مثَّل بزوغ فجر اليوم الأول من عام 2021م لحظةً فاصلةً في تاريخ التكتلات الاقتصاديَّة العالميَّة؛ ليس فقط لأنه اليوم الذي أُعْلِنَ فيه خروج المملكة المتحدة من عباءة الاتحاد الأوروبي، ولكنْ لأنه يعبّر عن بداية ظهور إفريقيا الأخرى التي كان يحلم بها الآباء المؤسسون؛ أمثال: نكروما، وسيكوتوروي، وناصر، ونيريري.
بعد سنوات من العمل والمناقشات والتأجيل بسبب جائحة كوفيد-19؛ دخلت منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة حَيِّز التنفيذ لتصبح أكبر منطقة تجارة حرَّة في العالم منذ إنشاء منظمة التجارة العالميَّة، وذلك من حيث عدد الدول الأعضاء.
فما هي الآمال بالنسبة لمستقبل التنمية في إفريقيا؟ وهل سيتمكن الأفارقة أخيرًا من تغيير موقعهم الهامشي الموروث في النظام الدولي؟، وما أبرز التحديات؟؛ تلك هي أبرز التساؤلات المصاحبة لهذا الحدث الأبرز في تاريخ المبادرات الإفريقيَّة الجامعة.
من المتوقع أَنْ تُغيِّر الاتفاقية وتُعزِّز بشكلٍ أساسيّ الامكانات الاقتصادية للقارة. إنَّها تمثل يقينًا بداية حقبة جديدة من التجارة البينية الإفريقيَّة، ولا سيما إذا تمكَّنت البلدان الإفريقيَّة من الاستفادة من إمكاناتها الهائلة ومواردها الطبيعيَّة والبشريَّة الوفيرة. لقد وقَّعت جميع الدول الإفريقيَّة -باستثناء إريتريا- على اتفاقية التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة، والتي ستغطِّي سوقًا ضخمًا يتألف من نحو 1.3 مليار شخص، وناتج محلي إجمالي يبلغ نحو 3 تريليونات دولار. وحتى الأول من ديسمبر 2020م كانت 34 دولة إفريقية قد صادقت على الاتفاقية.
ماذا يعني دخول الاتفاقية حيّز التنفيذ؟
أولاً: تعمل منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة بمرور الوقت على إلغاء رسوم الاستيراد على 97٪ من السلع المتداولة في القارة، فضلاً عن معالجة الحواجز غير الجمركية. يعني ذلك إنشاء سوق موحدة للسلع والخدمات، على أمل تعزيز التجارة بين دولها. من المتوقع أن يؤدِّي فتح هذا السوق الضخم إلى تحفيز المزيد من التجارة بين البلدان الإفريقيَّة مع زيادة جاذبية الاستثمار المباشر في إفريقيا بالنسبة لبقية دول العالم.
لقد عانت إفريقيا، تاريخيًّا، من انخفاض معدلات التجارة البينية (الداخلية). ففي عام 2017م، بلغت نسبة الصادرات بين البلدان الإفريقيَّة 16.6٪ من إجمالي الصادرات، مقارنة بـ68٪ في أوروبا، و59٪ في آسيا. في عام 2019م، بلغت نسبة الواردات القادمة من إفريقيا 12٪ فقط من إجمالي واردات إفريقيا. كما وقعت البلدان الإفريقيَّة في شَرَك أن يكون لها مكانٌ متدنٍّ في الاقتصاد العالمي؛ من خلال بيع مواد خام منخفضة القيمة، وشراء سلع مُصنَّعَة عالية القيمة. ولا شك أن اتفاقية التجارة الحُرَّة تسعى إلى تغيير تلك المعادلة لصالح الأفارقة.
ثانيًا: سوف تعمل الاتفاقية على إنشاء اتحاد جمركيّ قاريّ؛ وإلغاء الرسوم الجمركية –كما ذكرنا- على معظم السلع والبضائع داخل إفريقيا؛ وتعمل على تسهيل حركة رؤوس الأموال والأشخاص بين البلدان الإفريقيَّة؛ وتزيد من جاذبية الاستثمار الخارجيّ. كما تُقلّل من الحواجز غير الجمركية، مثل الوقت الذي تستغرقه البضائع في المرور عبر الجمارك. كما تتمتع منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة بإمكانية زيادة التجارة البينية الإفريقيَّة بأكثر من 50٪، وفقًا للّجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، في حين يشير البنك الدولي إلى أن الاتفاقية قد تعني وجود دخل إضافي قدره 76 مليار دولار لبقية دول العالم.
ثالثًا: من المتوقع أن يؤدّي التحوّل الهيكليّ في بنية التجارة الإفريقيَّة إلى زيادة نُمُوّ الصادرات من السِّلَع والخدمات الأكثر تعقيدًا. ولا شك أن نموّ الصادرات، ولا سيما في القطاعات كثيفة العمالة، سوف يؤدي إلى خَلْق فرص عمل جديدة. كل ذلك يسهم في خَلْق طبقة وسطى إفريقيَّة أكبر حجمًا بما يعنيه ذلك من زيادة الاستهلاك، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الإنتاج وارتفاع معدلات الدخل الفردي والوطني.
ومن الناحية النظرية تُظهر البيانات أن التجارة بين البلدان الإفريقيَّة تشتمل على حصة أعلى من السلع المصنَّعة، يمكن أن تؤدّي تلبية الطلب المحليّ عليها إلى تغيير مكانة البلدان الإفريقيَّة بشكل أفضل في سلاسل القيمة العالمية. لهذا، يجب على البلدان الإفريقيَّة أن تجد إجابات للعديد من الأسئلة بما في ذلك زيادة الإنتاج والعمل على خفض تكاليف النقل.
الموروث الاستعماري والحاجة إلى الإصلاح:
ومع ذلك، لتحقيق هذه الإمكانات والآمال، يجب على البلدان الإفريقيَّة أن تنفّذ بجدية إصلاحات هيكلية وسياسية إضافية لتعزيز السلام والأمن على المدى الطويل، وأن تقوم بمعالجة القيود المتعلقة بالعرض، وأن تعمل كذلك على تعويض التكاليف المالية قصيرة الأجل؛ لتهيئة القارة لتبنّي مشروع تكامل تجاريّ مربح للجميع.
في السبعينيات من القرن الماضي، كانت أوروبا تُمثّل الوجهة الرئيسية للسلع الإفريقيَّة؛ حيث تلقَّت أكثر من 60% من إجمالي صادرات القارة. وعلى الرغم من زيادة معدلات التجارة البينية داخل القارة الإفريقيَّة في السنوات الأخيرة، لا تزال إفريقيا تتاجر مع بقية دول العالم أكثر مما تتاجر مع نفسها، وهو ما يجعلها تحتل مكانة متدنية من حيث التجارة البينية مقارنة بالمناطق الأخرى في العالم. ولا يخفى أن هذا الارتباط الخاص بالتجارة الإفريقيَّة بوجهات عالمية محددة يعكس -ولو جزئيًّا- الآثار المتراكمة لحقبة الاقتصاد الاستعماري، الذي عرقل التجارة البينية بين المستعمرات الإفريقيَّة، وعزَّز بشكلٍ حصريّ التجارة الرأسية بين المستعمرات والقوى الاستعمارية الأوربية في الشمال المتقدّم.
لقد أدَّى تكريس هذه الروابط التاريخية والاستعمارية في مرحلة ما بعد الاستعمار، إلى ارتباط النمو الاقتصادي الإفريقي لفترة طويلة بدورات الأعمال والتجارة في أوروبا. لم يكن مستغربًا أن يقول البعض: إنه “عندما تعطس أوروبا من غبار الركود، تُصَاب إفريقيا ببرد اقتصاديّ”.
وعلى الرغم من اختلاف أنماط التجارة الاستعمارية القديمة فإنها تتباين من حيث المناطق الفرعية في إفريقيا. على سبيل المثال لا تزال الروابط الاستعمارية القديمة التي تربط البلدان الإفريقيَّة بشركائها التجاريين التاريخيين في أوروبا قوية للغاية مع بعض الأقاليم، وخاصة اتحاد المغرب العربي وتجمع دول الساحل والصحراء. وطبقًا لدراسة نُشِرَتْ مؤخرًا، حصلت دول اتحاد المغرب العربي، في عام 2018م، على حوالي 56% من إجمالي وارداتها من السلع من أوروبا، وحوالي 5% فقط من إفريقيا. وبالمثل، استوردت البلدان الأعضاء في تجمع دول الساحل والصحراء أكثر من 34% من إجمالي واردات السلع من أوروبا، وحوالي 7% فقط من بقية القارة خلال نفس الفترة.
وإذا نظرنا إلى المستوى القارّيّ، لوجدنا تناقصًا في حجم تدفقات التجارة بين إفريقيا وشركائها التاريخيين بسبب تسارع خُطَى العولمة وفرص النمو الناشئة، ووجود ممرَّات تجارية جديدة في دول الجنوب الصاعدة. فقد أدَّت هذه الفرص التجارية الجديدة إلى زعزعة بنية التجارة في فترة ما بعد الاستعمار، ووسَّعت المشهد الجغرافي ووجهات التجارة الإفريقيَّة، خاصةً بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001م. وبعد حوالي عقد من الزمان، أصبحت الصين محرّكًا رئيسيًّا للنمو والتجارة العالمية. ومنذ عام 2009م، أصبحت الصين أكبر شريك تجاريّ لإفريقيا. كما أدَّى صعود الصين السريع إلى تسريع نموّ التجارة بين دول الجنوب وإفريقيا.
تحديات وعقبات:
تهدف خطة منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة إلى تعزيز التجارة بين البلدان الإفريقيَّة بنسبة 60% بحلول عام 2034م؛ من خلال إلغاء جميع التعريفات تقريبًا، وإنشاء كتلة اقتصادية تبلغ 3.4 تريليون دولار. إذا تم تنفيذ الاتفاقية بالكامل، فسوف تنتشل 30 مليون إفريقي من الفقر المدقع و70 مليونًا من الفقر المعتدل، وفقًا لتقديرات البنك الدولي. ومع ذلك لا تزال هناك تحديات وعقبات كبرى. لا تزال الدول الإفريقيَّة على خلاف مع بعضها البعض فيما يتعلق بفتح الحدود. كما أن المفاوضات التجارية معقَّدة بشكل لا يُصَدَّق؛ لأن كلّ خطّ تعريفة جمركية في حالة واحدة يحتاج إلى التفاوض والاتفاق عليه.
أحد التحديات الكبرى تتمثل في تكاليف النقل؛ إذ لم تكن التعريفات الجمركية هي السبب الوحيد لانخفاض التجارة بين البلدان الإفريقيَّة؛ حيث مارست الحواجز غير الجمركية مثل تكاليف النقل دورًا مهمًّا.
أدركت المحادثات حول تنفيذ اتفاقية التجارة الحُرَّة الحاجة إلى مزيد من الاستثمار في البنية التحتية للنقل لتسهيل التجارة. على الرغم من النظر في العديد من الخيارات، لا تزال تكاليف النقل المرتفعة تُشكّل تهديدًا للقدرة التنافسية التسعيرية للصادرات بين البلدان الإفريقيَّة، ولا سيما في السياق عبر الإقليمي. وسيكون هناك العديد من الحواجز الأخرى أمام التجارة بما في ذلك العجز في البنية التحتية الصلبة وغير المادية، ومتطلبات الاعتماد، والروتين البيروقراطي، والسعي وراء الريع مِن قِبَل المسؤولين الحكوميين.
وسوف تحتاج البلدان الإفريقيَّة إلى العمل معًا لإيجاد حلول دائمة لهذه المشاكل. وبشكل أكثر تحديدًا، لكي تعمل السياسات الصناعية لصالح منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة وليس ضدها، فقد يتعين تنسيقها على المستوى القاري.
وبخلاف ذلك، يمكن أن تركّز معظم البلدان الإفريقيَّة على سِلَع وخدمات مماثلة، وتقتصر مرة أخرى على أسواقها المحلية. وهناك قضايا أخرى يجب حلّها؛ مثل: كيفية التوفيق بين الاتفاقيات التجارية الحالية أو المستقبلية بين إفريقيا ككل أو الدول الإفريقيَّة بشكل منفرد وبين أوروبا والصين والولايات المتحدة.
خاتمة:
يمكن وصف اتفاقية التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة باعتبارها عاملَ تغيير اقتصاديّ مهمًّا في عمليات العولمة الراهنة؛ إذ تهدف أكبر منطقة تجارة حرَّة في العالم منذ أكثر من 70 عامًا إلى تحقيق التكامل القارّيّ وتجاوز الحدود الاستعمارية التي تم تحديدها خلال مؤتمر برلين في القرن التاسع عشر.
إن وُفُورات الحجم ومكاسب التنافسية المرتبطة بالإصلاح يمكن أن تُسرّع من عملية التصنيع في إفريقيا وتؤدي إلى تنويع مصادر نموّها، مما قد يرفع مستويات المعيشة لأبنائها بصورة تقارب تلك الموجودة في البلدان ذات الدخل المرتفع. ومن المتوقع أيضًا أن تُعزّز الاتفاقية التجارة بين البلدان الإفريقيَّة وخارجها.
وتشير معظم النماذج التجريبية إلى أن هذه الزيادات من شأنها أن تُعزّز بعضها البعض؛ لأن السِّلع المصنَّعة تُمثّل نصيب الأسد من التجارة بين البلدان الإفريقيَّة. وتظهر التقديرات الأولية كذلك أن المكاسب المهمة الأخرى المحتملة للإصلاح ستكون تعزيز القوة التفاوضية لإفريقيا في مفاوضات التجارة الدولية، والزيادة المستدامة في حصتها من التجارة العالمية، وتحفيز نموّ سلاسل القيمة الإقليمية ودَمْجها في سلاسل القيمة العالمية. ومن شأن هذه المكاسب أن تُعزّز اندماج القارة في الاقتصاد العالمي؛ حيث تهيمن على التجارة إلى حدّ كبير السلع المصنعة ذات المحتوى التكنولوجي.
ومع ذلك؛ هناك العديد من التحديات المرتبطة بالجهود الجارية لتعميق التكامل الاقتصادي من خلال إلغاء التعريفات والتحرير التدريجي للتجارة، ومن أبرز تلك التحديات: عجز البنية التحتية، وإضفاء الطابع الأمني على التنمية، وتمويل التجارة والتنمية الإفريقيَّة، ووجود الحواجز غير الجمركية التي يمكن أن تقلل من المكاسب الإجمالية.
وعلى أيّ حال ستصبح هذه التحديات أكثر وضوحًا خلال مرحلة تنفيذ منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة. فهل يمكن لإفريقيا أن تصبح قاطرة للتعاون متعدّد الأطراف في عالمٍ يزداد انقسامًا؟ وهل تستطيع منطقة التجارة الحُرَّة القَارِّيَّة الإفريقيَّة تحقيق حُلْم إفريقيا الأخرى التي نحلم بها؟