عصام زيدان
باحث في الشئون السياسية – مصر
كان المشهد لافتًا ومثيرًا لكثيرٍ من التساؤلات السياسية..
البداية كانت من إصرار السلطات السنغالية على اعتقال المعارض الرئيس للسلطة عثمان سونكو (46 عامًا), بتهمة مألوفة جدًّا وشائعة في الأوساط الإفريقية؛ وهي: اغتصاب عاملة في مركز تجميل.
المعارض سونكو والمرشَّح الذي حلَّ ثالثًا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2019م، ويُعدّ مِن أهمّ المرشحين للمنافسة في الاقتراع المقبل في 2024م، ما فتئ ينكر تلك التهمة, ويؤكد أنه مجرد تأليف من الحكومة لإسقاطه سياسيًّا، والحيلولة دون ممارسة نشاطه السياسيّ، ومِن ثَمَّ ترشحه في الانتخابات المقبلة.
أصرَّت الحكومة السنغالية على المُضِيّ قُدُمًا في السيناريو المألوف والمعروف بشحذ أجهزتها الأمنية لاعتقال المعارض السياسيّ؛ حيث فرضت إجراءات أمنية مشدَّدة على الرئاسة السنغالية والمباني الرسمية في وسط العاصمة دكار.
هذا الاستنفار الأمني الحكومي واجهه مؤيدو المعارض السياسي بشحنة غضب عالية المستوى؛ حيث وقعت مواجهات بين المؤيدين وقوات الشرطة، ووقعت أعمال تخريب ونهب لبعض المحلات التجارية في أحياء عدة في العاصمة ومدن أخرى، وتواصلت الصدامات في ضواحي دكار تزامنًا مع إطلاق دعوات للتظاهر.
اللافت هو ما كان من غضب عارم من المتظاهرين على فرنسا, صاحبة الامتياز الاستعماري السابق, وصاحبة اليد الطولى في البلاد إلى الآن؛ حيث تعرَّضت مباني العديد من العلامات التجارية الفرنسية بما فيها “أوشان” لهجمات، بينما أجبرت المدارس الفرنسية في البلاد على غلق أبوابها.
إنَّ هذه الظاهرة تكرَّرت في أكثر من بلد إفريقي..
ففي مالي خرجت مظاهرات معارضة للوجود الفرنسي والتدخل الفرنسي في شؤون البلاد، سواء السياسية أو العسكرية, كما خرجت مظاهرات في بوركينا فاسو، تُطالب بطرد القوات الفرنسية من البلاد أيضًا.
وهذه الظاهرة تُنْبِئُ عن وجود شعور جمعيّ إفريقي بأنَّ فرنسا ما زالت هي القوة المتنفذة في البلاد, وأنها صاحبة القرارات المصيرية, وأنها تُمْلِي إرادتها المنفردة على الرؤساء؛ لأنها هي من تصنع هؤلاء الحكام وتدعم كراسي حكمهم.
فقد يكون صحيحًا أن 14 دولة إفريقية نالت استقلالها في عام 1960م، وهي: بنين، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو، والكاميرون، وتشاد، والكونغو-برازفيل، ومدغشقر، وموريتانيا، والغابون، وجمهورية إفريقيا الوسطى.
إلا أن النفوذ الفرنسي مستمرّ في المستعمرات السابقة, ومنها السنغال، بينما ينمو الغضب في نفوس الشباب من السياسات الاستعمارية التي يرونها عائقًا أمام تطلعاتهم السياسية في نَيْل الحرية, وصناعة مستقبل بلادهم, وكذلك حجر عثرة أمام طموحهم الاقتصاديّ والماليّ والمعيشي.
وهنا يأتي التناقض المُولّد لكثير من الصراعات السياسية والمجتمعية في البلدان الإفريقية..
فهناك نُخْبَة ترى نفسها وبلادها رهينة الاستعمار الفرنسي الممتد, وأنه لا غِنَى لها ألبتة عن ذلك الدعم، وإلا سقطت البلاد في دائرة من الفوضى والخراب, لا سيما مع وجود جماعات إرهابية شديدة البأس تنتظر لحظة السقوط المروِّع لأنظمة الحكم المسنودة غربيًّا.
ومن الناحية الأخرى, يرى الشباب الطامح, الذي نشأ وتربَّى في فترة ما بعد الاستعمار بصورته الغليظة الفظَّة, أن مستقبل البلاد لن يكون إلا بسواعد أهله, وأن ذلك الاستعمار بمثابة مصاص دماء, يمتص خيرات البلاد الإفريقية, مقابل دعم نظامها السياسي وحفظ أمنه الشخصي, وأن الفزاعة المسماة بالإرهاب هي صنيعة غربية بامتياز, ومِن ثَمَّ فإنَّ المطلب الرئيس هو إنهاء العلاقة الآثمة، بأن يرفع الاستعمار يده عن البلاد, ويترك لأهلها تدبير شؤونهم السياسية والاقتصادية.
إن فرنسا تعاني الكثير في منطقة الساحل الإفريقي، لكنها تعيش حالة إنكار, لا سيما مع تصاعد الرفض الشعبي, وهو ما عبَّر عنه موقع “ميديابارت” الفرنسي في تحقيق مطوَّل انتهى إلى القول بأن القوات الفرنسية في الساحل باتت مرفوضة شعبيًّا، ويُنْظَر لها كقوة استعمارية.
كما أن الرؤساء في حالة معاناة من تصاعد قوى المعارضة التي تجد لها صدًى شعبيّ خاصةً مِن قِبَل الشباب, على قاعدة رفض الاستبداد السياسي المدعوم فرنسيًّا, وهو -فيما يبدو- متصاعدٌ ويهزّ أركان السلطات الحاكمة بعنف.
إن ثمة تساؤلات من رحم هذا التناقض:
هل بدأ العد التنازلي للسيطرة الفرنسية على دول إفريقيا في ضوء الرفض المتنامي لا سيما من الشباب؟
وهل تعي فرنسا أنَّ دورها بات على المحكّ, وأن السبيل المتاح أمامها هو الخروج من الباب الواسع, بدلاً من أن تضطر يومًا ما إلى الخروج مُنَكَّسَة الرأس من الباب الضيق جدًّا؟
وهل بدأ العد التنازلي لسيطرة حُكّام إفريقيا الفرنسيين على الحكم, وبدأ ميلاد حقبة جديدة تُبشّر بحُكّام وطنيين يرون أن مستقبل بلادهم في الخلاص من الاستعمار بصورته الناعمة, كما تخلص من صورته الغليظة في ستينيات القرن الماضي؟