دعاء عويضة
باحثة في الشؤون الإفريقية-مصر
في الوقت الذي يشهد فيه الغرب الإفريقي مجموعة من التفاعلات الدوليَّة والإقليميَّة؛ حيث التهديدات الأمنيَّة من تنظيم القاعدة وداعش وبوكو حرام، وكذلك صراع النفوذ الفرنسي- الأمريكي؛ تأتي تطورات الأحداث السياسية الداخلية لتلك الدول لتُضيف على الأحداث مزيدًا من التعقيد. وبينما اتخذت بعض تلك الدول خطوات لتهدئة الداخل في مواجهة الأخطار التي قد تواجهها لا سيما بعد انقلاب مالي؛ خشية انتقال العدوى إليها؛ فقد عانى البعض الآخر من تمادي الحُكَّام في ممارساتهم الديكتاتورية، والتي تصبّ في الأخير في زيادة الاحتقان الشعبي من جهة، وزيادة احتمال تدخُّل الجيوش والانقلابات العسكرية من جهة أخرى.
والسنغال إحدى تلك الدول التي شهدت خلال شهر مارس الماضي أزمة سياسية تلتها أحداث عنف دامية. فما خلفيات تلك الأزمة؟ ومن أطرافها؟ وكيف تطورت؟ وكيف يُمكن قراءتها؟ وما دلالاتها؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عنها خلال السطور القادمة.
خلفيات الأزمة:
السنغال بلد يقع في الغرب الإفريقي؛ وهو موطن لأكبر سفارة فرنسية في إفريقيا، ولا تزال السنغال -مثل العديد من جيرانها- تستخدم الفرنك الإفريقي CFA الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية، وهي عملة مرتبطة بالاقتصاد الفرنسي، مع تمركز القوات الفرنسية في البلاد. تعتبر باريس أيضًا الرئيس السنغالي ماكي سال حليفًا رئيسيًّا في إفريقيا، الأمر الذي قد لا يَصُبّ في صالحه؛ لا سيما بين الناخبين الشباب. وبينما كان يُنظر إلى السنغال منذ فترة طويلة على أنها حصن للديمقراطية في غرب إفريقيا، إلا أن التوترات الأخيرة طرحت مجموعة من التحديات التي على السنغال وقادتها مواجهتها؛ في الوقت الذي يعيش فيه حوالي 40% من السكان تحت خط الفقر.[1]
ففي عام 2016م؛ وبينما يقتصر الرؤساء السنغاليون على فترتين متتاليتين؛ أطلق سال استفتاءً دستوريًّا، يخشى البعض أنه سيستغله للترشح لولاية ثالثة، كما استخدم الرؤساء الآخرون في غرب إفريقيا -مثل ألفا كوندي في غينيا، أو الحسن واتارا في ساحل العاج- تغييرات دستورية للفوز بولاية ثالثة.
وجاءت الأزمة الأخيرة التي تَتمثّل في توجيه تُهَم اغتصاب ضد عثمان سونكو، أبرز معارض سياسي في البلاد؛ لتُفجِّر الوضع في الداخل السنغالي.[2] وشهدت السنغال خلال بداية مارس الماضي أكبر موجة احتجاجات تشهدها منذ عقود.
أطراف الأزمة:
برز في الأزمة الأخيرة الصراع المحتدم بين طرفين رئيسيين، هما: المُرشحان المُحتملان لانتخابات 2024؛ ماكي سال الرئيس الحالي، وعثمان سونكو المُعارض الشاب.
– ماكي سال: البالغ من العمر 59 عامًا، والذي تولَّى رئاسة السنغال منذ أبريل 2012م (أُعيد انتخابه في عام 2019م لمدة 5 سنوات)، وهو يرأس ائتلاف حكومي أصبح قويًّا لدرجة أنه اتُّهِمَ بتجفيف المعارضة؛ حيث اكتسب سال سُمْعَة بإبعاد خصومه السياسيين عن طريقه باستخدام القضاء.[3]
– عثمان سونكو: المُعارض الشاب البالغ من العمر 46 عامًا، والذي دخل السياسة في عام 2014م بعد أن عمل سابقًا كمفتش ضرائب. وينتمي لإقليم كازامانص الجنوبي، المعروف بتاريخه في الثورة المسلّحة ضد الحكومات السنغالية المتعدِّدة، وعاش أغلب مراحل حياته في منطقتي تييس وسان لويس العريقتين في المعارضة السياسية للأنظمة المتعاقبة. ويُنظر إليه على أنه آخر أعضاء المعارضة الباقين على قيد الحياة والقوة المُتبقية ضد سال. وأنشأ في سنة 2014م حزب (PASTEF) الذي استقطب قطاعًا واسعًا من الجماهير الشبابية في السنغال. [4]
تطورات الأزمة:
جاءت أحداث العنف السنغالية التي جرت في بداية مارس 2021م؛ تتويجًا للمسار الذي اتخذه تعامل القضاء والسلطة السنغالية مع المعارض الشاب، عثمان سونكو، بعد أن وجَّهت إليه فتاة عشرينية تهمة اغتصابها في أحد حمامات التدليك الصحي في العاصمة داكار. وسرعان ما تطوَّرت التهمة إلى تراشق سياسي وإعلامي بين سونكو وأنصاره من جهة، والسلطة ومحيطها من جهة أخرى.
ومع إصرار سونكو على رفض المثول أمام القضاء للردّ على استجواب المحققين؛ انتقلت السلطة إلى الخيار الثاني، وهو رفع الحصانة البرلمانية عن سونكو؛ تمهيدًا لتقديمه إلى العدالة، للدفاع عن نفسه أمام التهمة التي كان بإمكانها أن تقضي بشكل تامّ على مستقبله السياسي في حال ثبوتها، أو إدانته بها قضائيًّا على الأقل.
ومع تدفق أنصاره لحمايته، بدأت الشرارة الأولى للمواجهة بين الشرطة، والعناصر الشبابية الداعمة لسونكو، قبل أن تتحوَّل إلى مواجهة مفتوحة، بعد القبض عليه؛ حيث أطلقت شرطة مكافحة الشغب في ناقلات جند مسلحة الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي على الحشود في العاصمة السنغالية بعد ساعات من إطلاق السلطات سراح زعيم المعارضة عثمان سونكو بعد أيام من الاحتجاجات العنيفة هناك.
عند إطلاق سراحه، ألقى سونكو باللوم في اعتقاله على الرئيس ماكي سال، واتهمه بالسعي إلى تهميش آفاقه السياسية المستقبلية قبل انتخابات 2024م، كما اتهم سونكو الرئيس علنًا بإغراق السنغال في أزمة غير مسبوقة.
وفي الأخير أخمد الرئيس السنغالي ماكي سال العنف الذي شهد أسبوعين من احتجاجات المعارضة والقمع الحكومي وخلف ثمانية قتلى على الأقل.[5]
قراءة الأزمة:
لا يُمكن قراءة تهمة الاغتصاب المنسوبة إلى سونكو بمعزلٍ عن مسارات التصفية التي تعرَّض لها خصوم الرئيس، ماكي سال، خلال السنوات المنصرمة؛ حيث بدأ الرئيس سال بمضايقة عمدة دكار السابق، خليفة سال، بعد إدانته باختلاس المال العام، وإذا كان سال قد استفاد قبل سنتين من عفو رئاسي، إلا أنه لا يزال محرومًا من حقوقه الدستورية.
وينطبق الأمر نفسه على السياسي، كريم واد، نجل الرئيس السابق، الذي نال هو الآخر حكمًا قضائيًا يحرمه من الحقوق ذاتها؛ حيث منعه المجلس الدستوري من الترشح لرئاسيات 2019م ضمن حكم قضائي مستمر إلى ما بعد انتخابات 2024م.
وبخلوِّ الساحة السياسية من هذين الزعيمين، وتأثيرهما في المشهد، يبقى سونكو أبرز وجه سياسي معارض، وأبرز عقبة أمام مشروع الولاية الثالثة أو صناعة خَلَف مأمونٍ له.[6]
وبالرغم من اعتماد سونكو على خطاب سياسي متعدِّد الملامح، مكَّنه من استقطاب قطاعات واسعة من الأجيال الشابَّة، كان من أبرز ملامحه؛ التشخيص الحادّ لأزمات السنغال، واستخدام لغة نقدية حماسية، وخطاب شبابي ثوريّ يستقطب القطاعات الشبابية من العاطلين وطلاب الجامعات وشباب المهجر، بجانب خطاب قومي ومسحة دينية ترجع إلى قربه من التيارات الدينية في السنغال، ما أدَّى لتفرُّده بساحة المعارضة.
إلا أنَّ سونكو يواجه أيضًا نقاط ضعف متعدِّدة، أبرزها؛ حداثة وضعف التجربة السياسية، وحدَّة الخطاب السياسي ما قد يُصعِّب تحالفه مع الرموز والزعامات السياسية المعارضة العريقة، واستقطاب العداء السياسي مع فرنسا المؤثِّرة جدًّا في المشهد السياسي والأمني في السنغال، بالإضافة إلى استقطاب عداء آخر مع موريتانيا التي تتقاسم مع السنغال مشتركات متعددة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا. إلا أن اللافت أن حراك الشارع السنغالي اتخذ عدة أبعاد مؤثرة.
أولها: العنف المتبادل بين الشارع وقوى الأمن، وقد تجلَّى العنف في نَهْب المؤسسات والمتاجر، زيادة على أعداد القتلى والجرحى.
وثانيها: المفاجأة والانتشار؛ حيث عمَّ العنف مُدُنًا كثيرة من السنغال، مع التركيز في العاصمة، داكار.
وثالثها: استهداف المصالح الفرنسية؛ بشكل خاص، في تأجيج ساخن لمشاعر الغضب تجاه فرنسا التي تستحوذ على جزءٍ كبيرٍ من الاقتصاد السنغالي، وقد اكتفت باريس بتوقيع بيان مشترك مع سفراء الاتحاد الأوروبي تدعو فيه إلى الحوار والتهدئة، وذلك في مسعى لتخفيف وتيرة الغضب الموجَّه ضدها، فيما تتحدث مصادر أخرى عن رفض باريس الدعم العسكري للرئيس، سال، أثناء الأزمة، وزيادة ضغطها القوي من أجل إطلاق سراح سونكو؛ حتى لا تتفاقم الأحداث.[7]
ردود الفعل الإقليمية والدولية على الأزمة:
في رَدّ فعلها على ما مرَّت به البلاد من أحداث عنفٍ؛ حثَّت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، التي تضم 15 دولة من بينها السنغال، جميع الأطراف في البلاد على ممارسة ضبط النفس والتحلي بالهدوء.[8]
وعبَّر المدافعون عن حقوق الإنسان عن استيائهم من طريقة معالجة السلطات للأزمة. وقالت منظمة العفو الدولية في بيان لها: إنه يتعين على السلطات السنغالية وقف الاعتقالات التعسفية للمعارضين والنشطاء، وأن تحترم حرية التجمع السلمي وحرية التعبير وتكشف ملابسات وجود رجال مسلحين بهراوات إلى جانب قوات الأمن.[9]
دلالات الأزمة ومستقبلها:
يُمثل سال وسونكو؛ أسلوبين متعارضين في مواجهةٍ تبدو الآن أنها القضية الرئيسية في الانتخابات الرئاسية لعام 2024م. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي بدأ يتشكّل يشير -في ضوء الأحداث الأخيرة- إلى توتُّر ما قبل الحملة الانتخابية. وذلك لعدة أسباب:
أولها: إن العديد من المراقبين وأبطال المشهد السياسي السنغالي يعتقدون أن سال، على الرغم من عدم إعلانه رسميًّا بعد، ينوي الترشح لولاية رئاسية ثالثة. إذا قرّر بالفعل الترشح مرة أخرى، فإن ردود الفعل التي يمكن أن تثيرها هذه الولاية الثالثة غير الدستورية، هي بالفعل متوقَّعة وكارثية.
وثانيها: إذا أسفرت قضية الاغتصاب ضد سونكو عن إدانته، فسيتم استبعاده تلقائيًّا من الترشح للرئاسة. وهنا مرة أخرى، سيكون من الصعب توقُّع العواقب المحتملة. هذا في الوقت الذي يتزايد فيه عدد المُعتقلين السياسيين الذين كانوا قاصرين على أنصار الحزب الديمقراطي؛ ليشمل أيضًا اعتقال أعضاء أو متعاطفين مع الأحزاب الأخرى. وهكذا فإن احتمال عزم سال على خوض الانتخابات الرئاسية لعام 2024م دون معارضة؛ مرتفع للغاية. [10]
الخُلاصة؛ تطرح الأزمة السنغالية الحالية تساؤلاً حول ما إذا كان بإمكان الرئيس ماكي سال إيقاف التراجع الديمقراطي الذي اتسمت به فترة ولايته الثانية؛ بعدما كانت السنغال تُعَدّ استثناءً نادرًا للاتجاه السائد في غرب ووسط وشرق إفريقيا.
ويكمن مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل، واستعادة مكانة السنغال في إصلاح الانحرافات في نظامها القضائي بالدرجة الأولى، وفصله عن السلطة التنفيذية؛ بحيث لا يكون أداتها الباطشة في وجه المعارضين. الأمر الذي يُعَدّ أيضًا ضروريًّا لتأمين ثقة المستثمرين الدوليين، الذين يلعبون دورًا أساسيًّا في الحفاظ على النجاح الاقتصادي للبلاد التي تعاني من ظروف اقتصادية خانقة لا سيما بعد جائحة فيروس كورونا المُستجد.
وهكذا فقد أظهرت الأزمة السياسية التي ضربت السنغال مؤخرًا؛ أن هذا البلد وإن بدا مثالًا إفريقيًّا للديمقراطية والاستقرار؛ إلا أنه يعيش أزمة كامنة، كانت تنتظر الفتيل للاشتعال والانطلاق إلى أبعد الحدود؛ مثلها في ذلك مثل العديد من الدول الإفريقية التي تعاني من هشاشة الأنظمة السياسية والاقتصادية.
[1] -Bylynsey Chutel, “Senegal’s Political Crisis”, Foreign Policy, 17/3/2021. At: https://cutt.us/onSiO
[2] -Bobby Ghosh, “Senegal’s Democracy Is in Peril”, Bloomberg, 21/3/2021. At: https://cutt.us/Rwu7m
[3] -Bylynsey Chutel, Loc. Cit.
[4] -Mehdi Ba, “Senegal: Macky Sall and Ousmane Sonko in a political face-off”, The Africa Report, 12/3/2021. At: https://cutt.us/tuMvX
[5] -Bobby Ghosh, “Senegal’s Democracy Is in Peril”, Loc. Cit.
[6]– Babacar Dione and Krista Larson, “Senegal opposition leader released as new clashes erupt”, ABC News, 8/3/2021. At: https://cutt.us/46zrL
[7] – محمد سالم ولد محمدو، “الديمقراطية السنغالية: أزمة سونكو وأسئلة الثورة الكامنة والمأمورية الثالثة”، مركز الجزيرة للدراسات، 16/3/2021م. متاح على الرابط: https://cutt.us/gNwiI
[8]– “Pressure mounts on president as Senegal braces for fresh protests”, Aljazeera, 7/3/2021. At: https://cutt.us/hrB2D
[9] – علا غرة، “السنغال: تجدّد التوتر في العاصمة بعد يومين من الصدامات”، فرانس24، 5/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/dEZ7B
[10] Mehdi Ba, Loc. Cit.