محمد جمال عرفة – باحث مصري
عدة أشهر مرَّت على انقلاب مالي الذي نفَّذه قادةٌ بالجيش في يوم 19 أغسطس 2020م، ولا يزال الوضع على ما هو عليه بلا إصلاحات حقيقية، بل وتزايد التضييق على التيار الإسلامي، بعدما حذَّرت فرنسا الانقلابيين -بخبثٍ- من عدم ترك التيار الإسلامي -الذي قاد الاحتجاجات التي أدَّت للانقلاب المناوئ لفرنسا- يفوز بالسلطة.
لذلك فحتى يتم التوصل إلى اتفاق بشأن استعادة الديمقراطية؛ فإن الموقف يبدو هشًّا، والاستقطاب يتزايد بين الانقلابيين والتيار الإسلامي الذي يقوده الإمام محمود ديكو رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الذي مهَّد الأجواء للتغيير بالاحتجاجات التي قادها ضد الرئيس المخلوع.
فقبل أن يقوم مجموعة من العسكريين بانقلاب عسكري في دولة “مالي” ذات الأغلبية المسلمة (95% مسلمون) يوم 19 أغسطس 2020م، كان الإمام “محمود ديكو” زعيم أبرز التيارات الإسلامية الوسطية المعتدلة يقود المعارضة ضد الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، ويطالب بإسقاط حكمه.
لهذا تساءلت مجلة لوبوان الفرنسية، عقب الانقلاب، عما إذا كانت المكانة المرموقة التي تمكَّن الإمام محمود ديكو من بلوغها في التحرُّك المعارض الحالي الواسع المُطالِب باستقالة الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، كانت سببًا في الانقلاب؟ وهل سيجعله الانقلاب يتقلد زمام الأمور في نهاية المطاف لتسقط الثمرة في حجر الإسلاميين؟([1]).
وقد وعد الجيش بإجراء انتخابات عامَّة، وتشكيل حكومة مدنية انتقالية، وبعد تأخرهم في تقديم البديل الديمقراطي للشعب، وجَّه الإمام محمود ديكو، تحذيرًا واضحًا إلى العسكريين قائلاً: “لن نُقدِّم شيكًا على بياض لأحدٍ لإدارة البلاد، هذا الأمر انتهى”([2]).
ولكن بعد شهرين من الانقلاب والوعود، قام العسكريون 6 أكتوبر 2020م، بتشكيل حكومة مؤقتة؛ قالوا: إنها ستحكم لمدة 18 شهرًا، ضمَّت 4 عسكريين و21 مدنيًّا، وأعلنوا تولّي الكولونيل المتقاعد باه نداو، منصب الرئيس الانتقالي للبلاد، وتعيين قائد الانقلاب الكولونيل أسيمي جويتا نائبًا له، ما طرح تساؤلات حول صدق نواياهم.
ولم تضم الحكومة أو الرئاسة الإمام محمود ديكو رغم أنه زعيم المعارضة في مالي، ولا قوى الاحتجاج التي قادها الإمام مثل “تجمُّع القوى الوطنية”، و”حركة 5 يونيو 2020 M5-RFP“.
وكانت المعارضة المالية الإسلامية، وهي من قوًى سياسية مختلفة، والتي وحَّدها الإمام ديكو، عبَّرت عن ترحيبها بالانقلاب العسكري، معتبرةً أنه “جاء ليكمل كفاحها من أجل رحيل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا”، وأكَّدت أنها “مستعدَّة للتعاون مع اللجنة العسكرية على وضع تصوُّر للمرحلة الانتقالية”، وأنها ستتخذ التدابير اللازمة كلها لوضع خريطة طريق بالتشاور مع الجيش والقوى المؤثرة في البلد، ولكن كان لافتًا أن الإمام ديكو سارع عقب إعلان الحكومة الانتقالية المؤقتة بالقول: “سأبقى في المسجد، ولن أزاول العمل السياسي”([3])، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول دلالات وأسباب هذا الإعلان، وهل هو احتجاج واعتزال بعد استشعاره خطة إبعاد الإسلاميين عن السلطة بدعم فرنسي؟، أم انتظار لانتهاء عُمْر الحكومة الانتقالية واختبار جدية العسكريين في عودة حكم ديمقراطي حقيقي للبلاد؟
فهناك شكوك في جدية العسكريين، ويتوقع خبراء في الشؤون الإفريقية ألا يوفّوا بوعودهم ولو حدث فلا شيء يضمن عدم تكرار ثنائية الانتخابات، ثم انقلاب يعقبها كما حدث في انقلاب 2012م على الديمقراطية، والذي أعقبه انتخابات عام 2013م، ثم انقلاب جديد في 2020م.
وتقول دورية Politics review world ([4]): إن النتيجة المحتمَلة هي أن الجيش سيستمر في السلطة في باماكو طالما رأى ذلك ضروريًّا في الوقت الحالي، لذلك عيَّن عسكريًّا سابقًا ومدنيًّا اسمًا ليكون رئيسًا مؤقتًا، وبقي قادة الانقلاب في السلطة نوّابًا للرئيس، ويسيطرون على المناصب الكبرى في الحكومة، ومن غير المرجح أن تؤدّي هذه الخطوات إلى تغيير ذي مغزى، ويمكن للدورة نفسها التي ابتُلِيَتْ بها مالي في الماضي أن تتكرر؛ أي: انتخابات يعقبها عزلٌ، يليها انقلاب آخر، وهكذا.
هل الانقلاب لإجهاض صعود الإسلاميين؟
هناك فارق بين التيار الإسلامي الوسطي في مالي الذي يتزعمه قادة معتدلون مثل الإمام ديكو، ومَن يُطلق عليهم الإعلام الغربي أيضًا وصف “الإسلاميين” في إشارة إلى “حركة أنصار الدين”، وهم مسلّحون ينتمون لتنظيم القاعدة.
وتستغل فرنسا -المعادية للتيار الإسلامي في مالي عمومًا- هذا الخلط المتعمَّد بالسعي لدعم الجيش والانقلابيين الجدد، محذّرةً من أن صعود التيار الإسلامي الوسطي عمومًا في الحياة السياسية سيكون مكسبًا للمسلحين، برغم اختلاف أهداف الطرفين.
لهذا يرى خبراء أفارقة أن الانقلاب ربما جاء لإجهاض صعود التيار الإسلامي بدعم فرنسي واضح، خصوصًا أن تقارير غربية تحدثت عن ولاء قادة الانقلاب تارةً لأمريكا وتارةً لروسيا، وأنهم تلقوا تدريباتهم العسكرية في موسكو وواشنطن، ولهما مطامع في السلطة ستجعلهم يعادون التيار الإسلامي وكافة أطياف المعارضة([5]).
وقد ألمحت لهذا ضمنًا صحيفة “لوبوان” الفرنسية([6]) في تحليل عن مستقبل الإسلاميين بعد الانقلاب بالسؤال: “كيف سيترجم النفوذ القويّ للإمام محمود ديكو على هذا الائتلاف الواسع الذي يحتجّ ضد الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا مطالبًا برحيله؟ وهل المتدينون بصدد الاستيلاء على السلطة في مالي؟”.
وأضافت: إنه “بالنظر إلى توخّي الماليين الحذر فيما يتعلق بالسياسة؛ فإن المتدينين يظهرون كأشخاص مسؤولين ما يزال بإمكان المواطنين الثقة فيهم، وبالتالي فهم الوحيدون القادرون على حَشْد الشعب في الوقت الراهن”، مشيرةً لقيادة الإمام محمود ديكو وتوحيده المعارضة خلفه عبر ائتلاف يضمّ شخصيات دينية وأخرى من كل الطيف السياسي وذات وزن ثقيل، بالإضافة إلى شخصيات معادية لفرنسا”.
ولفتت إلى أن “الإمام” اكتسب شهرته كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى (2008-2019م)؛ من خلال النضالات السياسية المختلفة التي خاضها في هذا السياق بحكم منصبه، فقد كانت له معركة ضد قانون الأسرة بين عامي 2009 و2011م، كما تدخَّل لحلّ الأزمة المالية منذ عام 2012م، وكذلك لعب دورًا بالانتخابات الرئاسية عام 2013م، وعارض إدخال التربية الجنسية في المناهج التعليمية عام 2019م، وقضايا أخرى مختلفة.
أيضًا قالت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية: إن باريس كانت تشعر بحالة من القلق حيال الحركة الاحتجاجية التي يقودها الإمام ديكو؛ إذ اندلعت هذه الاحتجاجات في الوقت الذي بدأت فيه باريس تحقيق “انتصارات نوعية” ضد الجماعات المسلحة، بالإضافة إلى فشل كلّ الوساطات على يد أطراف متعددة منها الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، التي التقت الرئيس المخلوع كيتا، وقادة حراك “5 يونيو” لإنهاء هذه الاحتجاجات، لكن دون جدوى.
وحاولت باريس إيصال رسائل وتحذيرات مبطّنة إلى ديكو وقادة الحراك ضد الرئيس كيتا، قبل الانقلاب، خلاصتها أن “أيّ تغيير في مالي يجب أن يكون تحت عين باريس”، وهو أمرٌ يرفضه الحراك وزعيمه ديكو، المناهض بقوَّة للوجود الفرنسي في بلاده.
لماذا ترفض فرنسا حكم القيادات الإسلامية؟
نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية في شهر أبريل 2019م([7]) تقريرًا يشرح ضمنًا أسباب تخوُّف فرنسا من أن يصبح الإسلاميون القوة الأولى للاحتجاج السياسي في مالي، وحصدهم نتائج ذلك في الوصول للسلطة، وكان الفرنسيون يربطون بين ذلك وبين صعود تيارات إسلامية عقب الربيع العربي في بعض البلدان العربية.
وذكرت “لوموند” أن طرح هذه الأسئلة بعد مرور ست سنوات على بدء التدخل العسكري الفرنسي، في حد ذاته، دليلٌ على فشل الزعماء الماليين والفرنسيين.
ففي مواجهة فساد وتخبُّط نظام الرئيس السابق لم يتأتَّ الصوت المسموع والاحتجاجات ضده من طرف المعارضة السياسية، وإنما من شخصية دينية، وهي رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مالي؛ محمود ديكو، وهو ما أقلق فرنسا.
فهذا الإمام وتياره الإسلامي، مثل القادة: “شريف نيورو”، و”محمد ولد بويا حيدرة”، هم الذين أخرجوا عشرات الآلاف من الماليين في وسط العاصمة متجهين نحو ميدان الاستقلال؛ يطالبون برحيل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا ورئيس وزرائه سوميلو بوبايي ماغا، وهم الذين قالوا: إن “مشكلة مالي الوحيدة هي فرنسا”، وطالبوا بإيقاف “الإبادة الجماعية التي تقوم بها فرنسا في مالي”.
لذلك اعتبرت “لوموند” أن الأمر “أبعد بكثير من محيط المساجد”، وأن الأمر أشبه بثورة ضد الرئيس السابق الفاسد وضد القوات الفرنسية المسؤولة عن أعمال قتل عشوائية أغضبت الماليين ودعتهم للمطالبة بطردها من مالي قبل الانقلاب الأخير.
وقالت: إنه “على مدى السنوات العشر الماضية، تدخَّل الإمام في مجال يتجاوز محيط المساجد؛ ليخوض معارك على الصعيد السياسي والاجتماعي؛ من خلال عرقلة إصلاح قانون الأسرة، واتخاذ مواقف بشأن التربية الجنسية للمراهقين، والحاجة إلى مفاوضات مع المسلحين”.
ورغم أن ديكو لا يُبدي رغبةً في ممارسة السياسة أو الوصول إلى الحكم؛ فإنه في الوقت ذاته أدَّى دور “صانع الملوك”، أي: أن يكون هو مَن يختار الرئيس وأعوانه، وهذا ما حدث مع كيتا قبل احتجازه وإسقاطه، وهو ما تخشى فرنسا أن يتكرر مع الحكم الجديد بعد الانقلاب والفترة الانتقالية.
إنَّ تطورات الأحداث في مالي تشير بالتالي لمحاولة التفاف من جانب الانقلابيين وفرنسا على القوى المعارضة التي تزعمت الاحتجاجات وأسقطت الرئيس السابق، ومهَّدت للانقلاب ذاته، وفي القلب منها: القيادات الإسلامية مثل الإمام “ديكو”؛ إذ تعتبر فرنسا نفسها حاميةً لمالي والساحل الإفريقي، وتسعى لمنع وصول أيّ قوًى إسلامية للسلطة؛ لأن هذا يتعارض مع مصالحها واستثماراتها هناك ونهبها لخيرات إفريقيا، والتي يتصدَّى لها في كلِّ بلدان دول الساحل هذه القيادات الإسلامية.