عصام زيدان
باحث في الشئون السياسية
يبدو للوهلة الأولى أن الاستعمار في صورته السافرة، والتي تعني احتلال أراضي الغير قد فات أوانها, وأنها باتت شيئًا من الماضي الاستعماري البغيض الذي مارسه الرجل الغربي ضد إفريقيا، والذي ما زالت آثاره السياسة والاقتصادية والثقافية ضاربة بقوة وعمق في بنية الدول الإفريقية.
ولكن هذه الوهلة تنكسر عند حدود جزيرة دييغو غارسيا, تلك الجزيرة التي تعد أنموذجًا صارخًا لكل ممارسة فجة مارسها المستعمر الغربي في حق إفريقيا كبقعة جغرافية, وبحق سكانها الأفارقة الذين عانوا من كل ممارسات وحشية, وبحق ثرواتها وخيراتها التي نهبها الغربي وكأنها من حقوقه المكتسبة!
الأهمية الاستراتيجية:
ودييغو غارسيا جزيرة مرجانية في وسط المحيط الهندي على بعد نحو 1600 كم (1000 ميل) إلى الجنوب من الساحل الجنوبي للهند وسريلانكا, ويبلغ طول الجزيرة 60 كم، وهي أكبر جزر أرخبيل شاغوس، وتقع في منتصف المسافة بين ساحل الهند وجزيرة موريشيوس، وتتمتع بحوض ملاحي يبلغ عمقه 140 قدم، وهو ما يكفي لإدخال أسطول من 50 إلى 60 قطعة بحرية.
وتتميز الجزيرة بموقع استراتيجي ممتاز، حيث يعتبر الأمريكيون والبريطانيون أنها تسد فراغا في نظام اتصالات البلدين في منطقة المحيط الهندي، وزادت أهمية القاعدة بعد فتح قناة السويس للملاحة، نظرا لأن فتح القناة جعل من السهل على الأسطول الروسي الانتقال بسرعة كبيرة من البحرين الأسود والأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي, وكذلك تنامي أهمية الخليج العربي كمصدر للطاقة، وضرورة مراقبة منابع النفط وطرق إيصاله إلى الغرب, كما يمكن للصواريخ التي تطلق من الغواصات فيها أن تضرب أهدافا صناعية في قلب روسيا أو الصين، الأمر الذي يعطي لها أهمية استراتيجية فائقة للغرب.
وتستخدم الولايات المتحدة مركز اتصالاتها في القاعدة لرصد حركة الأسطول الروسي، ورصد تجارب الصواريخ التي تقوم بها الصين في المحيط الهندي، ولعبت دوراً في غزو أفغانستان عام 2001 وحرب الخليج الثانية وغزو العراق عام 2003.
وأقرت بريطانيا عام 2002 بأن رحلتين جويتين سريتين لمعتقلين تابعتين لوكالة الاستخبارات الأميركية حطتا في دييغو غارسيا، ثم ظهرت اعترافات أخرى، تؤكد أن الاستخبارات الأميركية وافقت على “التحقيق بواسطة التعذيب في دييغو غارسيا على غرار ما يحدث في جوانتانامو.
حلقات استعمارية:
الحلقة الاولى من هذا البداية الاستعمارية المظلمة كانت في عام 1810م عندما احتل البريطانيون، موريشيوس، وبقيت قاعدة بحرية بريطانية مهمة استراتيجيا, وقاعدة جوية فيما بعد، ولعبت دوراً حيوياً خلال الحرب العالمية الثانية.
ثم كانت الحلقة الثانية، قبل خمسة عقود تقريبا بقرار أصدرته المملكة المتحدة في 1965م وقضى بفصل جزيرة موريشيوس عن أرخبيل شاغوس وإقامة قاعدة عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة في كبرى جزره دييغو غارسيا وما زال الوضع الاحتلالي السافر مستمرا.
وفي العام 1966 تم التوقيع على الاتفاقية بين البلدتين الاستعماريتين، وأعطت الاتفاقية للولايات المتحدة حق بناء قاعدة عسكرية في دييغو غارسيا إلى حين انتفاء الحاجة إلى المنشآت العسكرية، وهي صياغة غامضة بصورة متعمدة.
ولم تقف المملكة المتحدة عند حد الاحتلال, والاستيلاء على أراضي تلك الجزيرة, والتنسيق مع الولايات المتحدة في شأن الاحتلال وعسكرة المنطقة، بل قامت عنوة خلال سنوات ستينات وسبعينات القرن العشرين بطرد حوالى ألفين من سكان الأرخبيل إلى جزر مورشيوس والسيشل لإقامة القاعدة العسكرية على دييغو غارسيا.
لم تكن المملكة المتحدة وحدها في هذا الجرم المشهود, بل احتلت واستمر احتلالها بمباركة من الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية التي كان ينبغي أن تكون فاصلة وقادرة على اعادة الأوضاع إلى نصابها, مستجيبة إلى دعاوى موريشيوس الراغبة في فرض سيطرتها على كامل أراضيها.
محاولات لتصفية الاستعمار:
حصلت موريشيوس على استقلالها في 1968, وبداية من العام 1975، قامت بمبادرات قضائية لاستعادة أراضيها المحتلة، وصدر عن محكمة العدل الدولية، وعن الجمعية العامة للأمم قرارات مكتوبة بإنهاء الاحتلال البريطاني.
وحددت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 22 نوفمبر 2019م كآخر أجل لإنهاء إدارة المملكة المتحدة لهذه الاراضي المحتلة، دون أي استجابة من هذه الدولة التي ضربت بهذه القرارات عرض الحائط, معتمدة على سياسة القوة التي هي اللغة الوحيدة التي تعرفها الساحة الدولية لاسيما في مواجهة الدول الإفريقية المستضعفة عسكريا.
بل وحاولت بريطانيا التنصل من هذه القرارات الدولية بلغة تفهمها القوى الدولية جيدا, ووجدت ضالتها المنشودة في “الإرهاب”, زاعمه ومبررة استمرار سيطرتها، على دييغو غارسيا، بالدور الدفاعي لهذه القاعدة التي تسمح بالدفاع عن العالم في مواجهة “التهديدات الإرهابية والجريمة المنظمة والقرصنة! وكأن فرض سيطرتها بالقوة على أراضي الغير ليس ارهابا وليس قرصنة وليس جريمة انسانية بكل المقاييس!!
أما موريشيوس فقد حاولت من ناحيتها تهدئة هذه المخاوف المزعومة, لعلها تتسلل إلى فرصة تسترد بها سيادتها على أراضيها ولو بصورة ضمنية, فعبرت عن إدراكها للمخاوف الأمنية التي عبرت عنها المملكة المتحدة، وأعربت عن رغبتها في الدخول في ترتيب بعيد المدى مع الولايات المتحدة أو -إذا اقتضت الضرورة ذلك- مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بشأن المنشأة الدفاعية في دييغو غارسيا, فلم تجد آذانا صاغية من المستعمر البريطاني.
إن دييغو غارسيا شاهدة على عصر لم يعرف بعد كيف ينهى الاستعمار في صورته الخشنة, فضلا عن صورة الناعمة وما أكثرها! وتظل شاهدة كذلك على عجز المنظمات الدولية عن الوقوف في وجه الأطماع, حين يكون الطامع غربيًا أبيضًا والفريسة أفريقية ملونة.