديل الثنائي للحكم.
فالسيطرة المركزية هي السمة الحقيقية للنظام الثنائي، بغضّ النظر عن صعوبة التظاهر بالحكم من خلال شراكة متساوية بين المدنيين والعسكريين.
دروس إفريقية:
أذكر أنه، خلال الجولة الثانية من الانتخابات العامة في نيجيريا عام 2006م، ألقى أحمدو علي، وهو ضابط سابق ورئيس لجنة العمل الوطنية للحزب الحاكم، خطابًا جماهيريًّا جاء فيه: “إنَّ على الشعب أن يفهم أنه يعيش في ظل دولة الحامية العسكرية، وأن عليه أن يتعلم إذًا الرضوخ لإرادة قائد الحامية”.
وفي مناسبة أخرى في أغسطس 2018م، قامت مجموعة من الجنود بقيادة لاوال موسى دورا، المدير العام لأمن الدولة، بفرض حصار على مدخل البرلمان في محاولة لمنع نواب المعارضة من الدخول.. تصرُّف السيد دورا كان بمبادرة شخصية منه، بينما كان الرئيس محمد بخاري -وهو جنرال سابق- خارج البلاد لفترة وجيزة.
يُظهر الحصار المفروض على البرلمان –على الرغم من أنه انتهاك واضح للدستور- مرة أخرى كيف يمكن أن يمثل النظام الثنائي “الدياركي” عائقًا أمام تعزيز عملية الانتقال الديمقراطي للسلطة في إفريقيا. ليس من المستغرب إذن أن الدستور النيجيري الحالي الذي تمَّ إقراره قبل عقدين من الزمان كان بمثابة رَفْض كامل للبنية الفيدرالية الأقل مركزية، والتي كانت المبدأ الدافع، الذي تمَّ الاتفاق عليه بعد مفاوضات صعبة، ومؤتمرات دستورية سابقة في كلٍّ من نيجيريا وبريطانيا.
في عام 2014م صدر كتاب مهمّ بعنوان دولة الحامية العسكرية الإفريقية: حقوق الإنسان والتنمية السياسية في إريتريا.
قدّم هذا الكتاب تحليلاً مهمًّا للسياسات التي جعلت إريتريا مثالًا جديدًا لمأساة الدولة الإفريقية. يتحدّث الكتاب عن التداعيات السياسية والقانونية لـ”دولة الحامية العسكرية”: إننا أمام مجتمع عسكري بالكامل، وسيادة نمط “الخروج عن القانون”.
لقد أفضت أدوات سياسة ما بعد التحرير الرئيسية، بالإضافة إلى التناقضات في الفكر السياسي للنخبة الحاكمة، إلى أن تدفع بإريتريا بعيدًا عن كلٍّ مِن قِيَم الديمقراطية ومسار التنمية والاعتماد على الذات.
بالقطع مفهوم الدياركية يُشكّل حلاً وسطًا بين دولة الحامية العسكرية من جهة وطوباوية السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية من جهة أخرى.
كان الترتيب الذي حدَث في السودان في أعقاب الإطاحة بالبشير عام 2019م إعادة لمفهوم دياركية الحكم مرة أخرى. تم تشكيل المجلس العسكري-المدني (مجلس السيادة) إلى جانب مجلس وزراء تكنوقراط لقيادة السودان خلال فترة انتقالية.
على أن استقالة أحد أعضاء مجلس السيادة السيدة عائشة موسى تؤكّد على ما ذكرناه، ويشكّل معضلة النظام الثنائي، وهو تهميش المكوّن المدنيّ فيه.
وجاء في حيثيات استقالة عضو مجلس السيادة السوداني ما نصه “أصبح المكوّن المدنيّ في السيادي وفي كل مستويات الحكم مجرد جهاز تنفيذي لوجستيّ لا يشارك في صُنْع القرار، بل يختم بالقبول فقط لقرارات مُعَدَّة مسبقًا”.
ماذا حدث في مالي؟
في الوقت الذي بدأت فيه مالي تلتقط أنفاسها بعد الانقلاب الذي قاده الجيش ضد الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا، غرقت البلاد مرة أخرى في نفس السيناريو بعد إلقاء القبض على أركان الحكومة من المدنيين.
وبحسب عاصمي غوتا نائب رئيس الدولة، فإن الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار أواني كانا سيشكلان فريقًا حكوميًّا جديدًا دون استشارته، الأمر الذي يشهد “على نية مؤكدة لتخريب عملية الانتقال لتسليم السلطة للمدنيين”، حسب تقديره.
وهكذا كان “مُلْزَمًا بالتصرُّف”، ووقف هذه العملية المُخالِفَة لنصوص الوثيقة الدستورية. كما هو مُتَعارَف عليه في مثل هذه الأحداث؛ دعت بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما) ومجموعة دول غرب إفريقيا (الإيكواس) والاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة إلى الإفراج الفوري عن المدنيين المعتقلين.
ومن جهتها؛ دعت فرنسا، إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي بعد هذا “الانقلاب”، بحسب ما أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان. كما أدانت عدة دول عملية الاستيلاء بالقوة على السلطة في مالي مِن قِبَل الجيش. لذلك، تعود البلاد إلى نفس حالة عدم الاستقرار السياسيّ ومناخ عدم الثقة الذي استقر في وجدان المجتمع، ولا نرى أيّ تقدُّم في المستقبل المنظور.
خاتمة:
لقد بات واضحًا من خلال الخبرة السياسية في إفريقيا في مرحلة ما بعد الاستقلال؛ أن الجيش لن يترك المسرح السياسي أبدًا. ربما لم تَعُد الانقلابات العسكرية بوجهها القديم عصريةً في كثيرٍ من دول إفريقيا، لكنَّ هذا لا يعني أن الجيش يرفع يديه عن ديناميات السيطرة والتحكُّم في البلاد.
في العقدين الماضيين؛ تعلَّم كثيرٌ من أفراد النُّخْبَة الحاكمة في إفريقيا، ليس فقط ضمان الموافقة على تفضيلاتهم السياسية، ولكن أيضًا تعيين الموالين لهم في مناصب رئيسية قبل الانسحاب رسميًّا من المشهد.
ولعلَّ ذلك يفسِّر لنا عودة الانقلابيين في مالي بعد محاولة التخلُّص من اثنين من رجالهم الأقوياء في الحكومة. يمكن أن نجد هؤلاء الأشخاص المُفضّلين للجيش في المناصب التنفيذية والتشريعية والأجهزة الأمنية، وكذلك في مختلف اللجان والمجالس شِبْه الحكومية والوكالات الاقتصادية المُهمَّة.
وعلى الرغم من ذلك؛ تُحافظ المؤسَّسة العسكرية على بناء أبراج مُراقَبة في قلب الحكومة، تسمح للجيش بالتدخل في الوقت المناسب؛ باعتباره حامي الأُمَّة. وقد يجد هذا التدخل تأييدًا شعبيًّا جارفًا، الأمر الذي يجعل “دياركية” الحكم في إفريقيا ذات أبعاد شعبويَّة غير خافية.