عصام زيدان
باحث في الشؤون السياسيَّة
الإعلام قادر على صنع المعجزات..
فهو قد يُضخّم ظاهرةً ما لأغراضٍ، ويطير بها في الآفاق؛ لتصبح محور الاهتمام ومجال التركيز, ومِن ثَمَّ يطبع صورة ذهنية ما عن المستهدَف سواء كان دولةً أو منظمةً أو حتى شخصًا ما.
وهو ذاته الإعلام الذي قد يغضّ الطرف عن أحداث أخرى؛ لأغراض ما، ويتسبَّب في موت حادثة مضيئة أو موقف إيجابي في دولة أو منظمة أو لشخص ما, ومِنْ ثَمَّ يتم صناعة صورة ذهنية أو الإبقاء على تصوُّر ذهنيّ ما عن هذا الكيان.
ومن يملك الإعلام يملك العقول..
فوسائل الإعلام هي مالكة العقول, ومَن يتحكّم فيها يستطيع السيطرة على العقول وتوجيهها حسب مصالحه المادية أو الأيديولوجية, أو هما معًا, ومَن يتصوّر أن وسائل الإعلام من سماتها الحيادية فهو يتغافل عن حقيقة واقعة أنه لا حياد, ولكنه فقط تظاهر بالحياد.
ولا ريب أنَّ اليد العليا في الإعلام, لا سيما العالمي هي من نصيب الدولة الغربية، فهي التي تستحوذ على مجال صناعة الخبر عالميًّا وبثّه على نطاق عالميّ, بينما إفريقيا ما زالت مادة خبرية دسمة لهذه الوسائل, كما أنها لا تكاد تخرج من حيّز تلقّي الأخبار.
هذه المفارقة التي ليست مفاجأة ولا مدهشة على كل حال, جعلت الإعلام الغربي يصنع الصورة الذهنية عن دول القارة ويروّج لها, من خلال التركيز على كل الأخبار والمشاهد السلبية, بينما الأخبار والمشاهد الإيجابية, يتم تجنُّبها أو تناولها على استحياء.
ولنأخذ مثالاً على ذلك من جمهورية بتسوانا…
فقبل أشهر نفقت مئات الفيلة في هذه الدولة الحبيسة الواقعة في جنوب القارة الإفريقية, فخرجت مونت كارلو الدولية بعنوان (“مذبحة غير مسبوقة”: العثور على مئات الفيلة مقتولة بشكل غامض في بوتسوانا), وجاء المحتوى مصحوبًا بفيديو وصور، واصفًا ما حدث بأنه “كارثة على الأنواع الحيّة”.
صحيفة الجارديان البريطانية تناولت أيضًا في تقرير لها نفوق الفيلة في بتسوانا, وتبعتها قناة الحرة الأمريكية, وروسيا اليوم، وهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”؛ التي وصفت نفوق مئات الفيلة في بوتسوانا بأنه حادث “غير مسبوق”.
وهكذا اجتمعت كبريات الصحف ووكالات الأنباء الغربية على متابعة الحادثة وتغطيتها بتقارير مصورة، مع استضافة علماء يُدْلُون برأيهم في الحادثة، ويُسْهِبُون في ذِكْر سيناريوهات محتملة لعملية النفوق.
ولا جدال في أن الحادثة مهمة, وتُشكّل مادة خبرية وإعلامية دسمة, وأنَّ تغطيتها واجب مهنيّ وأخلاقي, ولكنَّ تركيز هذه الصحف والوكالات على الحادثة وإغفال ما عداها من أخبار إيجابية وأكثر أهميةً يثير العديد من علامات الاستفهام.
فعلى سبيل المثال, أعلنت جامعة بتسوانا الدولية للعلوم والتكنولوجيا (BIUST) عن مشروعها لتدشين أول قمر صناعي (سات-1) في تاريخ البلاد، ومن شأنه أن يدفع بتسوانا للانضمام إلى رَكْب الدول الأخرى المشاركة في تكنولوجيا الفضاء، ويعكس سعي البلاد لإيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي واجهتها، وسيضعها بين عدد قليل من البلدان الإفريقية التي تمكَّنت من إطلاق قمر صناعي واحد على الأقل إلى الفضاء, وسيعزز تطلعات رؤية بتسوانا لعام 2036م في عمليات الرصد الأرضي وتدقيق بيانات الزراعة الذكية والسياحة الافتراضية، فضلاً عن التنبؤ بمواعيد الحصاد من خلال استخدام الروبوتات والتكنولوجيا الآلية.
كما تُخطّط بتسوانا للقيام بتحول رقميّ كامل، واستغلال الأسواق الإقليميَّة في إفريقيا، لتقديم خدمات ومنتجات رقمية، قبل انتقالها إلى السوق العالمي، وهو ما يدفع بالبلاد على درب الاقتصاد المبنيّ على المعرفة, واغتنام الفرصة لاحتلال صدارة القارة، عبر تسريع تحوّلها الرقمي، ونقل صناعاتها إلى النظام الرقمي.
وكانت بتسوانا قد اعتمدت، في 2020م، استراتيجية رقمنة أُطلق عليها “سمارتبوتس”، يُؤمّل منها تحسين جودة حياة الأفراد، وزيادة فرص الأعمال للقطاع الخاص، وإتاحة نموذج حوكمة يعتمد على التكنولوجيا في تلبية احتياجات المواطنين.
وعلى المستوى الاقتصادي؛ كانت بتسوانا أحد أشد البلدان فقرًا في إفريقيا مع ناتج محلي إجمالي للفرد الواحد يبلغ 70 دولارًا أمريكيًّا عند الاستقلال عن بريطانيا عام 1966م.
وفي العقود الأربعة التي تلت الاستقلال، نقلت بتسوانا نفسها إلى صفوف متوسطي الدخل لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم؛ حيث يصل متوسط معدل النمو السنوي حوالي 9%.
وحسب التقديرات؛ تمتلك بتسوانا رابع أعلى إجمالي من الدخل القوميّ في تعادل القدرة الشرائية في إفريقيا، مما يمنحها مستوى معيشة يقارب نظيره في المكسيك وتركيا.
هذه النماذج المضيئة في مسيرة بوتسوانا –كمثال- لا تجد لها صدًى في وسائل الإعلام الغربية ولا وكالات الأنباء الأجنبية, بل يتم تناقلها في إطار الصحف المحلية أو الوكالات المعنية بالشأن الإفريقي فقط, ولا تكاد تتعداها, مما يعني أننا أمام صورة إعلامية انتقائية متحيّزة ضد القارة الإفريقية التي يُراد لها أن تبقَى دائمًا كـ”أرض الظلمات, ومولّدة الكوارث, ومُنتجة الأزمات!”.