تثير ارتباكات المشهد السياسي الدولي منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إدارة بلاده في يناير الماضي مخاوف كثيرة في القارة الإفريقية، التي تضررت بدورها بشكل مباشر وفوري من سياسات ترامب مثل وقف المساعدات الأمريكية لعدد كبير من دول القارة. ورغم هذه الارتدادات السلبية لا تزال آفاق النمو الإفريقي حاضرة وإن كان بخطوات بطيئة للغاية، لكنها تظل قائمة.
يتناول المقال الأول وصفة معقولة لخفض اعتماد إفريقيا على المساعدات الخارجية لا سيما في مجال القطاع الصحي الذي كان أول قطاع متضرر من سياسات ترامب الإفريقية؛ وتمثل “الوصفة” تجربة عملية يمكن إنجازها بالفعل من خلال حشد جهود الدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي وراء هذا الهدف، وإن كان لا يُتوقع تحقيقه بشكل حاسم في المدى القريب والمتوسط بشكل واضح.
أما المقال الثاني فقد قدَّم رؤية “مدرسية” لكيفية استفادة إفريقيا من تجربة الصين في القضاء على الفقر؛ غير أن المقال -المؤدلج كما يتضح من كثير من عباراته- يرهن الاستفادة من هذه الدروس بنظام سياسي قوي ومتماسك وقائم على عقيدة حزبية واضحة (الحزب الشيوعي الصيني)، وهو أمر بات غائبًا عن القارة الإفريقية لأسباب متنوعة.
ويتناول المقال الأخير آفاق تطوُّر قطاع النقل الجوي في إفريقيا كأحد قاطرات النمو الاقتصادي في إفريقيا، وإن ربط المقال ذلك بتجاوز الأزمات السياسية والأمنية في إفريقيا، مع إغفاله ارتباط هذه الأزمات بسياسات الدول التي تملك أكبر شبكات خطوط جوية في القارة.
كيف يمكن خفض اعتماد إفريقيا على المساعدات الخارجية؟([1])
تعتمد الكثير من الخدمات الصحية في أرجاء القارة الإفريقية بقوة على المساعدات الخارجية لتقديم الرعاية الأساسية. ومِن ثَم فإن الإستراتيجيات بعيدة المدى لخفض الاعتماد على المساعدات ذات أهمية كبيرة. ولطالما كان هناك توجُّه عالميّ لخفض المساعدات المقدمة لإفريقيا منذ العام 2018م. ويغير المانحون أولويات تمويلهم وفق الأجندات المحلية والدولية. وعلى سبيل المثال، فإن دولًا مثل ألمانيا وفرنسا والنرويج قد خفضت مساعداتها لإفريقيا في الأعوام الخمسة السابقة. وفي العام 2020م خفَّضت حكومة المملكة المتحدة “مساعدات التنمية الخارجية” المقررة سنويًّا من 0.7% من الدخل المحلي الإجمالي إلى 0.5% فقط.
ويمكن أن يكون لخفض المساعدات من جانب أحادي نتائج واسعة الانتشار. وعلى سبيل المثال فإن نحو 72 مليون فرد لم يتلقوا العلاج من الأمراض الاستوائية التي يتم تجاهلها في الفترة 2021-2022م بسبب خفض مساعدات المملكة المتحدة وحدها.
ويُعدّ قرار تجميد المساعدات الأمريكية لإفريقيا في العام 2025م هو الأخير في هذا الاتجاه. وكان له بالفعل آثار كبيرة وواسعة الانتشار في أرجاء القارة الإفريقية. وعلى سبيل المثال فإن حملات التطعيم للقضاء على شلل الأطفال ومعالجة فقد المناعة المكتسبة المقدمة عبر خطة طوارئ الرئيس President’s Emergency Plan for AIDS Relief (Pepfar) قد توقفت تمامًا. ووضع ذلك حياة الملايين من الأفارقة على المحك. وفي جنوب إفريقيا وحدها؛ يُعرِّض قَطْع مُخصَّصات “بيبفار” السنوية -المقدرة بـ400 مليون دولار لبرامج مواجهة الإيدز- حياة المرضى لفشل العلاج، وارتفاع معدلات الإصابة، ثم ارتفاع أعداد الموتى.
وقد أبرزت تحركات الرئيس دونالد ترامب اعتماد إفريقيا على المساعدات الخارجية لتمويل الخدمات الصحية. وحيث إنني خبيرة في الصحة العالمية، وجرَّبت العمل مع العديد من هيئات التمويل والاستشارات العالمية، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية وحكومة المملكة المتحدة وهيئات حشد الموارد العالمية؛ فإنني أدرك تمام الإدراك تنافس أولويات التمويل بالنسبة للممولين الدوليين، ولطالما طالبتُ بوضع آليات للتمويل الصحي المحلي والمستدام.
إن الإستراتيجيات بعيدة المدى من أجل خفض الاعتماد على المساعدات بالغة الأهمية. كما أن الابتعاد عن هذا الوضع التمويلي القائم يتطلب جهودًا مكثَّفة للبناء على أفضل الممارسات المثبتة.
خيارات تمويل جديدة:
من المرجَّح استمرار المسار الحالي لخفض المساعدات لإفريقيا؛ إذ تُوجَّه المساعدات العالمية نحو تحديات أخرى مثل الصراع والهجرة غير الشرعية. ولا يمكن للقارة أن تواصل نفس المسار فيما تؤمل من تحقيق مخرجات مختلفة. بل تحتاج إفريقيا تنمية مجموعة من خيارات التمويل المحلية المتاحة على الفور. وتشمل هذه الخيارات ما يلي:
- تنويع حشد الموارد المحلية، ويجب أن يشمل ذلك ضرائب سلعية لتمويل الصحة. وعلى سبيل المثال ضرائب التبغ التي لا تُستغَل بشكل مناسب حاليًّا في إفريقيا. وتُقدّم زيمبابوي نموذجًا ناجحًا؛ فقد جسرت فجوات موارد المانحين عبر ضريبة إيدز بنسبة 3% (بدأت في العام 1999م)، والتي تم فرضها على مدخولات الأفراد والهيئات وتُموَّل من خلاله برامج الوقاية والرعاية ومعالجة مرضى الإيدز. وكانت نيجيريا دولة أخرى بادرت بمثل هذا المسار؛ إذ جعلت الرعاية الصحية أولوية في تخصيص الموازنة المحلية. واستوعبت مؤخرًا 28 ألف موظف في قطاع الصحة كانوا يتلقون رواتبهم مِن قِبَل الوكالة الأمريكية للتنمية. ويظهر ذلك أن التمويل المحلي للصحة في إفريقيا أمر ممكن.
- عقد مزيد من الشراكات الخاصة-العامة. ويمكن لمثل هذه الشراكات القائمة بين متطوعين (أو مؤسسات) محليين ودوليين أن تجسر فجوات التمويل. وأحد الأمثلة الناجحة هي الشراكة في مجال الخدمات الصحية في العام 2015م بين الحكومة الكينية و GE Healthcare؛ إذ تقدم الأخيرة معدات وخدمات بثّ تُسدّد لها الحكومة بمرور الوقت. ويسمح ذلك للحكومات بوضع موازنة وخطة لنفقات الرعاية الصحية طوال سنوات عديدة.
- تعزيز التكامل الإقليمي من أجل دعم الإنتاج المحلي. سيؤدي ذلك إلى خفض الحاجة لمنتجات طبية مستوردة ممولة بالمساعدات. وعلى سبيل المثال فإن مرفق التسجيل في هيئة الأدوية الإفريقية Africa Medicines Authority، التي يُنسّق الاتحاد الإفريقي عملها، يقوم بتكوين سوق قاري واحد للدواء في إفريقيا. مما يدعم المنتجين والمُصدّرين بالسماح لهم بالعمل على نطاق واسع. كما يجعل الإنتاج والتوزيع أكثر فعالية من جهة التكلفة. وأخيرًا فإن ذلك يُخفِّض الاعتماد على الأدوية المستوردة، ويقوِّي صناعة الأدوية في إفريقيا.
- تقوية مؤسسات تمويل التنمية، وهي هيئات مالية متخصصة مثل بنك التنمية الإفريقي، وبنك الصادرات والواردات الإفريقية، وبنك التنمية في إفريقيا الجنوبية. ويمكن أن توفر رأس المال والخبرة للمشروعات التي قد تبدو مجازفة أكثر من اللازم للمستثمرين التقليديين. ويشمل ذلك دعم التمويل الصحي لتنمية البنية الأساسية، وتنمية القطاع الخاص للمشروعات الصغيرة والمتوسطة والتكامل الإقليمي. ومن ضمن المبادرات التي تمثل نقلة هائلة منصة استثمار AfricInvest والتي قدَّمت، بدعم من مؤسسات تمويل التنمية في الولايات المتحدة وأوروبا، أكثر من مائة مليون دولار في استثمارات قطاع الصحة في إفريقيا. كما موَّلت المبادرة ما لا يقل عن 45 مرفقًا لغسيل الكلى في إفريقيا تقوم بأكثر من 130 ألف دورة غسيل كلى سنويًّا، ووجهت بالأساس للمجتمعات النائية وغير المخدومة بتكلفة مجانية تقريبًا.
إن جمع مثل هذه المقاربات على المستوى الوطني والإقليمي والقاري سوف يسرع من انسحاب إفريقيا من حالة التبعية للمساعدات (ومشروطياتها).
إفريقيا يمكنها التعلم من جهود الصين للقضاء على الفقر([2]):
قامت جهود القضاء على الفقر في الصين مبدئيًّا على فكرة “خدمة الشعب”، والتمسك بالفلسفة الحاكمة للجيل الأقدم من القادة الوطنيين وتعميقها. وقد أظهرت المعركة ضد الفقر تصميم الحزب الشيوعي الصيني على وضع مصالح الشعب واهتماماته في المقام الأول. وقد ظل انتشال الناس من الفقر والسماح لهم بالعيش حياة جيدة حجر زاوية في الاستقرار الاجتماعي والتنمية.
وقد ظلت جهود الصين للقضاء على الفقر شاملة ومتعددة الأبعاد، وتتناول جوانب متعددة مثل مخصصات المعيشة، والتأمين الطبي، والتعليم، والإسكان وريادة الأعمال. كما رسَّخت البلاد الإشراف الحكومي من أجل ضمان مرونة وفعالية تطبيق جهود القضاء على الفقر. وثبت أن السياسات المتَّبعة فعَّالة للغاية، مما مكَّن أعدادًا كبيرة من الناس من السير على طريق الرخاء. كما تغيَّرت أحوال أعداد كبيرة ممن كانوا يحيون في فقر نحو حياة أفضل في مناحٍ مختلفة مثل الغذاء والملبس والسكن والنقل والتعليم والرعاية الصحية.
وفي ظل القيادة القوية من الحزب الشيوعي الصيني، حشدت البلاد المجتمع بأكمله، ولا سيما الشركات الكبيرة القادرة، للمشاركة بنشاط في أنشطة القضاء على الفقر والقيام بمسؤولياتهم الاجتماعية، بينما عاد الشباب الطموح إلى مواطنهم من أجل الإسهام في التنمية المحلية في تلك المدن. إضافة إلى ذلك تم تطبيق العديد من السياسات والبرامج المبتكَرة، مما نتج عنه حالات نجاح وتجارب ثرية.
ويُمثّل كل ذلك دروسًا جديرة باهتمام الدول النامية، وكذا نماذج قيّمة لإظهار كيف يمكن للدول المتقدمة مساعدة الدول النامية. وتجب هنا ملاحظة أن الصين صنعت معجزة؛ فقد مكنت جهودها لخفض الفقر خمس سكان العالم من تحقيق حياة مستقرة ومزدهرة، بما يسهم في الاستقرار والسلم العالميين، ويضع مثالًا ملموسًا لجهود القضاء على الفقر في العالم.
كما يمكن أن تستفيد الدول الإفريقية من التفعيل الكامل لدور المنظمات غير الحكومية. وهناك مثال على ذلك في منظمة التعاون الإفريقي الصيني من أجل التنمية. وقد لعبت المنظمة دورًا نشطًا في القضاء على الفقر. ففي الأعوام الخمسة الماضية أطلقت المنظمة عددًا من المبادرات مثل تزويد الشركات الصينية بتعليمات عملية ودعم لإقامة قواعد صناعية رفيعة المستوى في إفريقيا بالتعاون مع الشركات المحلية الكبرى لمواجهة التحديات العديدة التي تواجه إفريقيا مثل ندرة المياه أو نقص الطاقة. وتستكشف المنظمة حاليًّا وبقوة سبلًا جديدة لجمع المطلب العام بخفض الفقر مع نماذج العمل الفعَّالة من أجل تحقيق تنمية بعيدة المدى.
علاوةً على ذلك يمكن للدول الإفريقية أن تُنظّم عمل مجموعات من العلماء للقيام ببحوث موسعة حول الحالات الصينية البارزة للقضاء على الفقر، وتنفيذ ممارسات مُبتكَرة ملائمة لأحوالها الوطنية، مع معالجة تحديات التمويل عبر المساعدات الدولية.
القيود التجارية المؤثرة تُصيب سوق النقل الجوي الإفريقي بالاضطراب([3]):
لا تزال سوق النقل الجوي الإفريقية مقيدة الحركة بسبب العوائق والتحديات التجارية وكذلك الصراع الجيوسياسي، لكن هناك تغيرات إيجابية تتم حاليًّا، حسبما يؤكد قادة الصناعة في تجمع النقل الجوي الإفريقي Air Cargo Africa في نيروبي. وقالت راشيل نديجو Racheal Ndegww الرئيس التنفيذي لسويسبورت كينيا Swissport Kenya: إن التشظي يعوق اقتصادات دول القارة من التقدم للأمام. ويجب توحيد الجهود في إفريقيا من أجل التعظيم الفعَّال للتجارة والنمو الاقتصادي من أجل تعزيز دعم النقل الجوي.
وأضاف آخرون ضرورة تركيز إفريقيا على التصنيع واستغلال الموارد بدلًا من تصديرها. كما اقترحوا أن إفريقيا بحاجة لمزيد من الصادرات، وإن الدول بحاجة إلى العمل البيني بشكل أفضل كقارة لدعم الأفكار والموارد. غير أن عوائق جيوسياسية مثل الصراع في السودان وغرب إفريقيا تفرض قيودًا مزمنة على خطوط الطيران.
ويتوقع متخصصون في صناعة النقل الجوي مضاعفة أحجام التجارة المنقولة جوًّا في إفريقيا مع بروز تسعة من أبرز دول العالم نموًّا اقتصاديًّا من القارة الإفريقية بما فيها كينيا وإثيوبيا والسنغال. وتوقع أن تقود تلك الاقتصادات الطلب على التجارة وقيادة الطلب على النقل الجوي.
وقد شهدت خطوط الطيران الإفريقية نموًّا بنسبة 8.5% في العام 2024م، وتزايد قدرة النقل بنسبة 13.6% وفقًا لبيانات إياتا IATA. وتوقعت جهات متخصصة في النقل الجوي في العالم مضاعفة حجم التجارة المنقولة جوًّا في إفريقيا على مدار العشرين عامًا المقبلة، بفضل عوامل من مثل النمو الاقتصادي، وإصلاح السياسات، وتحرير حقوق الجمارك والتجارة.
ورغم التحديات المتنوعة فإنه ثمة دلائل على التقدُّم في صناعة النقل الجوي في إفريقيا. ورغم إشكالية ترابط سلسلة الإمداد والحاجة لبنية تحتية أفضل، فإن هناك نموًّا في خطوط الطيران في أرجاء إفريقيا.
…………………………………………………………………