نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مُقَدِّمَة:
شهدت العقود الأخيرة عودة متنامية للاهتمام بتاريخ الاستعمار الألماني في إفريقيا، لا سيما في ضوء النقاشات الأوسع حول ممارسات الاستعمار الأوروبي في القارة الإفريقية، والتي تجددت بفعل مطالبات التعويض والاعترافات الرسمية المتأخرة من الدول الأوروبية بمسؤوليتها عن الجرائم التي ارتكبتها في مستعمراتها السابقة.
وفي قلب هذه المراجعات، برزت بعض من جرائم المُستعمِر في إفريقيا، مثل الإبادة الجماعية التي تعرّض لها شعْبَا الهيريرو والناما (وهما من السكان الأصليين في جنوب غرب إفريقيا الألمانية آنذاك “ناميبيا حاليًّا”)، كأمثلة واضحة على العنف الممنهج الذي مارسته ألمانيا خلال فترة استعمارها القصيرة نسبيًّا (1884– 1919م) للبلاد، والتي اتسمت بدرجة بالغة من العنف والاستغلال والوحشية.
رغم هذه التطورات، لا يزال حضور المشروع الاستعماري الألماني في الأدبيات الإفريقية والعالمية دون ما يستحقه من اهتمام؛ إذ ظلت الدراسات تميل في الغالب إلى التركيز على القوى الاستعمارية الكبرى التقليدية، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا، بينما استمرت التجربة الألمانية في إفريقيا تُقْرَأ إما كفصل هامشي في تاريخ القارة، أو كحلقة منفصلة عن السياق العام للاستعمار الأوروبي.
ومِن المُلاحَظ أيضًا أن هذا التناول يتناقض مع حجم العنف والدمار الذي خلّفته السياسات الألمانية في مستعمراتها، ويُضعف من فهمها كجزء من منظومة القوى التي تنازعت السيطرة على القارة في إطار ما عُرِفَ بـ”التكالب على إفريقيا”.
في هذا السياق، يبرز حديثنا حول كتاب “الألماس والدماء.. الأطماع الاستعمارية الألمانية في إفريقيا” Diamonds and Blood: German Ambitions in Africa، لمؤلفه “ستيفن بريس” أستاذ التاريخ بجامعة ستانفورد، الصادر عن جامعة هارفارد عام 2021م، والذي يُعدّ إضافةً نوعية لسدّ هذه الفجوة البحثية والمعرفية، ولتقديم مقاربة جادة للنزعة التوسعية الألمانية (الاستعمارية) في القارة الإفريقية، وبشكل أكثر تحديدًا جنوب غرب إفريقيا الألمانية (ناميبيا حاليًّا).
أولًا: أهمية الكتاب
تنبع أهمية الكتاب من كونه إضافةً مهمةً إلى الأدبيات التاريخية المتعلقة بالاستعمار في إفريقيا؛ إذ يسلّط الضوء على تجربة الاستعمار الألماني التي كثيرًا ما أُغفلت مقارنةً بنظيرتيها البريطانية والفرنسية، كما ذكرنا أعلاه.
كما يُولِي الكتاب اهتمامًا كبيرًا للبُعْد الاقتصادي للاستعمار الألماني، لا سيما فيما يتعلق باستغلال الموارد الطبيعية مثل الألماس، ما يُثري الفهم لأدوات السيطرة الاستعمارية وربطها بالمصالح الاقتصادية للمستعمر.
كما يقدّم هذا المؤلَّف توثيقًا مهمًّا للفظائع التي ارتكبتها السلطات الألمانية، خاصةً في جنوب غرب إفريقيا، مُسلِّطًا الضوء على الإبادة الجماعية التي تعرَّض لها شعبا الهيريرو والناما، والتي تُعدّ الأولى في القرن العشرين (1904- 1908م)، وهو جانب إنساني بالغ الأهمية قلّما نال ما يستحقه في الدراسات السابقة.
ومن خلال ذلك، يفتح الكتاب الباب أمام المزيد من الدراسات التي تبحث في الاستعمار الألماني وتأثيره الممتد إلى فترة ما بعد الاستقلال، بما في ذلك الإرث السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي خلّفه في الدول الإفريقية المعنية.
وعليه، يوفّر هذا الإسهام المعرفي للقارئ مادة علمية موثّقة تساعد في إعادة التفكير في تاريخ القارة الإفريقية، وتعزز فهمًا أعمق للآثار المستمرة للاستعمار حتى اليوم.
ثانيًا: بنية وتقسيم الكتاب
في مسعى الكاتب لإبراز التطلعات الاستعمارية الألمانية في ناميبيا (جنوب غرب إفريقيا آنذاك)، قسّم الكتاب إلى أحد عشر فصلًا، جاءت وفقًا للتسلسل الآتي:
- الفصل الأول: الحُكَّام أو القادة
يتناول هذا الفصل الشخصيات السياسية والإدارية التي قادت المشروع الاستعماري الألماني في ناميبيا، مع التركيز على دوافعهم، تحالفاتهم، ودورهم في صياغة السياسات الاستعمارية.
- الفصل الثاني: الثروات والموارد
يُسلّط هذا الفصل الضوء على الموارد الطبيعية الغنية التي جذبت ألمانيا داخل القارة الإفريقية وبخاصة ناميبيا، مثل الألماس، موضحًا كيف شكّلت هذه الثروات دافعًا رئيسيًّا للتوسع الاستعماري.
- الفصل الثالث: التوغل والاندفاع
يعرض لحظة الانخراط الألماني في سباق التوسع الأوروبي نحو إفريقيا، ويشرح كيف جاء هذا “الاندفاع” في إطار “التكالب على القارة الإفريقية”.
- الفصل الرابع: الصراع والإبادة الجماعية
يبحث في المواجهات العسكرية والسياسية بين الألمان والسكان الأصليين في ناميبيا، مع تسليط الضوء على مقاومة شعبي الهيريرو والناما، وبداية العنف المنظّم ضدهما.
- الفصل الخامس: الأسواق
يناقش هذا الفصل الأبعاد الاقتصادية المرتبطة بفتح أسواق جديدة للمنتجات الألمانية، وعلاقة ذلك بالمنظومة التجارية الاستعمارية المعتمدة على ثروات وموارد المُستعمَرة الإفريقية.
- الفصل السادس: العمل
يتناول نظام العمل القسري في المستعمرات الألمانية، وأساليب استغلال الأيدي العاملة الإفريقية، والتكلفة والنتائج الاجتماعية المترتبة على ذلك.
- الفصل السابع: الأسهم أو المساهمون والشركاء
يركز على دور الشركات الخاصة والمستثمرين في تمويل المشروع الاستعماري، ويشرح العلاقة بين رأس المال الألماني والسيطرة على الأرض والثروات.
- الفصل الثامن: العالم المُظلم
يكشف عن الشبكات الخفية والعمليات غير الرسمية التي ساعدت في ترسيخ الوجود الألماني في مُستعمرته الإفريقية (ناميبيا)، بما في ذلك التواطؤ والفساد والعنف غير المُعلن.
- الفصل التاسع: السياسة
يحلل الخطاب السياسي والأيديولوجي الذي رافق التوسع الألماني، ويستعرض كيف برّرت الدولة الألمانية مشروعها الاستعماري أمام الداخل والخارج.
- الفصل العاشر: الاستيلاء
يُركِّز على الأساليب التي استُخدمت للسيطرة على الأراضي والموارد، سواء بالقوة أو عبر المعاهدات، مع إبراز الأبعاد القانونية والرمزية لذلك.
- الفصل الحادي عشر: الأسلحة
يُحلل البنية العسكرية للاستعمار، وتسليح القوات الألمانية، ودور العنف في تثبيت السيطرة الألمانية على الشعوب المحلية.
ثالثًا: أهم الأفكار والقضايا المثارة في الكتاب
وخلالها نوضح أبرز الأفكار والقضايا الواردة بالكتاب حول مشروع ألمانيا الاستعماري في مستعمرتها التي عرفت باسم “جنوب غرب إفريقيا الألمانية”، أو ناميبيا حاليًّا، وذلك على النحو التالي:
1- برلين تُشرّع الغزو:
يُركّز الفصل الأول على نشأة الاستعمار الألماني في جنوب غرب إفريقيا، موضحًا كيف تحوّلت السياسة الألمانية من رفض مبدئي لفكرة التوسُّع الاستعماري إلى تبني ذات الفكرة لأسباب سياسية واقتصادية داخلية.
في البداية، عارَض المستشار الألماني “أوتو فون بسمارك” فكرة الاستعمار، لكنه غيَّر موقفه في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، مدفوعًا برغبة في كسب تأييد القوميين وتوسيع نفوذ ألمانيا من دون تحميل الدولة أعباء مالية مباشرة. ولتحقيق ذلك، لجأ إلى الاعتماد على شركات خاصة لإدارة ما أُطلق عليه “محميات”، وفي مقدمتها “الشركة الاستعمارية لجنوب غرب إفريقيا”.
غير أن المشروع الاستعماري الألماني سُرعان ما واجه تحديات بيئية واقتصادية كبيرة. فقد عانت المستعمرة من نقصٍ حادّ في المياه والغذاء، ومن ضعف شديد في البنية التحتية، مما أدى إلى بطء عملية التوطين الأوروبي. كما واصلت الشركة احتكار الأراضي من دون تطوير فِعْلي، ما أعاق التنمية وأثار استياء السكان المحليين، الذين جُرِّدوا من أراضيهم استنادًا إلى مفاهيم قانونية ألمانية لا تنسجم مع أنماط الملكية التقليدية لديهم.
وفي سياق هذه السياسات، صعّدت القوات الألمانية من مستوى العنف، لا سيما ضد شعبي الهيريرو والناما، اللذين انتفضا ضد الاستعمار عام 1904م. وعليه، ردّت ألمانيا بحملة عسكرية قمعية ودموية، بلغت ذروتها بإصدار أوامر بالإبادة الجماعية، وإنشاء معسكرات اعتقال، مما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف منهم. ولم تكن هذه المجازر مجرد أعمال انتقامية، بل حملت أبعادًا سياسية واقتصادية؛ إذ مهّدت الطريق للسيطرة الكاملة على الأراضي ومصادر المياه والثروة الحيوانية في المستعمَرة.
2- الألماس في قلب مشروع التوسُّع الألماني:
يتناول هذا القسم مسألة اكتشاف الألماس في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا الآن)، ويعيد النظر في السردية الشائعة التي تربط هذا الاكتشاف المفاجئ بعام 1908م؛ حيث يشير الكاتب إلى أن هذا التاريخ لم يكن بداية مسألة الألماس، بل كان الوقت الذي شهد زخمًا إعلاميًّا وسياسيًّا حول وجوده. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، كان هناك اهتمام ألماني بمؤشرات جيولوجية تُوحي بوجود الألماس في المنطقة، خاصة مع تزايد المعرفة بتجربة جنوب إفريقيا المجاورة؛ حيث أدت اكتشافات الذهب والألماس إلى ما عُرف بـ”الثورة المعدنية”.
وبصورة عامة، يُظهر المؤلف أن اهتمام ألمانيا بالألماس كان جزءًا من طموحاتها التوسعية، التي تأسست إلى حد كبير على المقارنة مع النفوذ البريطاني المتصاعد في إفريقيا، لا سيما في جنوبها. غير أن الألمان، وعلى عكس البريطانيين، كانوا يفتقرون إلى الخبرة في التعامل مع أسواق الألماس العالمية. كما اتسم تعاملهم مع الألماس بقدر كبير من السرية، سواء فيما يتعلق بمصدره أو بأساليب استخراجه وتسويقه، مما أدَّى إلى تخبُّط واضح في إدراك حجم السوق وطبيعة المنافسة به، خاصة في ظل هيمنة لاعبين كبار مثل بريطانيا على هذا القطاع.
3- “العمال السعداء”.. بين الدعاية الاستعمارية والواقع المميت:
يركّز “بريس” هنا على القوى البشرية التي استُخْدِمَت -أو بالأحرى استُنْزِفَت- لاستخراج الماس في جنوب غرب إفريقيا، ويكشف عن البنية العنيفة الاستغلالية لنظام العمل الاستعماري الألماني بالمستعمَرة، موضحًا كيف استُخْدِم العمل القسري والمنظم في خدمة الاقتصاد الألماني.
من ناحية أخرى، يشير الكتاب إلى التحدّي الرئيسي الذي واجهته ألمانيا بعد اكتشاف الماس في ناميبيا، وهو نقص الأيدي العاملة، لا سيما في أعقاب الإبادة الجماعية ضد شعبي الهيريرو والناما بين عامي 1904 و1908م، كما أوضحنا مسبقًا، والتي تركت المستعمرات الألمانية في الجنوب الغربي شبه خالية من السكان القادرين على العمل. ولذلك لجأ الألمان حينها إلى استهداف النساء والأطفال وكبار السن من أجل سدّ هذا العجز، وفرضوا على الشعوب الأصلية ضرائب لا يمكن سدادها إلا بالنقود، وهو ما أجبرهم على الالتحاق القسري بالعمل.
يسرد هذا القسم تفاصيل شديدة الصعوبة عن سوء معاملة الألمان للعمال الأفارقة (الناميبيين) خلال ذلك الوقت، وما نجم عنها من وفيات في مناجم الماس؛ حيث يقول الكاتب: “في أحد الحقول بجنوب غرب إفريقيا، توفي 10% من العاملين خلال عام واحد، وفي مكان آخر وصلت النسبة إلى 45%”. تلك الظروف الصعبة دفعت بعض المسؤولين الألمان للاعتراف بـ”معدلات وفاة مرتفعة للغاية”، في حين استمرت الحكومة في بثّ دعاية مزيفة عن أن العاملين لديهم سعداء، ويتم ضمان كافة حقوقهم، التي يعرفونها بالفعل”.
في الواقع، لم تكن القوانين الألمانية لحماية العمال الأفارقة تُطبّق فعليًّا، ولم تُصدق المحاكم شهاداتهم، مما حوّل المناجم إلى أماكن خارجة عن القانون، تُدار مِن قِبَل ضباط سابقين في الجيش الألماني شاركوا في عمليات الإبادة الجماعية.
4- اقتصاد موازٍ للاستعمار.. شبكات التهريب والفساد في جنوب غرب إفريقيا:
يتناول هذا الجزء من الكتاب الجانب المظلم (غير المشروع) من اقتصاد الألماس الاستعماري الألماني، حيث يكشف عن تفشّي التهريب، والفساد، والنهب والتحايل، في ظل ازدهار سوق الألماس في جنوب غرب إفريقيا. يوضح الفصل كيف أن هذه الأنشطة غير القانونية لم تكن محصورة في الهوامش أو الأطراف، بل اخترقت كل مستويات المجتمع الاستعماري، من المستوطنين إلى الضباط، ومن نساء الطبقة البرجوازية إلى الشبكات الإجرامية الدولية.
في هذا الإطار يسرد الكاتب بعض التفاصيل الصادمة عن حجم ونطاق التهريب، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الألماس المُهرَّب كان يُمرَّر بسهولة عبر البريد، أو من خلال موانئ ذات رقابة ضعيفة، مثل لودريتز باي (Lüderitz Bay) ، وهو خليج يقع على الساحل الجنوبي الغربي من ناميبيا؛ حيث كانت الحراسة شبه معدومة. كما يُورد حالات لسيدات ألمانيات كنّ يهربن الألماس في أمتعتهن، أو يدعين السذاجة عند القبض عليهن، مستفيدات من الأعراف التي كانت تمنع تفتيش النساء مِن قِبَل رجال الشرطة.
أما بالنسبة للجانب الأمريكي، فقد سمحت الثغرات الجمركية بتمرير الألماس دون دفع ضرائب حتى عام 1913م، ما جعل نيويورك مركزًا عالميًّا لتوزيع الألماس المهرب، الذي كثيرًا ما وُزِّع على متاجر مجوهرات مرموقة باعت القِطَع دون علم الزبائن بمصدرها غير القانوني.
باختصار، يُبرز هذا الجزء كيف أن الألماس في ناميبيا، في ظل الحكم الاستعماري الألماني، لم يكن مصدر فخر قومي أو ازدهار اقتصادي مشروع، بل أصبح مرآة للانقسام الاجتماعي، وللتهرب من القانون، وأحد أبرز التناقضات العميقة في مشروع الاستعمار الألماني.
5- الألماس والذاكرة المنهوبة… نحو مساءلة شاملة:
في القسم الأخير من الكتاب، يؤكد “بريس” أن التأثير الاستعماري الألماني لم يكن هامشيًّا أو قصير الأمد كما يُشاع، بل كان عميقًا ومتشعّبًا، ترك بصماته في الاقتصاد والسياسة والثقافة، وفي منظومة العنف، ليس فقط في إفريقيا، بل في قلب أوروبا أيضًا.
ويشير إلى أن التجربة الألمانية في جنوب غرب إفريقيا لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها البريطانية أو البلجيكية؛ حيث أسندت القوى الاستعمارية مهام السيطرة إلى شركات خاصة ذات سلطات شبه سيادية. هذه الشركات كانت تسعى إلى أرباح احتكارية، لكنها كثيرًا ما تذمّرت من أعباء الحكم الاستعماري. وعندما تعارضت المصالح؛ فضّلت ألمانيا -كما فعل منافسوها- شراء حقوق تلك الشركات بدلًا من مصادرتها.
على مستوى العمل، يربط المؤلف بين ممارسات ألمانيا في مناجم الألماس وبين التقاليد العنيفة التي ستُنسخ لاحقًا في معسكرات العمل النازية.
ويختتم “بريس” الكتاب برسالة واضحة مفادها: إن تجاهل التاريخ الاقتصادي للاستعمار، والتركيز فقط على الاعتذارات الرمزية أو إعادة بعض الجماجم، يُبقي جزءًا كبيرًا من العنف دون مساءلة. ومِن ثَمَّ، يدعو إلى إدراج هذا التاريخ من الاستغلال الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بتجارة الألماس، ضمن النقاشات المعاصرة الساعية إلى إرساء العدالة واستعادة الذاكرة الجمعية حول تاريخ المستعمِر الأوروبي في إفريقيا.
خاتمة:
يُعدّ كتاب “الألماس والدماء” للمؤرخ “ستيفن بريس” إضافة قيّمة لفهم الطموحات الاستعمارية الألمانية في إفريقيا. ومع ذلك، لا يمكن إغفال بعض النقاط التي قد تَحُدّ من شمولية الطرح، مثل التركيز المكثّف على الجوانب الاقتصادية للأطماع الاستعمارية الألمانية، دون تناول كافٍ للآثار الاجتماعية والثقافية لهذا الاستغلال، وكذلك تهميش العلاقة بين المستعمِر والشعوب المستعمَرة. كما أغفل الكتاب بدرجة ملحوظة ردود فعل الشعوب الإفريقية تجاه الاستعمار، بما في ذلك عدم تناوله بشكلٍ وافٍ تأثير الحقبة الاستعمارية على فترة ما بعد الاستعمار في القارة.
ورغم ما يمكن أن يُسجَّل على الكتاب من تحفظات تتعلق ببعض جوانب المعالجة أو حدود التوسع في بعض القضايا، فإنه يظل إسهامًا بالغ الأهمية في الأدبيات التاريخية التي تتناول التجربة الاستعمارية الألمانية في إفريقيا. فالكتاب لا يقتصر على سرد الوقائع أو استعراض المحطات الرئيسية، بل يتجاوز ذلك إلى تقديم قراءة مُعمّقة للبنى الاقتصادية والسياسية التي قامت عليها تلك التجربة، وما تخللها من عنف منهجي واستغلال منظّم.
ولعل أبرز ما يقدّمه الكتاب في سياق النقاشات المعاصرة هو إصراره على عدم اختزال العدالة التاريخية في ردّ بعض جماجم الأفارقة، أو إصدار بيانات اعتذار رمزية، بل التأكيد على ضرورة مساءلة البُعد الاقتصادي للاستعمار، والاعتراف بأثره الممتد على المجتمعات الإفريقية حتى يومنا هذا. فالنزعة التوسعية الألمانية تجاه جنوب غرب إفريقيا لم تكن مجرد مغامرة استعمارية عابرة، بل كانت مشروعًا سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ترك بصماته العميقة في الذاكرة الجماعية، وفي خرائط العنف، داخل القارة الإفريقية وخارجها.
ختامًا، يُعدّ الكتاب مرجعًا لا غِنَى عنه للباحثين والمهتمين بتاريخ الاستعمار الأوروبي، خاصة أولئك الذين يسعون إلى فهم تداخلات القوة، والثروة، والعنف، في سياق التجربة الاستعمارية الألمانية بإفريقيا، وموقعها ضمن النهج الأوروبي القائم على الإخضاع والاستغلال والتوسُّع.
____________________________
مصدر الكتاب:
Steven Press, Diamonds and Blood: German Ambitions in Africa (Harvard: Harvard University Press, 2021).