نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد:
في ظل مشهد عالمي مُتقلِّب، يشهد تصاعد وتيرة العنف والاستبداد، إلى جانب تقاعس القوى العالمية عن اتخاذ إجراءات حاسمة في ملفات طارئة عدة كمواجهة تأثيرات التغيُّر المناخي، واستمرار تفاقم التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية؛ يبرز تقرير حالة المجتمع المدني العالمي لعام ٢٠٢٥م، الصادر عن التحالف العالمي من أجل مشاركة المواطنين المعروف اختصارًا بـ(CIVICUS)، ليُسلِّط الضوء على التحديات العميقة التي تعترض طريق نشطاء المجتمع المدني ومنظماته، على مستوى العالم.
يرصد التقرير كيف يواجه المجتمع المدني تضييقًا متزايدًا في وقتٍ يحتاج فيه العالم إلى أصوات مستقلة قادرة على المطالبة بالعدالة والتعبير عن أصوات المُهمَّشين والمتضررين من الصراعات في مناطق عدة بالعالم. وبالرغم من هذه العراقيل، يُعتبر التقرير شهادة حية على الإصرار والصمود، خاصةً أنه مُهدَى إلى كل مَن يسعى، رغم التحديات، إلى إبقاء شعلة الأمل مشتعلة في سبيل مستقبل أكثر إنصافًا وشمولًا.
من هذا المنطلق، يسعى هذا المقال إلى قراءة تقرير “حالة المجتمع المدني لعام 2025م”، مع التركيز على موقع إفريقيا جنوب الصحراء بالتقرير، وذلك وفقًا للمحاور الرئيسة التالية:
- المحور الأول: تقرير “حالة المجتمع المدني لعام 2025م”.. الهدف والتقسيم.
- المحور الثاني: تقرير “حالة المجتمع المدني لعام 2025م”.. قراءة عالمية.
- المحور الثالث: إفريقيا جنوب الصحراء في تقرير “حالة المجتمع المدني لعام 2025م”.
المحور الأول:
تقرير “حالة المجتمع المدني العالمي لعام 2025م”… الهدف والتقسيم
أولًا: الهدف
يمثل تقرير المجتمع المدني لعام 2025م الإصدار الـ14 من السلسلة السنوية التي تصدرها منصة سيفكس (CIVICUS)؛ حيث يستعرض أبرز أحداث عام ٢٠٢٤م، وبداية عام ٢٠٢٥م، مُسلِّطًا الضوء على الاتجاهات الرئيسية لعمل المجتمع المدني، من الاستجابة للنزاعات إلى المطالبات بإصلاح الحوكمة العالمية، والنضال من أجل الديمقراطية، والعدالة المناخية.
يستند التقرير إلى أصوات المجتمع المدني المتأثرة بالقضايا المعاصرة؛ حيث يعتمد على أكثر من ٣٠٠ مقابلة و٨٠ مقالة نشرتها سيفيكس، تُغطّي ما يزيد عن ١٢٠ دولة ومنطقة، ما يُوفّر منظورًا حقيقيًّا حول واقع المجتمع المدني حتى مطلع عام ٢٠٢٥م، في ظل تصاعد الأزمات التي تُهدّد حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، إلى جانب التحديات المتزايدة المتعلقة بشح الموارد.
إجمالًا، يعرض التقرير أهم ملامح واتجاهات عمل المجتمع المدني حول العالم، ويوضح كيف واجه المجتمع المدني الضغوط والتحديات في سياقات متعددة.
ثانيًا: التقسيم
على صعيد القضايا التي يُغطّيها تقرير حالة المجتمع لعام 2025م، فيمكن الإشارة إلى أبرز الأقسام التي يتألف منها، كما يلي:
- القسم الأول “الصراع”: سيادة القوة على حساب القانون.
- القسم الثاني “الديمقراطية”: التراجع والقدرة على الصمود.
- القسم الثالث “الاقتصاد”: عصر الهشاشة وعدم المساواة.
- القسم الرابع “المناخ والبيئة”: السير في الاتجاه الخاطئ.
- القسم الخامس “التكنولوجيا”: المخاطر الإنسانية للقوة الرقمية.
- القسم السادس “حقوق المهاجرين”: الإنسانية في مواجهة العداء.
- القسم السابع “الأمم المتحدة”: الحوكمة العالمية في أزمة.
- القسم الثامن “المجتمع المدني”: النضال مستمر.
المحور الثاني:
تقرير “حالة المجتمع المدني لعام 2025م”… قراءة عالمية
يحاول تقرير حالة المجتمع المدني لعام 2025م كما ذكرنا سلفًا استكشاف الواقع المحيط بعمل المجتمع المدني على مستوى العالم، وما يواجهه من تحديات، وهو ما يمكن عرضه وفقًا للتسلسل الآتي:
أولًا: عالم بلا عدالة
يشير التقرير هنا إلى تصاعد النزاعات عالميًّا مع انتهاكات صارخة للقوانين الدولية؛ حيث يتم استهداف المدنيين عمدًا من خلال ارتكاب جرائم حرب دون محاسبة. يحدث ذلك في مناطق الصراع مثل غزة وأوكرانيا والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وميانمار والسودان؛ حيث يعاني المدنيون من القتل والنزوح والصدمات النفسية العميقة، بينما تبدو الكيانات الدولية عاجزة تمامًا عن فرض العدالة.
في غزة على سبيل المثال، قتلت إسرائيل أكثر من 48 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، ونزح حوالي 1.9 مليون شخص، فيما دُمِّر أكثر من 92% من المنازل أو تعرَّضت لأضرار جسيمة. كما قُتل العشرات من الصحفيين وعمال الإغاثة، وسط اتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب.
علاوة على ذلك استُخْدِم العنف أداةً سياسيةً مِن قِبَل نتنياهو للبقاء في السلطة، مستفيدًا من دعم أمريكي مستمر. وعلى الرغم من توقيع وقف لإطلاق النار بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة، إلا أنه استمر هشًّا، مع استمرار القيود الإسرائيلية على المساعدات الإنسانية. في الوقت نفسه، يدفع ترامب نحو إعادة إعمار غزة كمشروع اقتصادي، مع احتمال تهجير سكانها بشكل قسري، ثم عادت الحرب مستعرة على القطاع مرة أخرى.
كما امتد العنف الإسرائيلي إلى لبنان وسوريا والجولان المحتل، بالتزامن مع فرض 19 قانونًا طارئًا داخل إسرائيل لقمع الحريات واستهداف الفلسطينيين بالمراقبة والاعتقالات التعسفية. كما شهدت دول عديدة قمعًا للاحتجاجات المؤيدة لفلسطين؛ حيث منعت 12 دولة أوروبية التظاهرات، فيما تعرَّض الطلبة في الجامعات الأمريكية للقمع والطرد بسبب مشاركتهم في احتجاجات تدعو لسحب الاستثمارات من الشركات الداعمة لإسرائيل. إضافة إلى ذلك، تعرَّض الفنانون والصحفيون لحملات رقابة واسعة؛ حيث تم إلغاء دعواتهم وسحب جوائزهم بسبب مواقفهم المؤيدة لفلسطين، فيما مارست منصات التواصل الاجتماعي رقابة مشددة على الأصوات المتضامنة.
ثانيًا: الإفلات من العقاب
يُركّز التقرير هنا على عمل المجتمع المدني وسط مناخ يتمكّن فيه مرتكبو الجرائم من تجنُّب المساءلة، بينما تتخذ الدول قراراتها وفقًا لتحالفاتها السياسية بدلًا من المبادئ القانونية. كما تفشل المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن في فرض العدالة بسبب الفيتو والاعتبارات السياسية، مثل إسرائيل التي تجاهلت قرارات محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكاتها في غزة والمستوطنات.
على سبيل المثال أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين، لكن الدول الغربية التي دعمت اعتقال بوتين في عام 2023م تتردد في تنفيذ المذكرات بحق نتنياهو. كما تشنّ إسرائيل حملة ضد المحكمة، تشمل الاختراقات والتشهير.
وفي ظل بعض الجهود الدولية لإقرار معاهدة لمعاقبة الجرائم ضد الإنسانية، تبرز بعض القوى الكبرى، مثل روسيا، التي تريد عرقلة تقدُّمها. وسط ذلك كله يواصل المجتمع المدني الضغط من أجل تطبيق القانون الدولي؛ لأنه البديل الوحيد للفوضى التي تُتيح للأطراف الأكثر قوة وتأثير فرض إرادتهم بلا محاسبة.
ثالثًا: دعوة للرقابة على تجارة الأسلحة
في هذا الإطار يتطرق التقرير إلى مساعي منظمات المجتمع المدني إلى إنهاء تصدير الأسلحة إلى إسرائيل من خلال الضغط القانوني ورفع الدعاوى، مستندة إلى معاهدة تجارة الأسلحة التي تحظر نقل الأسلحة المستخدمة في انتهاكات حقوق الإنسان. رغم دعوات الأمم المتحدة، لا تزال بعض الدول تزود إسرائيل بالسلاح، بينما أوقفت دول مثل بلجيكا وكندا وإسبانيا عمليات التصدير.
ومع ذلك يتزايد الإنفاق العسكري عالميًّا؛ حيث بلغ 2.3 تريليون دولار سنويًّا، وتقود الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا تجارة الأسلحة.
ولا ينتهي الأمر عند هذا فحسب، بل تؤثر تجارة الأسلحة في استمرار النزاعات، مثل دعم الصين وروسيا للهند في تسليح جيش ميانمار، ودعم الإمارات للمتمردين في السودان. ومع أن 116 دولة وقَّعت على معاهدة تجارة الأسلحة، فإن غياب دول رئيسية مثل روسيا والولايات المتحدة يَحُدّ من فعاليتها.
ومما يزيد من تعقيد الأمر: التطورات التكنولوجية التي تجعل القتل أكثر سهولة وفتكًا، على سبيل المثال تستخدم إسرائيل الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف، ما يُوسِّع دائرة الاستهداف ويزيد الضحايا المدنيين. ولا شك أن تسريع عمليات القتل على هذا النحو يطرح تحديات أخلاقية، ويؤكد الحاجة إلى تنظيم دولي فعَّال لمواجهة مخاطر الذكاء الاصطناعي في الحروب.
المحور الثالث:
إفريقيا جنوب الصحراء في تقرير “حالة المجتمع المدني لعام 2025م”
ونقسمها وفقًا للتقرير إلى عددٍ من القضايا والإشكاليّات، نبرزها فيما يلي:
أولًا: إفريقيا في عام التحولات العالمية
في هذا الإطار يشير التقرير إلى عدد من التحولات السياسية التي مرَّت بها إفريقيا خلال 2024م، ومدى تأثير بعضها على مستقبل القارة كالانتخابات؛ حيث شهدت بعض الدول انتقالات سلمية للسلطة، بينما استمر القمع الانتخابي في دول أخرى لضمان بقاء الأنظمة الحاكمة.
ففي بوتسوانا والسنغال -على سبيل المثال- حدثت تغييرات سياسية بسلاسة، ما أظهر قدرة الديمقراطية على الصمود، بينما استخدمت أنظمة سياسية أخرى سبلًا قانونية وأمنية لإحكام قبضتها على الحكم. على سبيل المثال في توجو، مكّنت التعديلات الدستورية الرئيس “فور غناسينغبي” من تمديد حكمه، بينما تم قمع الاحتجاجات واعتقال عدد من المعارضين.
من جهة أخرى، لا يزال الحكم العسكري يمثل شكلًا خاصًّا من أنماط الحكم السلطوي في العديد من الدول الإفريقية. ففي بوركينا فاسو، أجَّل العسكريون المسيطرون على زمام الحكم الانتخابات إلى أجل غير مسمى، معتبرين أنها ليست أولوية، بينما لم تستطع منظمات المجتمع المدني، التي تتعرض لقمع شديد، فعل الكثير حيال ذلك. وفي غينيا لم يختلف الأمر كثيرًا؛ حيث فشل الحكم العسكري أيضًا في الالتزام بموعد آخر للانتقال الديمقراطي مع بداية عام 2025م، مما أدى إلى احتجاجات قُوبلت بالقمع.
وفي مالي، حيث يسيطر العسكريون كذلك على الحكم منذ عام 2021م، تم تأجيل الانتخابات مرة أخرى، إضافة إلى تعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس الحالي، بما في ذلك تعزيز السيطرة على الحياة السياسية من خلال تعليق جميع أنشطة الأحزاب والمجتمع المدني، مع مواجهة عدد من الانتقادات الدولية إزاء تعميق العلاقات مع روسيا.
أما في تشاد، فقد أُجريت الانتخابات فقط لمنح الشرعية الشكلية للحكم السلطوي في البلاد. وفي سياق يشهد قيودًا صارمة على الحريات المدنية وانعدام التنافسية، كان فوز محمد إدريس ديبي متوقعًا، بعد أن تولى السلطة في انقلاب عسكري عام 2021م عقب مقتل والده. كما قُتل أبرز منافسيه في ظروف غامضة قبل الانتخابات.
وفي رواندا، تُستخدم الانتخابات أداة لإخفاء الممارسات السلطوية، مع غياب أي مساحة للمعارضة. ولا يزال الرئيس بول كاجامي يحظى بدعم داخلي كبير، لكنه يزيد من القمع ضد منتقديه؛ حيث يواجه المعارضون تهديدات تتراوح بين التجريم والمضايقات وحتى النفي القسري. وحتى المنفى لا يضمن الأمان؛ إذ يتعرض المعارضون لخطر الاغتيال أو الإعادة القسرية إلى رواندا. وسط هذه الأجواء أجريت الانتخابات العامة في يوليو 2024م في ظل قمع ممنهج للمجتمع المدني، ما أدى إلى مزاعم واسعة النطاق بالتزوير.
كما شابت الانتخابات في دول إفريقية أخرى مزاعم بالتزوير، مثل جزر القمر، وموريتانيا، وموزمبيق، وفي الأخيرة، قُوبلت الاحتجاجات التي اندلعت بعد الانتخابات بعنف مميت من قِبَل قوات الأمن.
ثانيًا: ثُنائية الأزمات الاقتصادية والاستقرار السياسي
ينقلنا التقرير هنا إلى ما تشهده إفريقيا من حركات احتجاجية يقودها الشباب، مدفوعة بتدهور الأوضاع الاقتصادية وزيادة تكاليف المعيشة. بدأت هذه الاحتجاجات في كينيا بسبب خطط زيادة الضرائب، لكنها استمرت حتى بعد تراجع الحكومة، وامتدت إلى دول أخرى مثل غانا ونيجيريا وأوغندا؛ حيث يعاني الشباب من البطالة وانعدام الفرص الاقتصادية. وغالبًا ما تُقابَل هذه الاحتجاجات بقمعٍ عنيفٍ، يشمل استخدام القوة المفرطة والاختطاف من قِبَل أجهزة الأمن.
في هذا السياق تلعب المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، دورًا رئيسيًّا في تفاقم الأوضاع الاقتصادية ببعض من هذه البلاد، من خلال فرض سياسات تقشفية تشمل رفع الضرائب، وتقليص الإنفاق العام، وخصخصة الخدمات، ما يزيد من معاناة المواطنين هناك. على سبيل المثال، كان سبب الاحتجاجات في كينيا قرارات اقتصادية مدعومة من صندوق النقد الدولي، بينما قامت نيجيريا بإلغاء دعم الوقود وخفض قيمة عملتها بناءً على توصيات البنك الدولي، مما أدَّى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة السخط الشعبي.
ثالثًا: التغيُّر المناخي والتدهور البيئي
يركز التقرير هنا على التأثيرات البيئية والمناخية التي يعمل خلالها المجتمع المدني؛ حيث يشير إلى أنه بسبب النمو الاقتصادي المدفوع بالوقود الأحفوري، شهد عام 2024م تسجيل أعلى درجات الحرارة على الإطلاق؛ حيث تجاوزت درجات الحرارة العالمية لأول مرة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهو الحد الذي حددته اتفاقية باريس لعام 2015م لتجنُّب أسوأ آثار تغيُّر المناخ.
كما شهد العام أحداثًا مناخية قاسية، من موجات حر إلى فيضانات، وكان للتغيرات المناخية تأثيرات مباشرة مثل التضخم المرتبط بالمناخ وارتفاع معدلات الهجرة.
وفي إفريقيا جنوب الصحراء، يواجه المدافعون عن البيئة مخاطر متزايدة، بدءًا من تجريم الاحتجاجات السلمية إلى الاعتقال التعسفي والعنف. وفي أوغندا على وجه التحديد، يواجه الناشطون المعارضون لمشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا قمعًا حكوميًّا مستمرًّا؛ حيث تم اعتقال 11 ناشطًا في مايو ويونيو من عام 2024م، كما تعرضوا للترهيب للحد من أنشطتهم.
وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، تمكن نشطاء المناخ في أكتوبر 2024م من تحقيق انتصار مهم عبر الضغط لإيقاف مزاد مثير للجدل لمنح تراخيص للنفط والغاز تُهدِّد مخزنين رئيسيين للكربون، ويواصل النشطاء الدفع نحو إلغائه نهائيًّا.
وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن المجتمع المدني في إفريقيا مستمر في الضغط من خلال الاحتجاجات، والدعاوى القضائية، والتوعية الإعلامية لمحاسبة الشركات والفواعل الكبرى، والسعي لتحقيق العدالة المناخية.
رابعًا: النازحون واللاجئون… الإنسانية في مواجهة العداء
فيما يتعلق بالتكاليف الإنسانية للصراعات المختلفة، شهدت إفريقيا جنوب الصحراء تصاعدًا كبيرًا في أعداد النازحين واللاجئين بين النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي والكوارث الطبيعية. على سبيل المثال سجل السودان أعلى عدد من النازحين داخليًّا في بلد واحد بسبب الحرب الدائرة هناك، والتي تسببت في نزوح حوالي 11 مليون شخص، فيما لجأ كثيرون إلى دول مجاورة مثل تشاد وجنوب السودان التي تعاني أصلًا من أزمات إنسانية حادة.
من جهة أخرى، أدى استمرار العنف في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى نزوح أكثر من مليوني شخص داخليًّا في ظل تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في البلاد.
وفي منطقة الساحل، تفاقمت الأزمة حيث تتزايد هجمات الجماعات المسلحة الناشطة بالمنطقة، ما أدى إلى نزوح ملايين السكان خاصة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر. بالإضافة إلى ذلك، تصاعدت التوترات في الكاميرون بسبب النزاع بين الحكومة والانفصاليين الناطقين بالإنجليزية، ما أسفر عن موجات جديدة من النزوح الداخلي وتوجّه بعض اللاجئين إلى نيجيريا وتشاد.
في ظل هذه الصراعات والأجواء المشحونة، تواجه منظمات المجتمع المدني تحديات متزايدة في تقديم المساعدات الإنسانية وحماية حقوق المهاجرين واللاجئين؛ حيث تتبنَّى العديد من الحكومات سياسات متشددة تجاه اللاجئين والمهاجرين خاصةً في دول العبور مثل تونس التي شدَّدت إجراءاتها ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بضَغْط من الاتحاد الأوروبي.
خامسًا: أزمة الحوكمة العالمية
يشير التقرير في القسم الأخير إلى أن أزمة الحوكمة العالمية تُؤثّر بشدة على إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث تفشل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة في معالجة انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة، كما هو الحال في السودان.
كذلك يعاني مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من عضوية دول ذات سجل حقوقي مثير للجدل مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا، ما يثير تساؤلات حول فعاليته. كما أن نقص التمويل يؤثر على قدرة الأمم المتحدة في التحقيق ببعض الأزمات الإنسانية، مثل مهمة تقصي الحقائق في السودان؛ حيث عيّن المجلس بعثة لتقصي الحقائق، لكنَّ نقص التمويل حدَّ من فعاليتها.
من ناحية أخرى، لعب المجتمع المدني دورًا في محاولة التأثير على الإصلاحات المتعلقة بمنظومة الحوكمة العالمية، كما ظهر في مؤتمر عُقد في نيروبي بكينيا (2024م)، بمبادرة أطلقتها الأمم المتحدة بهدف تعزيز التعاون الدولي وإصلاح الحوكمة العالمية. بحسب التقرير، كان المؤتمر فرصة للمجتمع المدني للمشاركة في مناقشة هذه الإصلاحات، لكن العملية لم تكن شاملة بما يكفي؛ حيث لم تستشر العديد من الحكومات منظمات المجتمع المدني بشكل مباشر، بل إن بعضها جادل بعدم ضرورة إشراكها.
بناء على ذلك، يُشير التقرير إلى ضرورة تعزيز الانتخابات التنافسية في مجلس حقوق الإنسان وإصلاح هيكل النظام الدولي بما يضمن تمثيلًا أكثر عدالة لإفريقيا جنوب الصحراء في منظومة الحوكمة العالمية.
خاتمة:
إجمالًا، يُعَدّ تقرير حالة المجتمع المدني لعام 2025م الصادر عن منظمة سيفيكس مرجعًا تحليليًّا مهمًّا لتقييم الأوضاع التي يعمل بها المجتمع المدني عالميًّا، مع تركيز واضح على التحديات المتفاقمة في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء.
ولعل أبرز ما يميز التقرير شموليته؛ إذ يستند إلى أكثر من 300 مقابلة و80 تحليلًا من أكثر من 120 دولة، كما ذكرنا أعلاه، ما يمنحه اتساعًا في الرؤية وعمقًا في التغطية. كما يُحسب له تسليطه الضوء على السياق الإفريقي، مثل حالة الحريات السياسية، وتطور أو تراجع بعض الصراعات، والتحديات المتعلقة بالأمن الغذائي والمناخي، موضحًا في الوقت نفسه الدور الحيوي الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني.
إلا أن التقرير لا يخلو من بعض أوجه القصور، من بينها التعميم في بعض المواضع؛ حيث تُطرح التحديات وكأنها متشابهة بين جميع دول إفريقيا جنوب الصحراء دون إفراد مساحات كافية للتباينات الواضحة من دولة لأخرى. رغم ذلك، يقدّم التقرير توصيات مهمة تعزز من قيمة المجتمع المدني كفاعل مستقل، داعيًا إلى إعادة التفكير في منظومة الحوكمة العالمية وإعطاء أولوية لنهج أكثر شمولًا وعدالة.
ختامًا، يضع التقرير المجتمع الدولي أمام مسؤولياته في حماية الفضاء العام، ويؤكد أن دعم المجتمع المدني في إفريقيا جنوب الصحراء لم يعد ترفًا، بل ضرورة لمواجهة التراجع الديمقراطي ومظاهر القمع التي باتت سمة المرحلة. ومِن ثَم، فإن التقرير لا يُقرأ بوصفه سجلًا لوضع قائم فحسب، بل كأداة وتحفيز للتغيير وصيحة تنبيه بضرورة التحرك العاجل للحفاظ على ما تبقَّى من المساحات المدنية على المستويات الثلاثة (الوطنية والإقليمية والعالمية).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات:
1- مصدر تقرير حالة المجتمع المدني العالمي في نسخته الإنجليزية لعام 2025م:
CIVICUS State of Civil Society Report 2025, Mar 20, 2025, On: https://reliefweb.int/report/world/civicus-state-civil-society-report-2025
2- للاطلاع على موقع إفريقيا جنوب الصحراء في تقرير حالة المجتمع المدني العالمي لعام 2024م، انظر:
نِهاد محمود، قراءة تحليلية لموقع إفريقيا جنوب الصحراء في مؤشر حالة المجتمع المدني العالمي لعام 2024م، قراءات إفريقية، 22 أغسطس، 2024م، متاح على الرابط: https://2u.pw/gf9MpFt23