دعاء عويضة
باحثة في الشأن الإفريقي-مصر
في الوقت الذي ينشغل فيه العالم أجمع بجائحة فيروس كورونا المُستجدّ، وتداعياته الاقتصادية والسياسية؛ تشهد دولة موزمبيق -الواقعة في جنوب شرق إفريقيا- تصاعدًا مُطرِدًا في حدَّة الصراع الذي تعانيه منذ سنوات مع جماعات مُسلحة، نشأت بالأساس من مجموعة من المتمردين على سياسات الدولة، ونجحوا في التعاون مع تنظيمات إرهابية قائمة بالفعل.
هذا الصراع الذي يهدّد ليس فقط وحدة الدولة في موزمبيق؛ وإنما أيضًا مدى سيطرتها على مواردها، وحفاظها على سيادتها. فما هو أصل الصراع؟ وكيف تطوَّر؟ وما تداعياته؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال السطور القادمة.
الوضع الاقتصادي والسياسي لموزمبيق:
مرَّت موزمبيق بمجموعة من الظروف التي شكَّلت الصراع الراهن..
على المستوى الاقتصادي؛ مؤخرًا أصدرت موزمبيق تراخيص للتنقيب البحري لشركة أناداركو الأمريكية، وسرعان ما أظهر التنقيب أنَّ مياه موزمبيق، وخاصةً حوض روفوما، تحتوي على احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي عالي الجودة.
وتختلف تقديرات حجم هذه الاحتياطات، بعضها تنبَّأ بـ100 تريليون قدم مكعبة من احتياطات الغاز الطبيعي المؤكَّدة، ما يعني أن اقتصاد الهيدروكربون المزدهر في موزمبيق سيخلق ثروةً من فرص العمل والعقود للمغتربين والعمال المحليين على حدّ سواء، فضلًا عن خَلْق مجموعة واسعة من الفُرَص عبر دورة حياة النفط والغاز أيضًا، من مشروعات الإنتاج البحرية الخارجية، وصولًا إلى مشروعات التكرير النهائية، وجميع المراحل ستوفر آلاف الوظائف المتاحة خلال العقد القادم.
وعلى المستوى السياسي؛ في الوقت الذي كانت تعاني موزمبيق من الفقر بسبب الهيمنة البرتغالية الطويلة التي سيطرت على موارد البلاد؛ تفجَّرت الحرب الأهلية الدامية بين مقاتلي الاستقلال السابقين لفريليمو (الحزب الحاكم حاليًّا)، وقوات المتمردين المعرفة باسم رينامو، بدعم جزئي من جنوب إفريقيا، التي انتهت باتفاقية سلام برعاية الأمم المتحدة عام 1992م، وضعت حدًّا للقتال الدائر بين الطرفين.
وشهد عام 2004م تنحّي الرئيس يواكيم تشيسانو بعد 18 عامًا في منصبه، وجاء خلفه أرماندو جوبوزا ليقضي فترتين فقط، ويرحل ليأتي رئيس آخر.
ورغم هذه الملامح الديمقراطية، فإن القوات المسلحة انخرطت بشكل متقطع في تمرُّد منخفض المستوى منذ عام 2012م، وساد نوعٌ من التوتر المسلَّح على مدار أربع سنوات لاحقة. وتجدَّد عام 2018م، بعد تعديل دستوري، نقل بعض الحكم إلى المحافظات، وكانت أكثر المناطق توترًا مقاطعة كابو ديلجادو الشمالية التي شهدت موجات من التطرف العنيف منذ نهاية الحرب الأهلية. كل هذا بجانب التدخُّل السافر للجهات المانحة الدولية في شؤون البلاد، فضلًا عن برامج التكيف سيئة السمعة في صندوق النقد الدولي؛ التي حاولت تطويع الاحتياطي الجديد للغاز المكتشف في موزمبيق، والتحكم في عوائده[1].
خلفيات الصراع:
تنظيم الشباب لم يكن سوى مجموعة محلية ساخطة، تتكون من شباب من المسلمين في موزمبيق، كانوا قد هاجموا مراكز أمنية للشرطة قبل ثلاثة أعوام، وقتلوا 18 شرطيًّا بالسواطير، ردًّا على انتهاكات الشرطة بحقّ قُراهم، ونمت هذه المجموعة وتحولت إلى قوة مسلحة من ألف مقاتل، بايعت تنظيم الدولة وتمكَّنت من مهاجمة واحد من أكبر مشاريع الغاز الطبيعي في إفريقيا ومحاصرة موظفين أجانب.
بدأت القصة من خلال احتجاج محلّي، يُقابَل بعنفٍ وتجاوزاتٍ من الشرطة المحلية، وفساد مالي حكومي كبير، وفشل إداري سمح بتحويل بعض المتمردين المحليين لمسلحين، فتنظيم الدولة كان نَشِيطًا في ليبيا ومالي والنيجر والكونغو، لكنَّه بدأ يتوسع في موزمبيق، في مناطق الأقلية المسلمة، التي لا تتجاوز نسبتها خمس السكان، وهنا قامت الشرطة المحلية بملاحقة العناصر المتمردة، حتى وقعت في تجاوزات، وأعمال عنف وتعذيب ضد السكان، في المناطق التي يشتبه أنها توفّر ملاذًا آمنًا لعناصر المتمردين. ما قاد للسخط الشعبي، وتوفير دعم لتوسُّع الحركة المتمردة، وتحوُّلها لاحقًا لفصيل مُبايع لتنظيم الدولة. وبدلًا من أن تسعى الحكومة لمعالجة الأمر بحلول اجتماعية وسياسية، تبيَّن أنها لجأت للحل العسكري مباشرة، واستدعت عناصر من المرتزقة تسبَّبت عملياتها بقتل وإصابة الكثير من المدنيين[2].
تطوُّر الصراع وامتداداته الإقليمية:
في عام 2017م، بدأت مجموعة تطلق على نفسها اسم “أنصار السنة”؛ شنّ هجمات على أهداف حكومية ومدنية في كابو ديلجادو، وهي مقاطعة غنية بالياقوت والنفط، ويبلغ عدد سكانها 54٪ من المسلمين؛ بينما معظم موزمبيق مسيحية
. وبحسب ما ورد تشكَّلت المجموعة في عام 2015م من قِبل أتباع رجل الدين الكيني المسلم “عبود روغو محمد” الذي استقر في موزمبيق، وكان ذلك بعد وفاته في عام 2012م، ويسميهم الموزمبيقيون حركة الشباب، لكنهم ليسوا تابعين لجماعة الشباب المسلحة في الصومال.
يشكّل الموزمبيقيون غالبية أعضائها، وكثير منهم يحمل ضغينة ضد الحكومة، لكن من المعروف أيضًا أن بعضهم ينتمون إلى تنزانيا والصومال. أصبحت الجماعة عنيفة بشكل متزايد منذ عام 2017م، حيث لم تعد تعترف بالحكومة وأنشأت معسكرات تدريب خفية للقتال ضد الجيش. ووقعت العديد من الهجمات على المباني الحكومية والمدنيين؛ حيث أصبح قَطْع الرؤوس وحرق المنازل طريقة عملهم.
منذ مارس 2020م، تصاعد العنف بشكل أكبر، وسيطر المتمردون على العديد من القرى والبلدات والمناطق، وعبر الصراع الحدود إلى تنزانيا. وأعلنت وزارة الدفاع في موزمبيق أن قواتها بدأت عملية عسكرية لاستعادة مدينة بالما الساحلية من مسلحين مرتبطين بتنظيم الدولة ، كانوا قد سيطروا عليها بعد هجمات أسفرت عن مقتل العشرات.
وقال المتحدث باسم الوزارة عمر سارنغا في مؤتمر صحفي بالعاصمة مابوتو: إن الجيش يخوض مواجهات مع المسلحين في مواقع عدة من أجل استعادة البلدة التي تقع قرب الحدود مع تنزانيا، وتضم أحد أكبر الاستثمارات الخاصة في مجال الغاز بإفريقيا بقيمة 20 مليار دولار[3].
المواقف الدولية والإقليمية من الصراع:
تعدَّدت المواقف الدولية من الصراع في موزمبيق؛ فمن ناحية؛ نصَّ اتفاق بين حكومتي موزمبيق والولايات المتحدة على قيام الجنود الأمريكيين بتدريب القوات المحلية التي تقاتل ميليشيا الشباب. وأعلنت سفارة الولايات المتحدة في موزمبيق في 15 مارس الماضي أن قوات العمليات الخاصة الأمريكية ستدعم جهود موزمبيق لمنع انتشار الإرهاب والتطرف العنيف؛ الأمر الذي اعتبره البعض محاولة من الولايات المتحدة لبسط نفوذها؛ بالرغم من كونه نزاعًا محليًّا مُعقَّدًا تُبسِّط فيه الولايات المتحدة التمرُّد بشكل كبير من خلال الإشارة إلى المتشددين على أنهم امتداد لتنظيم الدولة؛ حيث صنَّفت الحكومة الأمريكية في 10 مارس حركة الشباب في موزمبيق على أنها منظمة إرهابية أجنبية، ووصفتها بأنها تابعة لتنظيم الدولة.
ومن ناحية أخرى؛ التزمت البرتغال، القوة الاستعمارية السابقة في موزمبيق، بتدريب الجيش هناك أيضًا.
ومن ناحية ثالثة؛ وعلى الرغم من تحفُّظ الحكومة الموزمبيقية بشأن الاعتراف بوجود المُرتزقة؛ إلا أن المتعاقدين العسكريين الذين يعملون بشكلٍ خاص؛ ينشطون في المنطقة جنبًا إلى جنب مع قواتها الأمنية. ففي البداية شارك مُرتزقة روسيا من مجموعة فاغنر في المنطقة عام 2019م، وكذلك انتشر في الآونة الأخيرة بأن مجموعة دايك الاستشارية (DAG)، ومقرّها جنوب إفريقيا، قد تلقَّت دعوة من حكومة موزمبيق لمساعدتها في محاربة المتمردين، والتي أعلنت فيما بعد أنها تحقّق في المزاعم الموجهة ضدها، بعدما اتهمتها منظمة العفو الدولية بارتكاب جرائم بحق المدنيين في موزمبيق.[4]
تداعيات الصراع:
خلَّف الصراع مجموعة من التداعيات؛ سواء على المستوى الإنساني أو الاقتصادي والسياسي لموزمبيق.
فعلى المستوى الإنساني؛ لقي أكثر من 2500 شخص مصرعهم في الصراع منذ أن بدأ عام 2017م؛ حيث أصبح قطع الرؤوس أمرًا شائعًا، فشهد الهجوم الأخير في مارس مقتل عشرات الأشخاص في بلدة بالما.
وبحلول ديسمبر 2020م، نزح أكثر من 530 ألف شخص (ما يقرب من ربع سكان كابو ديلجادو) إلى مقاطعات نامبولا وزامبيزيا ونياسا المجاورة، حسبما أفادت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؛ حيث نزح معظم هؤلاء الأشخاص في الأشهر الأخيرة من عام 2020م، وارتفع هذا العدد إلى 700 ألف بحلول منتصف مارس 2021م.
وقالت الأمم المتحدة: إنها تتوقع نزوح مليون شخص من المنطقة بحلول يونيو القادم. أكثر من نصف هؤلاء النازحين من النساء، و36٪ من المرافق الصحية في كابو ديلجادو تضررت أو دمرت.
وقال برنامج الغذاء العالمي: إن العنف يدفع بمئات الآلاف من الأشخاص إلى انعدام الأمن الغذائي، حيث يوجد في كابو ديلجادو أعلى معدل لسوء التغذية المزمن في موزمبيق، ويعاني أكثر من نصف الأطفال من سوء التغذية[5].
وعلى المستويين الاقتصادي والسياسي؛ فقد أدَّى الاستيلاء الدموي في أواخر الشهر الماضي على مدينة بالما الواقعة شمال البلاد وسط آفاق النفط والغاز الطبيعي الشاسعة في موزمبيق إلى زيادة الضغط الدولي -والإقليمي على وجه الخصوص- على موزمبيق لوقف العنف والهجمات التي تشنّها جماعة الشباب، والتي تزايدت بشكل مطرد في مقاطعة كابو ديلجادو منذ أكتوبر 2017م، فقد شرعت شركة توتال الفرنسية العملاقة للطاقة في مشروع بقيمة 20 مليار دولار؛ في خطوة جاءت لممارسة ضغوط كبيرة على حكومة موزمبيق -الحساسة للغاية تجاه سيادتها والحفاظ على سيطرتها دون أي تدخلات خارجية عسكرية أو إنسانية- لقبول المساعدة من مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC) والقوى الغربية.
وفي هذا الإطار؛ دعت السادك، التي يرأسها حاليًا رئيس موزمبيق فيليبي نيوسي، إلى نشر فني فوري في موزمبيق عقب قمة خاصة في العاصمة مابوتو، ولم يتم الكشف عن تفاصيل هذا الانتشار. ومع ذلك، يُنظَر إلى هذه الخطوة على أنها تشير إلى تحوُّل طفيف فيما كان يُوصَف بالجمود الأمني بين موزمبيق والحكومات الإقليمية والغربية[6].
الخُلاصة؛ ليس من السهل على البلدان النامية التخلص من الإرث الطويل للصراع بمجرد تطوُّر مصادر الدخل، ولهذا لا يمكن لموزمبيق نسيان تاريخها الطويل في إعادة التوطين القسري الذي بدأ خلال الحقبة الاستعمارية، وأصبح الحلّ الأسهل الآن لإفساح الطريق أمام بناء المشاريع الضخمة الحديثة مثل مناجم الفحم، الأمر الذي استلزم إعادة توطين المجتمعات القروية، بما أثار مشاكل كبرى في البلاد، خاصة أن الحكومة تلجأ للعنف المفرط وتعالج القضايا بأساليب غير شفافة.
الأمر الذي أشعل صِرَاع قُوًى داخل المجتمع، وأحدث فجوةً بين القادة والسكان، وأنتج في الأخير مثل هذه الجماعات المسلحة ليتضاعف الصراع، وتتضاعف امتداداته وآثاره في الداخل والخارج الإقليمي والدولي.
وهكذا يُمكن القول بأن موزمبيق أصبحت تعاني من لعنة الموارد، وهي متلازمة تحدث دائمًا للبلدان النامية التي تملك فجأة موارد طبيعية كبيرة، ولكن لا يظهر لذلك أثر اقتصاديّ يُذْكَر ويتزايد عدم المساواة والصراع المسلح والفساد، مما يُؤدِّي إلى تردِّي الأوضاع بدلاً من تحسُّنها؛ هذا بالإضافة إلى تكالب القوى الدولية عليها.
وتكمن خطورة الوضع في موزمبيق في كون جماعة الشباب تمكَّنت من إقامة روابط مع الميليشيات المتشددة في الصومال وتنزانيا وكينيا، ويحدث ذلك رغم وجود اتفاقيات أمنية مع تنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا، من أجل إنشاء قيادة عسكرية إقليمية. الأمر الذي قد يؤدّي في الأخير إلى تدخل أجنبي لن يكون سوى هدية للمقاتلين المحليين وداعش، الذين سيسوقون للصراع حينها على أنه جزءٌ من حرب عالمية ضد الكفار. وهكذا تدخل موزمبيق من جديد في دائرة من الصراع التي ستُخلِّف الكثير من الآثار على الداخل والخارج الإقليمي والدولي.
[1] – أحمد فوزي سالم، “هل تصبح موزمبيق وجهة الصراع العالمي في إفريقيا؟”، نون بوست، 4/4/2021م. متاح على الرابط: https://cutt.us/Hl4i9
[2] – وائل عصام، “تنظيم «الدولة» في موزمبيق اعتمد على جذور نزاع محلية”، القدس العربي، 9/4/2021م. متاح على الرابط: https://cutt.us/PDMYf
[3] – “موزمبيق.. الجيش يبدأ عملية لاستعادة بلدة ساحلية من قبضة مسلحين مرتبطين بتنظيم الدولة”، الجزيرة نت، 28/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/V9XgG
[4] –Christopher Giles, Peter Mwai, “Mozambique conflict: What’s behind the unrest?”, BBC News, 29/3/2021. At: https://cutt.us/yynr9
[5] – Alix Culbertson, “Mozambique conflict: Why will one million people have been forced to flee their homes?“, Sky News, 29/3/2021. At: https://cutt.us/xPY47
[6]– Joseph Stepansky, “Mozambique’s conflict and the question of foreign intervention”, Aljazeera, 9/4/2021. At: https://cutt.us/As9Hq