على الرغم من رَفْع شعارات تفيد بعودة أمريكا للساحة الدولية؛ فإنَّ النظرة الواقعية تشير إلى أنه لا يمكن توقُّع حدوث تحوُّل جوهريّ في سياسة الولايات المتحدة تِجاه إفريقيا في عهد الرئيس جو بايدن.
لقد بدأت قبضة الهيمنة الأمريكية في النظام العالمي أحادي القطبية تتراجع بفعل ظهور قوى أخرى صاعدة مثل الصين وروسيا.
وعليه إذا أخذنا في الاعتبار تركيز إدارة بايدن على المنافسة الجيواستراتيجية مع الصين وروسيا؛ فإن توقعاتنا ينبغي أن تظل واقعية بشأن ما يمكن أن يحدث في المجال الإفريقي.
ويمكن أن نحدّد أربع قضايا رئيسية لقياس مدى نجاح الإدارة الجديدة في الوفاء بهذه التوقعات:
أولاً: تُشكِّل القضايا الأمنيَّة، وخاصةً محاربة الجماعات الإرهابية المتطرفة، أبرز أولويات علاقات الولايات المتحدة بإفريقيا.
ثمَّة معضلة تتطلب إعادة النظر في المقاربات الأمنية التي تركّز على عسكرة التدخل الأمريكي، وإعلاء الجوانب السياسية والتنموية لدى شركاء الولايات المتحدة في إفريقيا، ولا سيما اعتبارات الديموقراطية وحقوق الإنسان.
فهل يستطيع الرئيس بايدن أن يُوازن بين اعتبارات الأمن والترويج للديمقراطية باعتباره أولوية مركزية في المستقبل؟
ثانيًا: إذا كانت المعركة ضد تغيُّر المناخ ستصبح حقًّا سمة مميزة لإدارة بايدن؛ فلا يمكن أن يحدث هذا دون أن تكون إفريقيا في قلب هذه السياسة.
بَيْدَ أنَّ المشكلة الحقيقية هي تناقض الأقوال مع الأفعال؛ حيث تستمر الولايات المتحدة حتى اليوم في دعم العديد من المشاريع الكبرى التي تعتمد على مفاهيم غير صديقة للبيئة في إفريقيا.
ثالثًا: يُركّز التعاون الإنمائي بين الولايات المتحدة وإفريقيا على مكافحة الأمراض مثل فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز والإيبولا.
بَيْد أنَّه في ضوء جائحة كوفيد_19، يمكن أن يساعد التركيز على دَعْم وتعزيز الأنظمة الصحية وبرامج التطعيم والتغلُّب على الوباء في منافسة “دبلوماسية اللقاح” التي تُروّج لها دول أخرى مثل الصين وروسيا والهند بين الدول الإفريقية.
رابعًا: حاولت الإدارات الأمريكية السابقة رفع شعار التجارة بدلاً من المساعدات في العلاقة مع إفريقيا. فمن المفترض أن يدعم قانون النموّ والفرص في إفريقيا (أغوا) الصادرات الإفريقية إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك أكَّدت الممارسة العملية أن التأثير كان محدودًا؛ حيث تراجعت التجارة الأمريكية الإفريقية كثيرًا مقارنةً بحجم التجارة بين إفريقيا والصين.
إشكالية التغير والاستمرار:
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا عبر مراحل تطورها الطويلة العديد من التغييرات. وعادةً ما يتم تحديد العلاقة بين الطرفين في المقام الأول من خلال تاريخ كلٍّ من تجارة الرقيق والحرب الباردة.
ومع ذلك فإن بعض الباحثين المتخصصين يمكن أن يشيروا إلى عدد من الأحداث التي تُميّز إلى حدّ ما الطبيعة الفريدة للعلاقة بين الطرفين.
لقد ارتبطت إفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية في الإدراك العالمي بصورة السكان السود المنحدرين من أصول إفريقية وبالعلاقات السياسية والعسكرية خلال الحرب الباردة.
إنَّ وجود الأمريكيين من أصل إفريقي، وقوتهم المتزايدة في العملية السياسية الأمريكية، تجعل العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا قضية ذات أهمية علمية أكبر.
ومع ذلك فقد احتلت إفريقيا مكانة هامشيَّة في التفكير الاستراتيجي خلال معظم سنوات التسعينيات ربما بسبب التوجُّه صَوْب دول أوروبا الشرقية، وفشل تجربة التدخل الإنساني تحت قيادة أُمَمية في الصومال.
بَيْدَ أنَّ الهجوم الإرهابي المزدوج على سفارتي الولايات المتحدة في كلٍّ من نيروبي ودار السلام مثَّل نقطة تحوُّل فارقة باتجاه عسكرة التدخل الأمريكي في إفريقيا، وهو اتجاه تمَّ التأكيد عليه بعد أحداث سبتمبر.
على أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في إفريقيا لم تقتصر فقط على الوجود والمساعدات العسكرية. فقد تضمَّنت أبعادًا اقتصادية واستراتيجية أخرى، كما تضمنت مجموعة من السياسات الإنسانية التي أصبحت ضرورية لمساعدة البلدان الفقيرة في القارة الإفريقية.
وبينما جاء الرئيس جورج دبليو بوش بالخطة الطارئة الضخمة للإغاثة من الإيدز، كان لدى كلينتون قانون النمو والفرص في إفريقيا، أما باراك أوباما فقد كانت لديه مبادرة لمضاعفة إنتاج الكهرباء في إفريقيا ودعم جيل جديد من شباب القادة الأفارقة.
وحتى الرئيس ترامب، الذي تأخر في إدراك أهمية المنطقة، أعلن عن برنامج “إفريقيا المزدهرة” التجاري؛ وذلك لجذب الحكومات والشركات بعيدًا عن مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ومع ذلك فقد مثَّلت سنوات الرئيس ترامب انقطاعًا عن مسيرة أسلافه من الرؤساء السابقين، بدءًا من التصريحات غير الأخلاقية في بداية رئاسته إلى الاهتمام فقط بالجوانب الأمنية للعلاقة. ورغم زياراته الخارجية، فإن قدمه لم تطأ أرضًا إفريقية فقط.
الرئيس بايدن وبداية مرحلة جديدة:
على العكس من خبرة سلفه؛ تُظْهِر إدارة جو بايدن بالفعل تحولًا ملحوظًا نحو الأولويات الإفريقية. كانت البداية الجديدة في منطقة القرن الإفريقي، ولا سيما في إثيوبيا. فقد أدانت الخارجية الأمريكية بشكلٍ علنيّ انتهاكات حقوق الإنسان والمذابح في إقليم التيغراي بإثيوبيا، وهو ما يعني استعدادها لممارسة دور فاعل مرة أخرى في المنطقة، وهو تحوُّل عن مواقف اللامبالاة الأخلاقية التي ميَّزت إدارة ترامب تجاه إفريقيا.
وبالفعل قام الرئيس بايدن بإرسال أحد أقرب حلفائه، السناتور كريس كونز، إلى إثيوبيا “لنقل مخاوف الرئيس بايدن الخطيرة بشأن الأزمة الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان في منطقة تيغراي، وخطر عدم الاستقرار الأوسع في القرن الإفريقي“.
ونظرًا لأهمية القرن الإفريقي الاستراتيجية؛ فقد تم تعيين الدبلوماسي المخضرم جيفري فيلتمان مبعوثًا خاصًّا للرئيس بايدن للقرن الإفريقي.
ومن المتوقع أن يحدث فيلتمان بخبرته في كلٍّ من إفريقيا والشرق الأوسط والأمم المتحدة حراكًا ونشاطًا أمريكيًّا أكبر في المنطقة، ولا سيما في مناطق الأزمة الملتهبة مثل إثيوبيا والصومال وجنوب السودان والسد الإثيوبي.
ومن المعروف أن الرئيس ترامب قرب نهاية فترة ولايته، أمر بسحب نحو 700 جندي أمريكي من الصومال؛ حيث كانوا يقدّمون الدعم للجيش الصومالي، بما في ذلك عشرات الغارات الجوية التي استهدفت حركة الشباب المجاهدين.
البُعد الغائب:
ينبغي أن يشتمل التوجُّه الأمريكي الجديد صوب إفريقيا على مشاركة قوية مع المجتمعات الإفريقية إلى جانب الشركاء الإقليميين؛ وذلك لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي.
تبرز صراعات كثيرة في إفريقيا الحاجة إلى المشاركة المتجددة في مجال حقوق الإنسان في البلدان التي عزَّزت فيها الولايات المتحدة سابقًا علاقات تنموية وإنسانية وعسكرية قوية.
تشمل الأمثلة الانتقال الهشّ في جنوب السودان بعد ثماني سنوات من الصراع الداخلي، والأزمة في الكاميرون بسبب الاشتباكات العنيفة بين الجماعات الانفصالية والقوات الحكومية، والتمرد المسلح في شمال موزمبيق، والوضع المتدهور في أوغندا، من بين أمور أخرى.
العودة إلى التعددية:
لا شك أن الخطاب الجديد لإدارة بايدن تجاه إفريقيا يُعيد التوكيد على مفاهيم المدرسة الليبرالية في السياسة الخارجية الأمريكية، ولعل أبرزها الاعتماد على الحلفاء والعلاقات التعددية في الفضاء الدولي.
وعلى سبيل المثال: بينما تجاهلت إدارة ترامب الاتحاد الإفريقي في أكثر من مناسبة؛ حرص الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن على التواصل مع الاتحاد الإفريقي واعتباره شريكًا استراتيجيًّا.
ففي خطابه أمام القمة الإفريقية، قال بايدن: إنه يريد العمل مع المؤسَّسات الإقليمية للتغلُّب على جائحة كوفيد-19، ومكافحة تغيُّر المناخ والانخراط في الدبلوماسية مع الاتحاد الإفريقي لمعالجة النزاعات في جميع أنحاء القارة. وقد انضمت الإدارة الأمريكية في 21 يناير (وهو نفس اليوم الذي عادت فيه إلى منظمة الصحة العالمية) إلى تحالف كوفاكس COVAX، الآلية العالمية لضمان وصول لقاح كورونا إلى البلدان ذات الدخل المنخفض.
وفي ديسمبر 2020م، وافق الكونجرس الأمريكي على تمويل بقيمة 4 مليارات دولار لتحالف جافي Gavi، أحد أبرز شركاء كوفاكس للقاحات.
ومن جهة أخرى؛ فإن قرارات بايدن بالانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ ودعم كوفاكس ستؤثر أيضًا بشكلٍ إيجابيّ على الدول الإفريقية.
ومع ذلك؛ فإن سياسات العودة إلى التعددية في العلاقات الإفريقية قد تؤثر على مستقبل الصفقات الثنائية المحتملة، مثل اتفاقية التجارة الحرة التي تفاوضت بشأنها إدارة ترامب بين الولايات المتحدة وكينيا؛ حيث أصبحت غير مؤكدة اليوم، لا سيما إذا قررت إدارة بايدن التركيز بدلاً من ذلك على التعاون مع الاتحاد الإفريقي بخصوص منطقة التجارة الحرة القارية.
وختامًا:
تظل المخاوف باقية من أن اعتبارات المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا والقضايا الأخرى، مثل الملف النووي الإيراني؛ قد تجعل الدور الأمريكي القادم في إفريقيا يقتصر على الأقوال دون الأفعال، وربما تكليف الشركاء الإقليميين للقيام بالعمل بالوكالة.
وعلى سبيل المثال؛ هناك حالة من عدم اليقين تتمثَّل في دور الولايات المتحدة في التوسط في الأزمة المحتدمة بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير.
إذ على الرغم من اهتمام ترامب الشخصي بالضغط من أجل التوصل إلى اتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة بناءً على طلب القاهرة، فقد باءت المفاوضات بالفشل في تحقيق أي نتائج تُذْكَر. وهو ما دفَع بكثير من الأطراف إلى دقّ طبول الحرب في المنطقة، ولا سيما بعد تصريح الرئيس ترامب الشهير بأنَّ مصر سينتهي بها المطاف إلى “تفجير السد”.