تراجعتْ أهمية إفريقيا في قائمة أولويات إدارة الرئيس دونالد ترامب على مدى السنوات الأربعة الماضية. ولعلَّ انتخاب الديمقراطي “جو بايدن” يُعيد الأمل بإحياء العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا، وعودتها لسابق عهدها. لقد شهدتْ إدارة ترامب حالةً من الجفاء السياسيّ والدبلوماسيّ؛ حيث لم يَقُمْ ترامب بزيارة واحدة للقارة.
ولم يتوقف الرجل أبدًا عن إصدار تصريحاته الساخرة عن إفريقيا؛ ففي عام 2018م -خلال لقاء مع العديد من أعضاء مجلس الشيوخ في مكتبه البيضاوي بواشنطن- قال ترامب -بحسب صحيفة واشنطن بوست-: “لماذا كل هؤلاء الناس من البلدان القذرة يأتون إلى هنا؟”؛ وهو يقصد هنا بالطبع إفريقيا التي وصفها بعد ذلك بما هو أفظع ولا يليق بلغة الدبلوماسية.
معاقَبة الدول الإفريقية:
كان أحد قرارات ترامب الأولى عند تولّيه قيادة البلاد هو تقييد تأشيرات الدخول الأمريكية لمواطني العديد من البلدان ذات الأغلبية السكانية المسلمة.
فقد تمَّ مَنْع مواطني ليبيا والسودان ببساطة من الدخول إلى الأراضي الأمريكية. وفي يناير 2020م، قرَّر ترامب مَنْع مواطني السودان وتنزانيا وإريتريا ونيجيريا من الإقامة في الولايات المتحدة، مما أغلق الباب أمام إمكانية لَمّ شَمْل بعض الأُسَر. وبحسب الرئيس دونالد ترامب، فقد عُوقِبَتْ هذه الدول الإفريقية؛ لعدم امتثالها للقواعد الأمنية التي طالب بها.
لم يكن مستغرَبًا أن تتراجع العلاقات التجارية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وإفريقيا. وعلى الرغم من أن أزمة كوفيد -19 قد أثارت حالة من عدم اليقين على نطاق واسع بشأن المستقبل القريب للسوق العالمية، فقد أظهرت معظم الاقتصادات الإفريقية ديناميكية واعدة، بمتوسط معدل نمو بلغ 3.4٪.
كما أن إقرار منطقة التجارة الحرَّة القاريَّة الإفريقية شجَّعت البلدان الصناعية الكبرى على تعزيز تجارتها مع البلدان الإفريقية؛ بَيْدَ أنَّ الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب تخلَّفت عن الركب. ففي عام 2018م، بلغ حجم التبادل الأمريكي مع إفريقيا حوالي 61.8 مليار دولار، لكنه تراجع في عام 2019م، ليصل إلى 56.8 مليار دولار، بانخفاض قدره 8.07٪. في نفس الوقت زادت معدلات التجارة بين الصين والدول الإفريقية خلال الفترة 2018-2019م بنسبة 2.2٪، لتصل إلى 208 مليارات دولار.
وعلى الرغم من أن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لا تُمثّل أكثر من 1.5٪ من صادرات الولايات المتحدة، و1٪ من وارداتها، وفقًا لوزارة التجارة الأمريكية؛ فإن قانون النمو والفرص الإفريقي، الذي وقَّعه الرئيس بيل كلينتون في عام 2000م، مَكَّنَ العديد من الشركات الإفريقية من الوصول إلى السوق الأمريكية. كما يهدف برنامج الدخول التفضيليّ للسوق الأمريكية إلى تشجيع الصادرات من بلدان جنوب الصحراء الكبرى. وقد أتاحت هذه المبادرات الأمريكية إمكانية الوصول إلى 6400 مُنْتَج من 38 دولة جنوب الصحراء الكبرى.
أما في مجال الأمن ومحاربة الإرهاب؛ فقد أصبحت الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين شريكًا متزايد الأهمية لإفريقيا، خاصةً بعد هجمات عام 1998م على سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا. وقد أدَّى ذلك إلى تعزيز التعاون في مجال الأمن، مع إنشاء القيادة الإفريقية (أفريكوم)، في عام 2007م، والتي تساهم أيضًا في تعزيز التدريب والقدرات المهنية للكوادر العسكرية الإفريقية.
بَيْدَ أنه في نهاية عام 2019م، أعلن دونالد ترامب عن تخفيضٍ كبيرٍ في عدد القوات الأمريكية في إفريقيا، والتي يبلغ عددها حاليًا نحو 7000 عسكريّ. ووفقًا لمصادر البيت الأبيض، فقد أصدر تعليماته أيضًا لوزير دفاعه باقتراح خطة لسحب القوات التي تحارب الجماعات الإرهابية في غرب إفريقيا لإعادة انتشارها في آسيا.
أعضاء فريق بايدن الجدد وإفريقيا:
اعتمد جو بايدن؛ الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس باراك أوباما، على أعضاء فريق مستشاريه من الإدارات السابقة لبناء فريق حملته الانتخابية، لا سيما في مجال الشؤون الخارجية. وعلى الأغلب سوف يقدّمون له المشورة بشأن سياسته الإفريقية المحتمَلة في المستقبل.
ومن أبرز هؤلاء: أنتوني بلينكين مستشار بايدن الرئيسي للشؤون الدولية؛ والذي كان عضوًا سابقًا في إدارة كلينتون، وعَرف بايدن لفترة طويلة. قام الرجل برحلات رسمية إلى المغرب وجيبوتي ونيجيريا وجنوب إفريقيا، ويُعبِّر دومًا عن دعمه لقيام شراكة أمريكية إفريقية قويَّة.
الاسم الثاني الأبرز في فريق بايدن هو سوزان رايس التي كانت هي المفضَّلة لتصبح رفيقة جو بايدن في انتخابات نوفمبر، قبل اختيار كامالا هاريس. شغلت منصب مستشار الأمن القومي من 2013 إلى 2017م في عهد الرئيس أوباما، كما عملت قبل ذلك كمساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية من 1997 إلى 2001م. وتولَّت ملف الأزمات في دول إفريقية عدة مثل الكونغو الديمقراطية وسيراليون وملف العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا؛ من بين أمور أخرى.
لقد مارست سوزان رايس دورًا رئيسيًّا في تمرير قرار التدخل الدولي في ليبيا في مجلس الأمن، بمساعدة مستشارة الأمن القومي “سامانثا باور” التي خلفتها في الأمم المتحدة، وتحت قيادة هيلاري كلينتون. وعليه فمن المتوقع أن تعود إدارة بايدن لتبنِّي نهج السياسات النيوليبرالية في تعاملها مع القارة الإفريقية.
ويعتمد بايدن كذلك على ميشيل جافين، سفيرة الولايات المتحدة السابقة في بوتسوانا (2011-2014م)، وممثلة الولايات المتحدة السابقة في مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (سادك)، وهي واحدة من أبرز المتخصصين الرئيسيين في إفريقيا لدى بايدن.
أجندة بايدن-هاريس للشتات:
وعلى أيّ حال يمكن تلمُّس الخطوط العريضة لسياسة بايدن الإفريقية من ورقة السياسات التي أصدرتها حملته الانتخابية بعنوان “أجندة بايدن-هاريس للشتات”؛ إنه يقدم الخطوط العريضة للاهتمامات الإفريقية المحتمَلة لإدارة بايدن.
صحيح أن الوثيقة موجَّهة على وجه التحديد لأولئك الأفارقة والمنحدرين من أصل إفريقي الذين يعيشون في الولايات المتحدة، لكنَّها تتضمَّن أيضًا تفاصيل حول سياسة الولايات المتحدة تجاه إفريقيا. تَعِدُ وثيقة الحملة بتغيير في الخطاب الأمريكي، واستعادة “الاحترام المتبادل”، وإحياء الدبلوماسية وتنشيطها. ومن منظور التوجه الليبرالي في السياسة الخارجية الأمريكية سوف يتم التأكيد على الدعم الأمريكي للديمقراطية والنمو الاقتصادي في إفريقيا. ويؤيد بايدن بشكل خاص استمرار مبادرة الرئيس أوباما للقادة الأفارقة الشباب.
من المأمول أن تؤدِّي رئاسة بايدن إلى إشراك إفريقيا كقارة، وليس مجرد مجموعة من البلدان.
على جانب آخر؛ ففي عهد ترامب، حوَّلت الولايات المتحدة أيضًا تركيزها على إفريقيا إلى المشاركة العسكرية، لا سيما حربها على الإرهاب في غرب إفريقيا والساحل والصومال. ويُحْسَب لها أيضًا استخدام العقوبات لمواصلة الضغط على زيمبابوي لتحسين الحكم. كما تهدف العقوبات في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى تحرير الرئيس فيليكس تشيسيكيدي من الميراث المشين لسلفه جوزيف كابيلا.
ملامح التغيير القادم:
ما الذي سيفعله بايدن بشكل مختلف في إفريقيا؟ لعل الشيء الأبرز هو تغيير لغة الخطاب، بالطبع، بإظهار احترام أكبر للقارة. ومن المتوقع القيام بجولة رئاسية إفريقية في العام المقبل، وأن يستضيف بايدن قمة أمريكية إفريقية في واشنطن؛ كما فعل باراك أوباما عام 2014م. وعلى عكس توجُّه ترامب الذي ركَّز على آلية العلاقات الثنائية مع بعض حلفاء الولايات المتحدة في إفريقيا؛ فإن إدارة بايدن سوف تتبنَّى اقترابًا أكثر شمولية؛ بحيث يتمّ التعامل مع المؤسَّسات القارية والإقليمية الإفريقية.
ومن المرجَّح أن يكون تركيز الإدارة الأمريكية القادمة على التفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الحرة المتبادلة مع إفريقيا، سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي.
وربما يحلّ هذا التوجُّه في نهاية المطاف محلّ قانون “النموّ والفرص الإفريقي”؛ الذي يسمح بالصادرات من البلدان الإفريقية المؤهَّلة إلى الولايات المتحدة، معفاةً من الرسوم الجمركية والحصص الضريبية.
أما فيما يتعلق بمواجهة الصين في إفريقيا؛ فقد يجمع بايدن بين سياسة الاحتواء والتعاون، أي عدم رؤية الصين كمنافس في إفريقيا فقط، ولكن أيضًا الاعتراف بدورها في إفريقيا، والعمل معها من أجل تحقيق مصالح مشتركة.
إنه على الرغم من الاستناد إلى الخبرة التاريخية في كيفية تعامُل الرؤساء الديمقراطيين مع إفريقيا للتنبّؤ بسلوك الإدارة الأمريكية القادمة؛ فإن الرئيس بايدن لن يفعل أفضل من مجرد العودة لسياسة الولايات المتحدة تجاه إفريقيا خلال عهد كل من بيل كلينتون وباراك أوباما.
بَيْدَ أن المشكلة هنا كما ذكرنا تكمن في عودة بعض المستشارين القدامى؛ مثل سوزان رايس التي كانت المُحرِّك الرئيسي والمُشَكِّل للسياسة الأمريكية تجاه إفريقيا في كلٍّ من إدارتي كلينتون وأوباما.
لقد كان لها دور بارز في قرار كلينتون بعدم التدخل في أزمة الإبادة العِرْقِيَّة في رواندا عام 1994م، وعُرِفَتْ بمناصرتها للزعماء الواعدين آنذاك مثل ميليس زيناوي، وإسياس أفورقي، وبول كاجامي، ويوري موسيفيني؛ بغضّ النظر عن سِجِلّ هؤلاء في مجال حقوق الإنسان.
وعلى أيّ حالٍ؛ هناك ثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية تجعل من قضايا التجارة والوصول إلى الموارد الطبيعية في إفريقيا، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد، ومحاربة الإرهاب أهدافًا رئيسية للحركة والدبلوماسية الأمريكية تجاه القارة.
لا تتبدَّل هذه الأهداف بتبدُّل الرؤساء، ولكن يتم تعديل الأولويات ومناهج الحركة. لم تبالغ حملة بايدن في وُعُودها تجاه إفريقيا، ولا توجد إشارة إلى زيادة الإنفاق الفيدرالي الأمريكي على المساعدات والتنمية الإفريقية. كما لا توجد التزامات بمشاركة الولايات المتحدة بشكلٍ أعمق في التحديات الأمنية لإفريقيا بشكلٍ يُمَثِّل تحولاً فارقًا عن إدارة ترامب.
ومع ذلك؛ فإنَّ الأهداف العريضة الموضّحة في وثيقة حملة بايدن الانتخابية، إلى جانب الاهتمام بالأدوات الدبلوماسية والمتخصصين في الشؤون الإفريقية، من شأنها أن تُحْدِث تحوُّلاً أفضل في علاقات واشنطن مع إفريقيا.