عصام زيدان
باحث في الشؤون السياسية – مصر
تُكلّف فاتورة الإرهاب والأعمال المسلَّحة القارة الإفريقية كثيرًا من الأنفس والأموال والعتاد العسكري, كما تؤثر على مُقدّرات البلاد التي يجب أن تتوجّه إلى التنمية لا إلى العمل العسكري المباشر, إضافةً إلى التكلفة السياسية الباهظة والممثلة في الارتهان إلى الغرب في الحفاظ على أمن البلاد وسلامة المؤسسات السياسية.
ووفق تقرير 2020م للمؤشر العالمي للإرهاب، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، ومقرّه في سيدني الأسترالية، والصادر بالتعاون مع مركز مكافحة الإرهاب والتطرف بجامعة ميريلاند الأمريكية؛ فقد بلغت خسائر إفريقيا الاقتصادية بسبب الإرهاب 13 مليار دولار أمريكي في سنة 2019م, وبسبب العمليات الإرهابية، ارتفع نصيب إفريقيا من التداعيات الاقتصادية العالمية للإرهاب من 3.1 في المائة عام 2007م إلى 49.2 في المائة سنة 2019م.
وأوضح التقرير أن نيجيريا والصومال ومالي كانت الدول الأكثر تأثرًا بتداعيات الإرهاب في القارة، وتحمَّلت 86.8 في المائة من الخسائر الاقتصادية للإرهاب على القارة، مقابل 8.3 في المائة لباقي دول إفريقيا. وكشف التقرير عن تضاعف التداعيات الاقتصادية للإرهاب على قارة إفريقيا بمقدار 15 ضعفًا منذ عام 2007م، موضحًا أن قارة إفريقيا، خلال الفترة من عام 2007م إلى عام 2019م، تكبَّدت خسائر بسبب الإرهاب بلغت 171.7 مليار دولار أمريكي.
وأشار التقرير إلى أن “هذه التقديرات للخسائر ستكون أعلى بكثير جدًّا إذا ما جرى احتساب خسائر استثمارات التجارة والسياحة والنشاط الاقتصادي غير الرسمي والنفقات الأمنية الإضافية ومكافحة الإرهاب واللاجئين والمهجرين داخليًّا”.
تحوُّلات خطرة:
ولا يبدو في الأفق أن هذا الإرهاب في طريقه للانحسار، على الرغم من الأعداد المتزايدة من الجنود الغربيين الذين يتوافدون على أرجاء القارة؛ أملاً في وضع نهاية لهذا الإرهاب المتنامي، فحسب نشرة “مؤشر الإرهاب العالمي” التي نُشِرَتْ في نوفمبر 2020م نقَل تنظيم الدولة “مركز ثِقَله” من منطقة الشرق الأوسط إلى القارة الإفريقية؛ حيث شهدت منطقة الساحل في ذلك العام زيادةً في أعمال القتل بنسبة 67 في المئة مقارنة بالعام 2019م.
وفي عام 2019م شهدت دول جنوب الصحراء الكبرى أكبر زيادة في عمليات القتل التي تُنْسَب للجماعات المرتبطة بتنظيم الدولة، والتي بلغ مجموعها 982 حالة قتل، وهو ما يمثل 41 في المئة من إجمالي أعمال القتل.
وتقع سبع دول من الدول العشر التي شهدت تصاعدًا في الأعمال الإرهابية في جنوب الصحراء الكبرى وهي: بوركينا فاسو وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومالي والنيجر والكاميرون وإثيوبيا.
وحسب رأي الخبير في شؤون الجماعات المسلحة اوليفيه غييتا من مؤسسة “غلوبال سترات للمخاطر الأمنية الاستشارية”؛ فإن إفريقيا ستكون ساحة الجهاد العالمية خلال السنوات العشرين المقبلة بدلاً من الشرق الأوسط.
البحث في الأسباب:
إن البحث عن الأسباب التي أدَّت إلى تنامي العنف المحلي في إفريقيا جنوب الصحراء، والمتمثل في الجماعات المسلحة ذات النشأة الإفريقية الخالصة مثل حالة بوكو حرام في نيجيريا؛ يقودنا في البداية إلى الإشارة بأصابع الاتهام إلى الأنظمة السياسية الديكتاتورية, التي تُغلق باب الممارسة السياسية والمعارضة وتداول السلطة, وفتح الأجواء العامة للنقاش, وتلجأ إلى القمع كأداة تبدو أسهل كثيرًا في التعامل مع المخالفين، لا سيما مع أصحاب التوجهات الدينية والأيديولوجية.
أضف إلى ذلك المظالم الاجتماعية, والفساد المستشري، وسوء الأوضاع الاقتصادية, وفشل العملية التعليمية, والارتهان إلى الغرب وممالأته في توجهاته السياسية، ولو على حساب المصالح الوطنية, ووجود “أصحاب المصلحة” في بعض الأجهزة السيادية الذين ربما يتكسبون وظيفيًّا وماليًّا من وجود الإرهاب وأعمال العنف المسلح في بلادهم.
أما عن أسباب جذب إفريقيا جنوب الصحراء للجماعات المسلحة ذات الصبغة العالمية, مثل تنظيم الدولة المعروف باسم “داعش”، وتنظيم القاعدة, فربما يرجع لأسباب محلية, في مقدمتها وجود فراغات أمنية كبيرة وشاسعة في إفريقيا جنوب الصحراء, وهشاشة البنية الأمنية والسياسية في غالب هذه الدول.
أما الأسباب العالمية فربما تعود إلى الملاحقة الدولية، والقبضة الأمنية الشديدة في دول الشرق الأوسط والدول الغربية, وافتقاد الملاذات والحواضن الآمنة في هذه الدول.
الحلول ليست سهلة:
في ظل هذا الوضع المعقد يأتي البحث عن حلول لوقف نزيف الدماء وهدر الأموال في إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث تتراوح الحلول البادية في اتجاهين:
الاتجاه الأول تقوده نيجيريا: ويتجه إلى خوض المعركة حتى نهايتها في مواجهة الجماعات المسلحة, وهو ما بدا واضحًا من إقالة الرئيس النيجيري محمد بخاري للقيادات الأمنية والعسكرية, وتنصيب قيادات أخرى لإعطاء دافعية وقوة في مواجهة تلك الجماعات المسلحة.
وهو سيناريو مكرَّر, ونتائجه معلومة مسبقًا؛ فالمعالجة العسكرية بمفردها لا تعني سوى المزيد من هدر الدماء وفقد الأموال, وفقد بوصلة التنمية, وستظل تلك الجماعات في وجودها ونموّها وتهديدها لكيان الدولة، ما بقيت فوهات البنادق تتحدث وحدها.
الاتجاه الثاني وتقوده مالي: ويسعى ربما إلى فتح مجالات للتفاوض مع تلك الجماعات المسلحة؛ بغية التخلُّص من آفة الإرهاب, والتفرغ وتوجيه الجهود ناحية التنمية, وهو توجُّه سبق تجربته، مع تلك الجماعات, ويبدو أنه ذو تأثير خفيف على مجريات العمليات الإرهابية, ولم يحسم مصيرها ألبتة, لا سيما ونحن نتحدث عن جماعات مسلحة وليست جماعة واحدة, إضافة إلى قابلية هذه الكيانات للانشطار والتشظي, على قاعدة القبول/الرفض للتفاوض مع الحكومات, كما أن هذا التوجُّه يواجه نوعًا من التمنُّع والاعتراض المُعْلَن مِن قِبَل القوات الأجنبية، وفي مقدمتها فرنسا, وهو يعني ان هذا القوات بإمكانها إفشال ذلك التوجُّه حتى قبل أن يبدأ.
خارطة الطريق:
إن دول إفريقيا جنوب الصحراء بحاجة إلى خارطة دقيقة للتغلُّب على آفة الإرهاب تتمثل في الآتي:
أولاً: تطوير بنية النظام السياسي؛ عبر إطلاق الحريات, وتوسيع هامش المشاركة السياسية, وإقامة نظام الحكم الرشيد القائم على الكفاءة, لا المحاصصة العِرْقِيَّة أو الفئوية أو المحسوبية, مع التوزيع العادل للثروات, والقضاء على الفساد, لا سيما “الفساد العالي” الذي يقبع في قمة المؤسسات وليس فقط “الفساد الصغير” الذي يقوم به بعض المنتفعين من صغار الموظفين البيروقراطيين.
ثانيًا: تطوير بنية التعامل الأمني مع تلك الجماعات المسلحة, بالعمل باحترافية أمنية وعسكرية شديدة, تقوم على معلومات استخباراتية دقيقة, بدلاً من التعامل الغاشم, والإفراط في استخدام القوة الخشنة, التي ربما تزيد من المظالم المجتمعية, وتصبُّ مزيدًا من الزيت على النار الموقدة, ووقف الإعدامات الميدانية, وتفعيل المنظومة القانونية الحيادية.
ثالثًا: إطلاق حوار مجتمعي رشيد بواجهات وشخصيات دينية ومجتمعية مقبولة مع تلك الجماعات, وفتح مجالات لاحتواء قادتها في بنية العمل السياسي, ودمج أفرادها في البنية الأمنية والعسكرية والوظيفية؛ لمنع الانشقاقات والتشظي وضمان ولائهم للدولة.