فيما تتوالى القمم الإقليمية التي تستهدف معالجة الأزمة القائمة في شرقي الكونغو في منتصف مارس الجاري دبلوماسيًّا، يبدو أن جمهورية الكونغو الديمقراطية ستشهد في الشهور المقبلة انطلاق حملة جديدة من التكالب الدولي على موارد تلك الدولة الإفريقية الغنية بالمعادن، والتي تستحوذ على احتياطات هائلة من المعادن المستخدَمة في الصناعات التكنولوجية المتقدمة في دول العالم المتقدم.
يتناول المقال الأول الذي نشرته فايننشال تايمز تفاصيل محادثات جارية بين كينشاسا وواشنطن بناء على مقاربة من الأولى للتوصل لاتفاق على استغلال الولايات المتحدة لموارد الكونغو المعدنية؛ مقابل توفيرها مظلة دبلوماسية دولية واستدامة حكم نظام تشيسيكيدي؛ فيما يمكن وصفه بمقايضة النهب مقابل دعم نظام الحكم.
أما المقال الثاني والذي نشرته صحيفة ديلي صباح التركية الذائعة؛ فقد تناول أبعاد عملية نهب المعادن في مقاربة القوى الإقليمية والدولية لأزمة الكونغو، واعتبر المقال -بدقة كبيرة في واقع الأمر- الأزمة مؤشرًا دالًا على طبيعة النظام العالمي وحساباته.
وتناول المقال الثالث جهود دول شرقي إفريقيا وجنوب إفريقيا المستمرة للحيلولة دون مزيد من تمدد الأزمة في شرقي الكونغو إلى دول جوار الكونغو، وكذلك الحيلولة دون مزيد من تدخل الشركات والحكومات الغربية في الأزمة لصالح استدامتها وما يترتب عليه من استدامة نهب موارد الكونغو دون محاسبة دولية تُذْكَر.
محادثات بين الولايات المتحدة والكونغو للتوصل لصفقة معادن([1]):
دخلت الولايات المتحدة في مناقشات استكشافية مع جمهورية الكونغو الديمقراطية بشأن اتفاق محتمل يمنح واشنطن حق الوصول لمعادن هامة في الأخيرة، وجاء ذلك كتطور أخير في سلسلة جهود إدارة ترامب لتامين الوصول إلى موارد خارجية. وقد قدمت جمهورية الكونغو الديمقراطية، الغنية بإمدادات النحاس والكوبالت واليورانيوم، في فبراير الفائت مقترحًا للولايات المتحدة للتوصل لاتفاق يمنحها حقوق استكشاف للمعادن مقابل دعم حكومة الرئيس فليكس تشيسيكيدي، حسبما كشفت وثائق حكومية كونغولية.
ويأمل مسؤولون كونغوليون في توفير صفقة المعادن دعمًا لتشيسيكيدي في ظل معاناته جراء الصراع المسلح في الجزء الشرقي من البلاد؛ حيث يحظى متمردو حركة مارس 23 M23 بدعم من رواندا مكَّنها من الاستيلاء على مناطق شاسعة غنية بالمعادن وأكبر مدينتين في الإقليم وهما جوما وبوكافو. وقد تصاعدت جدية المحادثات مع واشنطن في الأيام الأولى من مارس الجاري وفقًا لمعنيين على معرفة مباشرة بالمحادثات، رغم بقاء بعض العقبات وأن المحادثات لا تزال في مرحلة مبكرة نسبيًّا.
وفي حديث مع فايننشال تايمز أكد الناطق باسم الخارجية الأمريكية أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تتمتع بنصيب كبير من المعادن الهامة عالميًّا والمطلوبة للتكنولوجيات المتقدمة. وإن الولايات المتحدة منفتحة على مناقشة الشراكات في هذا القطاع، والتي تتسق مع أجندة “أمريكا أولًا” التي تتبناها إدارة ترامب. وأضاف أن الشراكات مع الشركات الأمريكية ستقوي الاقتصادين الأمريكي والكونغولي، ويخلق فرص عمل للكفاءات الأكثر مهارة، ويدمج اقتصاد الكونغو في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.
وقد تلقى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو خطابًا من السيناتور الكونغولي بيير كاندا كالامبايي Pierre Kanda Kalambayi في فبراير الفئات يقترح فيه إمكان تقديم جمهورية الكونغو الديمقراطية للشركات الأمريكية حقوق الاستخراج في مشروعات التعدين، والتعاون في تكوير مخزون إستراتيجي للمعادن. ويطلب الخطاب في المقابل الدعم الأمريكي لتدريب وتسليح القوات المسلحة الكونغولية. وفيما لم يتم الكشف عن بنود الصفقة، فإن الاهتمام الذي أظهرته الولايات المتحدة يبرز تركيز إدارة ترامب على الحصول على موارد حول العالم. ويتوقع أن يوفر انخراطًا أمريكيًّا أكبر في جمهورية الكونغو الديمقراطية كقوة وازنة لمواجهة نفوذ الصين والشركات الصينية التي تسيطر على أغلب عمليات التعدين الكبيرة هناك.
ويذكر الخطاب الذي أُرسل لروبيو: “إنه فيما هيمنت الصين تاريخيًّا على سلاسل الإمداد المعدنية في جمهورية الكونغو الديمقراطي؛ فإن التغير السياسي الأخير من الرئيس تشيسيكيدي يمثل فرصة نادرة للولايات المتحدة لإرساء سلسلة إمداد مباشرة وأخلاقية ethical supply chain. ولم تعمل شركات تعدين أمريكية كبرى في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ بيع شركة فريبورت- ماكموران Freeport-McMoRan لحصتها في منجم تينكي فونوروم Tenke Fungurume لاستخراج النحاس في العام 2016م.
وتجري محادثات الصفقة المعدنية في وقت يصبح فيه الوضع السياسي في البلاد هشًّا على نحو متزايد. وقد بدَت سيطرة تشيسيكيدي على السلطة أقل تماسكًا في الأسابيع الأخيرة مع تطلع المناوئين السياسيين له في الكونغو للاستفادة من ميزة ضعفه الراهن حسب رؤيتهم. وقد اتهمت تقارير من محققين أممين رواندا المجاورة باستغلال الصراع في شرقي الكونغو لنهب موارده المعدنية مثل الذهب والكولتان المستخدَم في صناعة الهواتف المحمولة. كما قال مسؤولون أمميون: إن رواندا قد أرسلت عدة آلاف من جنودها على امتداد الحدود مع الكونغو لدعم حركة M23 خلال الجولة الأخيرة من القتال، والتي تصاعدت في يناير 2025م.
وتعليقًا على صفقة المعادن المقترحة قالت تينا سلاما، الناطقة باسم تشيسيكيدي على منصة إكس: إن الرئيس الكونغولي كان قد دعا الولايات المتحدة “التي تشتري شركاتها الموارد الخام الإستراتيجية من رواندا، وهي المواد التي يتم نهبها من جمهورية الكونغو الديمقراطية وتهرب إلى رواندا فيما يتم قتل بني شعبنا، لشرائها مباشرة منا نحن ملاكها الأصلاء”.
الأزمة الإقليمية والتوازن العالمي: صراع الكونغو- رواندا، وM23، والمعادن ([2]) :
يعود التوتر بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا إلى أزمة الإبادة الرواندية في العام 1994م. وقد استولت الحركة الوطنية الرواندية التي يقودها التوتسي على السلطة في رواندا، فيما فرت ميليشيات الهوتو والمتطرفون المسؤولون عن الإبادة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتُعد حركة M23 من أبرز الفاعلين العاملين في أراضي جمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي تدعمها رواندا بحسب اتهامات (مكثفة من أطرف دولية مهمة مثل الأمم المتحدة). وبينما تؤكد أهداف M23 المعلنة رسميًّا على “حماية السكان التوتسي” فإن أنشطة هذه الجماعة ترتبط بشكل كبير بالسيطرة على مناطق التعدين في الجزء الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية. ومثل سقوط مدن مثل جوما، عاصمة شمال كيفو، وبوكافو حقيقة أن الجزء الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية بات عمليًّا تحت سيطرة M23.
صراع القوى في شرق إفريقيا:
لا يقتصر التوتر بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا على هاتين الدولتين؛ بل إنه ثمة شبكة صراع متعددة الأطراف تلعب فيها قوى إقليمية مثل كينيا واوغندا وبوروندي وجنوب إفريقيا وتنزانيا تتورط في هذا الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما تحاول M23 الاستيلاء على الأراضي في شرقي الكونغو فإنها تهدف في الوقت نفسه إلى السيطرة على المعادن القيمة في هذا الإقليم عبر حرب اقتصادية. ومن الجهة الأخرى فإن حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية تهدف لتقوية سلطتها في السياسة المحلية وتحقيق مزيد من الدعم من المجتمع الدولي عبر محاربة M23.
وقد أبرزت تلك الأزمة في الإقليم مخاطر فراغ السلطة الظاهر في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية وإمكان تحوُّل الوضع الحالي فيه إلى حرب إقليمية (مكتملة). وإذا كانت تقارير رفع رواندا مستويات دعمها لحركة M23 دقيقة فإن ذلك سيعمق مخاطر الأمن الإقليمي ويدفع لاعبين آخرين للتدخل بشكل أكثر مباشرة. وبالفعل فإن التورط الأكبر للقوى الإقليمية في هذه العملية يثير تساؤلات حول كيف يمكن للاعبين الدوليين الاستجابة حال تصاعد الصراع. بعبارة أخرى: فإن هذا الإقليم يتّجه لأن يكون منطقة حرب بالوكالة بامتياز.
مصالح القوى العالمية:
تتوفر للأزمة الجارية في الإقليم إمكانية تجسيد مصالح فاعلين دوليين. وستمكن الموارد الاقتصادية، على وجه الخصوص، لاعبين مثل الولايات المتحدة والصين من التدخل بشكل أكبر في الصراع. وبالفعل يتوقع أن تقوي الولايات المتحدة صلاتها مع رواندا من أجل حماية مصالحها الإقليمية. ومن الجهة الأخرى يمكن القول: إن الولايات المتحدة على صلة وطيدة بحكومة جمهورية الكونغو الديمقراطي لموازنة نفوذ الصين في أصولها التعدينية في شرقي الكونغو. على أي حال فإن استدامة هذه السياسة تظل مسألة غير مؤكدة.
ويمثل الانفصال الراهن بين الولايات المتحدة وأوروبا والاختلافات بينهما في الأولويات الاستراتيجية كشفًا دقيقًا لاحتمال تعمق عدم الاستقرار في الإقليم. وتجسيدًا لحالة الاضطراب العالمي فإن الاختلافات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تؤثر على الأزمات الإقليمية. وبالفعل، فإنه يمكن للتدخل المستتر أن يكون متوقعًا وقوعه في الإقليم في المستقبل القريب.
وعند النظر في الفترة السابقة على الانتخابات الأمريكية فإنه يبدو واضحًا أن الدول الغربية كانت تعمل بجدية كبيرة على تحجيم نفوذ الصين الاقتصادي في جمهورية الكونغو الديمقراطية. على أيّ حال فإن التوترات الحالية بين أوروبا والولايات المتحدة تضيف لعدم الاستقرار في تلك الدولة الإفريقية الأكبر مساحة في القارة. ويجعل الانقسام داخل الغرب من الصعوبة بمكان تبني إستراتيجية (غربية) موحدة إزاء الأزمة الجارية في الإقليم. وثمة عامل آخر وهو فرنسا التي يبدو أنها تنتهج سياسة متوازنة في الأزمة بالحفاظ على صلاتها الاقتصادية مع رواندا فيما تحتفظ بعلاقات وثيقة مع جمهورية الكونغو الديمقراطية.
إجمالًا؛ إن ما يحدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية ليس مجرد مسألة محلية تخص دولة بعينها، لكنها مؤشر هام في فهم كيفية عمل النظام العالمي. إن مثل هذه الأزمة العميقة سوف تؤثر على مجالات شتى من الاقتصاد العالمي إلى الدبلوماسية. ومِن ثَم فإن هذه الأزمة مثل دراسة حالة لفهم ديناميات الاقتصاد العالمي ودور القوى الكبرى. وإذا لم يتم اتخاذ الخطوات المناسبة فإن الأزمة ربما تنفتح على عواقب إنسانية واقتصادية سلبية هائلة ليس إقليميًا فحسب ولكن على النطاق العالمي.
قمة إقليمية موسعة حول الكونغو ([3]):
تقرر منتصف مارس الجاري (16-17) عقد قادة أكبر كتلتين اقتصاديتين في شرقي إفريقيا (جماعة شرق إفريقيا) وجنوبي إفريقيا (جماعة التنمية الجنوب إفريقية) للمرة الثانية في الشهر نفسه، في محاولة للتوصل لحل دائم للأزمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. واجتمع وزراء من الكتلتين اللتين تنتمي لهما جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد حاولت الكتلتان استخدام وسائل عسكرية لكنهما لم تنجحا في وضع نهاية للحرب بين متمردي حركة مارس 23 والقوات الكونغولية.
وكانت قمة قادة سادك قد قررت يوم الخميس 13 مارس سحب بعثتها العسكرية في الكونغو بعد عام من الخسائر بما فيها وفيات في صفوف جنودها. وكانت بعثة جماعة شرق إفريقيا EACRF قد أوقفت نشاطها تقريبًا الكونغو منذ ديسمبر 2023 عقب مشكلات تتعلق بالقبول الشعبي لها.
والآن تقول الكتلتان بوجوب دعم حل سياسي للأزمة. وقد استبق اجتماع الأحد 16 مارس اجتماع قادة الدول في الكتلتين في 17 مارس. وانعقد الاجتماعان في العاصمة الزيمبابوية هراري. وقبل القمة المشتركة بين الكتلتين عقدت سادك قمة غير عادية لرؤساء الدول والحكومات في 13 مارس 2025م في سياق افتراضي لمناقشة الوضع الأمني في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتأتي هذه التحركات مع بدء الرئيس الأنجولي جواو لورنسو الذي يتولى قيادة وساطة الاتحاد الإفريقي في الصراع في الكونغو، ودفعه لعقد محادثات مباشرة بين كينشاسا وجماعة مارس 23 المتمردة.
ولفتت الناطقة باسم الرئيس فليكس تشيسيكيدي تينا سلاما إلى أن الرئاسة الكونغولية لم تتلقَ الدعوة (حتى 16 مارس)، لكن تظل المبادرة في جوهرها “مقاربة من قبل الوساطة الأنجولية”، مضيفة أن كينشاسا “تنتظر لرؤية التطبيق”؛ في إشارة إلى تصريحات الرئاسة الأنجولية في وقت سابق بأن وفدين من حكومة الكونغو الديمقراطية وحركة مارس 23 سوف يبدئان محادثات سلام مباشرة في 18 مايو في مدينة لواندا”. وأعلنت الناطقة باسم الرئاسة الكونغولية تطلع بلادها لتطبيق مبادرة أنجولا ملاحظة أنه “ثمة إطار سابق تم تثبيته وهو عملية نيروبي” كما تؤكد كينشاسا التزامها بالقرار 2773. فيما لاحظ مراقبون أنه لم يتم بعد تطبيق أيٍّ من شروط قمة جماعة شارق إفريقيا- سادك الثامنة في دار السلام بعد.
وكانت قمة دار السلام المذكورة قد سعت لجسر هوة الخلافات الإقليمية بجمع جهود الكتلتين معًا. ودعت القمة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وبدء محادثات مباشرة مع حركة M23 وغيرها من الحركات الفاعلة خارج مظلة الدولة، ووضع خطة لفك ارتباط القوات الرواندية في شرقي الكونغو عبر تنسيق الجهود لتحييد حركة “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، وهي جماعة متمردة مكونة بالأساس من المتهمين بارتكاب الإبادة في رواندا في العام 1994 وفروا إلى الكونغو.
كما دعت قمة دار السلام إلى إعادة فتح مطار مدينة جوما الذي استولت عليه حركة M23. ودعت الرئاسة الأنجولية (15 مارس) الأطراف المتصارعة لوقف إطلاق النار قبيل الاجتماع. وأوضحت في بيانها “وجوب أن يشمل وقف إطلاق النار جميع الأعمال العدائية الممكنة ضد السكان المدنيين في المواقع الجديدة لمنطقة الصراع، مع توقع أن تؤدي المبادرة الحالية وغيرها من المبادرات إلى تهيئة جوّ ملائم لبدء محادثات السلام وعقدها في غضون ساعات في لواندا”.
……………………………………………………………
[1] Leslie Hook and William Wallis, US in exploratory talks with DR Congo over mineral deal, Financial Times, March 8, 2025 https://www.ft.com/content/3f638e29-4790-4a10-b5b7-a79f9ef55491
[2] Tunc Demirtas, Regional crisis, global balance: The DRC-Rwanda conflict, M23 and minerals, Daily Sabah, March 14, 2025 https://www.dailysabah.com/opinion/op-ed/regional-crisis-global-balance-the-drc-rwanda-conflict-m23-and-minerals
[3] Leaders schedule another EAC-SADC meeting over Congo crisis, The East African, March 16, 2025 https://www.theeastafrican.co.ke/tea/news/east-africa/leaders-schedule-another-eac-sadc-meeting-over-congo-crisis-4967408