على خلفية تخفيض المساعدات التنموية لإفريقيا وقيام الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بتفكيك برنامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتجميد الأموال المخصصة لإفريقيا؛ تتبادر إلى الأذهان العديد من التساؤلات حول مستقبل القارة السمراء في ظل الإدارة الأمريكية الحالية وسياستها التقشفية؛ حيث تدعو التنزانية د. فراني لوتييه/ Dr. Frannie Léautier، النائبة السابقة لمدير البنك الدولي، إلى إعادة التفكير في مستقبل القارة؛ حيث أجرت مجلة دير شبيجل الألمانية “Der Spiegel” حوارًا مع “لوتييه” التي تشغل حاليًّا منصب الرئيس التنفيذي والشريك الرئيسي لشركة الاستشارات SouthBridge Group، التي تقدّم المشورة للمنظمات والشركات والحكومات، خاصةً، في الجنوب العالمي، وجاء نص الحوار كالتالي:
أجرى الحوار: هاينر هوفمان
ترجمة: شيرين ماهر
– بعد أن جمّد ترامب الأموال المخصصة لبرنامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، سادت صرخة استنكار عارمة في مختلف أنحاء إفريقيا. ومن ناحية أخرى، سأل الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا: “لماذا تشكون؟ إنها ليست حكومتكم. إذن ماذا كُنتم تتوقعون؟” فهل كان مُحقًّا؟
– لا بد أن تُحقِّق القارة استقلالًا نسبيًّا عن المساعدات الخارجية، وخاصةً في القطاعات الحيوية؛ إذ سيظل الاعتماد على القطاع الصحي محفوفًا بالمخاطر. فقد شهدت العديد من البلدان الآن تلاشي ميزانياتها المخصَّصة لفيروس نقص المناعة البشرية والإيدز وصحة الأم والطفل بين عشية وضحاها تقريبًا؛ لكونها مُموَّلة بالكامل من جانب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ومع الأسف لم تخضع خطط الطوارئ للاختبارات بشكلٍ كافٍ. ومِن ثَم، ربما كانت أرواح الناس ثمنًا لذلك الآن. لذلك فقد حان الوقت لتغطية مثل هذه النفقات الأساسية وحدها باستقلالية تامة، دون مساعدات أجنبية. وسيتعين على الحكومات أن تجد مصادر أخرى بديلة للتمويل.
– ولكن هذا الأمر لن يكون سهلًا؟
في الأمد القريب، لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال أنظمة ضريبية أفضل وأكثر فاعلية. ومع ذلك، ربما استطاع العديد من الشباب الأفارقة بالكاد تحمُّل أعباء وتكاليف الضرائب المتزايدة التي تُفرَض عليهم. وقد أدَّى ذلك بالفعل إلى عدم الاستقرار في بعض البلدان مثل كينيا. لذا يتعين علينا إيجاد طُرق أخرى لزيادة الميزانية على نحو أسرع. وهناك طرق للقيام بذلك، من بينها: زيادة عدد دافعي الضرائب وتعزيز القطاع غير الرسمي.
– لقد نُوقش ذلك الأمر على مدار عقود؟
لقد أحرزت العديد من البلدان تقدُّمًا هائلًا بالفعل في هذا الصدد، وأصبحت أقل اعتمادًا بشكل كبير على المساعدات الخارجية. في بلدي الأم، تنزانيا، لا تتجاوز حصة الميزانية التي تُموَّل من الخارج 3.5%. وفي جنوب إفريقيا، تقل هذه النسبة عن 2%. بالإضافة إلى ذلك، هناك الآن العديد من المصادر المحلية لرأس المال في إفريقيا. ففي عام 2024م، ستتجاوز أصول صناديق الثروة السيادية 400 مليار دولار أمريكي. وتدير صناديق التقاعد 2.4 تريليون دولار أمريكي. كما أن احتياطيات العملات الأجنبية في العديد من البلدان الإفريقية ليست سيئة ومناسبة أيضًا.
-ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الأفارقة الذين يعيشون في أوروبا أو الولايات المتحدة؟
يرسل الأفارقة الذين يعملون في الخارج أكثر من 100 مليار دولار أمريكي إلى بلدانهم الأصلية كل عام. وهناك المزيد والمزيد من الاستثمارات الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، تتبنَّى إفريقيا الآن نهجًا أكثر ذكاءً فيما يتعلق بالمساعدات الخارجية. فهناك خطة مارشال التي وضعتها ألمانيا مع بلدان القارة، والتي تركز على قطاعي التصنيع والزراعة. وهذا يخلق قيمة مضافة محليًّا، ويوفر وظائف في قطاع الصناعة.
– الفساد يعوق مسيرة النمو المستدام في العديد من البلدان. ففي كينيا، تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 30 في المائة من الميزانية “تتعرض للإهدار”، فكيف يمكن مكافحة ذلك؟
الحكم الرشيد هو المفتاح بالطبع، ولكن يتعيَّن علينا أيضًا الاعتماد على الابتكار. لقد أنشأ عدد من البلدان آليات رقمية يمكن استخدامها، لتتبُّع مدفوعات المساعدات من الخارج. كما أن جيل الشباب، الذي يتمتع بمهارة كبيرة في مجال التكنولوجيا، يكشف بنجاح عن سوء الإدارة، وكذلك تساعد اللامركزية في السلطة. أما الفساد فهو بمنزلة مشكلة قائمة في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في إفريقيا. فهي طبيعة بشرية، والأمر يتطلب اليقظة المستمرة للسيطرة على مثل هذه المشكلة.
– حتى عام 2020م، كانت العديد من التطورات في القارة واعدة للغاية؛ حيث انخفضت معدلات الفقر وتراجعت مؤشرات الجوع. ثم بعد ذلك جاءت جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. والآن، باتت لا تتحقق العديد من أهداف التنمية في المستقبل المنظور؟
لقد أطاحت صدمة الوباء بالعديد من خطوات التقدُّم، وخاصةً في قطاعي الصحة والصناعة. لقد كان هناك عدد أقل بكثير من الوظائف مما كان متوقعًا. قبيل الجائحة كانت تتوافر قرابة ثلاثة ملايين فرصة عمل في إفريقيا كل عام، وفي الوقت نفسه كان يدخل خمسة عشر مليون شاب سوق العمل سنويًّا. أما الآن فقد أصبحت الفجوة هائلة.
هل كان هناك أيّ تقدُّم على أيّ حال؟
لقد رأت بعض البلدان في الأزمة فرصة؛ فقد زادت التجارة عبر الحدود داخل إفريقيا، وخاصةً في قطاع الأغذية؛ حيث أصبحت الواردات من الخارج صعبة. كما شهد القطاع الصحي بعض التقدم؛ فقد اعتاد العديد من النُّخب السفر جوًّا إلى الهند أو أوروبا أو الولايات المتحدة أو الشرق الأوسط لتلقّي العلاج الطبي. ولكن لم يعد ذلك ممكنًا أثناء الوباء. لذلك اضطرت البلدان إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية في بلدانها. وكان التطور الإيجابي الآخر هو الطفرة التي شهدها القطاع الرقمي في أنظمة الدفع الرقمية، والتي أصبحت قوية للغاية في القارة.
– تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في إفريقيا روايات شعبوية ونظريات مؤامرة حول التعاون الإنمائي والمساعدات من الخارج. كما تُؤجَّج المشاعر المعادية للغرب، والشكوى من الاستعمار الجديد. هل مثل هذه السرديات مثيرة للقلق؟
يجب على الحكومات أن تشرح لسكانها بشفافية كيف يتم استخدام المساعدات من الخارج. ويجب أن تُوضِح لهم أين توجد الفجوات التي يصعب سدّها بجهودنا الخاصة. كقارة، ما زلنا نعتمد على المساعدات من الخارج، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن يمكن تقليصها تدريجيًّا.
– يُعرف ترامب بأنه رجل صفقات يُمثّل المصالح الأمريكية بلا هوادة. ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا، عرض الرئيس الكونغولي “فيليكس تشيسكيدي” على ترامب الوصول إلى الموارد الطبيعية للبلاد في مقابل الدعم في القتال ضد حركة التمرُّد التي احتلت أجزاء كبيرة من شرق الكونغو. هل ستصبح مثل هذه الصفقات أكثر شيوعًا في المستقبل؟
هذا النهج في المعاملات موجود دائمًا. ولكن في الماضي، كان هناك تركيز أكبر على الدبلوماسية، وعلى التوازن السياسي للمصالح. الآن، في عهد ترامب، يتحدث الناس بمزيد من الوضوح ويتفاوضون بمزيد من الشفافية. الأمر أشبه بصفقات القطاع الخاص. وهذا يعني أن إفريقيا يجب أن تكون أكثر ذكاءً وثقةً في نفسها في المفاوضات؛ حتى يتم التوصل في النهاية إلى اتفاقيات تعود بالنفع الحقيقي على الجانبين. يجب ألَّا تَسمح إفريقيا لنفسها أن تكون ضحية للابتزاز.
– عندما أصبح قرار ترامب بحل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية واضحًا للعيان، تدخلت الصين وأعلنت بجرأة: “نحن مستعدون لسد الفجوة”. هل سيكون للجمهورية الشعبية الآن حضور أكبر في إفريقيا؟
لقد رأينا ذلك بالفعل في سبعينيات القرن العشرين. خلال الحرب الباردة، انسحبت الولايات المتحدة من عدد من البلدان، واضطرت هذه البلدان بعد ذلك إلى البحث عن مصادر أخرى للتمويل. ووجَّه العديد منها انتباهها إلى الصين، بنجاح. وقد أدَّى ذلك إلى أن تصبح الصين الآن أكبر مُموّل للبنية التحتية في القارة الإفريقية.
-هل تُشكّل فترة ولاية ترامب الجديدة جرس إنذار للقارة؟
لطالما كان الطلب على تحقيق المزيد من الاستقلال موجودًا بالفعل، وكان يزداد إلحاحًا. إن الصدمات التي نشهدها الآن نتيجة لممارسات ترامب تعمل على تسريع وتيرة التغيير. فلا ينبغي أن يُفاجئنا ذلك. يجب أن نتعلم من الكيفية التي تمكنت بها بلدان أخرى التغلُّب على صدمات مماثلة في الماضي وإيجاد الحلول.
على سبيل المثال، فقدت كينيا جزءًا كبيرًا من مساعداتها الدولية بعد اشتباكات عنيفة خلال الانتخابات في نهاية عام 2007م. وكان لزامًا على البلاد أن تبحث عن مصادر تمويل خاصة بها، وهذا ما فعلته. ثم قامت بجمع الضرائب بكفاءة أكبر، وبالتالي تمكنت من توسيع قاعدتها الضريبية، وتعزيز أسواق رأس المال المحلية وتوسيع التأمين الاجتماعي على مر السنين من أجل تغطية تكاليف الرعاية الصحية بنفسها دون مساعدات خارجية. وهناك الآن حلول أخرى يمكن أن تجلب المال، مثل المنتجات المالية المبتكرة أو تجارة الكربون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط الحوار: