أثارت تصريحات الرئيس دونالد ترامب بخصوص سدّ النهضة الإثيوبي يوم 23 أكتوبر 2020م، وذلك على هامش إعلان تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل ردودَ فِعْل غاضبة من الجانب الإثيوبي.
لقد اقترح ترامب ولأول مرة إمكانية استخدام الخيار العسكري. يقول ترامب بدون مواربة: ”إنه وضعٌ خطيرٌ للغاية؛ لأنَّ مصر لن تكون قادرةً على العيش بهذه الطريقة.. سينتهي بهم الأمر إلى تفجير السدّ. وقلت ذلك وأقوله بصوت عالٍ وواضحٍ: سيفجّرون ذلك السدّ، وعليهم فِعْل شيءٍ ما”.
ومن المعروف أن مصر تعتمد على نهر النيل في توفير حوالي 97٪ من مياه الري والشرب، وتَعْتَبر السد الإثيوبي -في حالة عدم التوصل لاتفاقٍ- تهديدًا وجوديًّا.
وكان الرئيس الأمريكي قد طلب في وقتٍ سابقٍ من هذا العام من وزارة الخارجية تعليق مساعدات بملايين الدولارات لإثيوبيا؛ بسبب الخلاف حول السدّ، مما أثار غضب الإثيوبيين الذين اتّهموا الولايات المتحدة بالانحياز خلال مساعيها السابقة للتوسُّط في صفقة بشأن المشروع بين إثيوبيا ومصر والسودان. وقد انسحبت إثيوبيا نهاية المطاف من تلك المحادثات.
وعلى الرغم من سياق هذه التصريحات؛ سواء من حيث السباق الانتخابي الأمريكي، أو توجيه الاهتمام صَوْب الشرق الأوسط؛ لكسب مزيد من الحلفاء؛ فإنها لا تخلو من دلالات مهمَّة سوف تؤثِّر يقينًا على مسار الحلّ التفاوضيّ للأزمة.
أولاً: تمسُّك إثيوبيا بفرض سياسة الهيمنة المائية:
سوف تساعد تصريحات ترامب القيادة الإثيوبية من أجل تحويل أنظار الداخل الإثيوبي المنقسم صَوْب الخطر الخارجي المتوهَّم؛ إذ على الرغم من أن مصر لم تُعلن بشكل رسميّ قط عن تبنّيها للخيار العسكري في تسوية أزمة سدّ النهضة، وأنها متمسِّكَة بالدفاع عن حقوقها المائية من خلال مائدة المفاوضات فإنَّ إثيوبيا ما فتئت تَستخدم لغة القوة في الدفاع عن سدّها المائي الذي تَعتبره رمزًا لكرامتها الوطنية. فهي تارةً تجعله منطقة يُحْظَر الطيران فوقها، وتارةً تجعله مسرحًا لزيارات العسكريين وكبار القادة الذين يعلنون استعدادهم للدفاع عن السدّ.
سرعان ما رفض بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي تصريحات الرئيس ترامب، دون ذِكْر اسمه، ودون إشارة إلى الولايات المتحدة. تقول النسخة الإنجليزية من البيان: “لا تزال التصريحات التي يتم إطلاقها بين الحين والآخر عن التهديدات العدائية لإخضاع إثيوبيا لشروط غير عادلة كثيرة. إنَّ هذه التهديدات والإساءات للسيادة الإثيوبية عمياء وغير مثمرة، وتشكل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي. ولن تخضع إثيوبيا لاعتداءات من أيّ نوع مقابل الاعتراف بحقٍّ قررته معاهدات استعمارية”.
ومن اللافت للاهتمام أن النسخة المنفصلة من البيان الصادر باللغة الأمهرية استخدمت لغةً أكثر قوةً وحزمًا؛ حيث ورد بها ما نصه: “هناك حقيقتان يعرفهما العالم؛ الأولى أنه لم يوجد مَن استطاع العيش بسلامٍ بعد استفزاز إثيوبيا. والثانية هي أنه إذا وقف الإثيوبيون صفًّا واحدًا لغرض واحد؛ فهم منتصرون لا محالة”.
وقد كان رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريم ديسالين أكثر وضوحًا في انتقاده لموقف الرئيس ترامب؛ حيث كتب على تويتر، واصفًا تصريح ترامب بأنه متهوّر وغير مسؤول، وأن الرجل ليس لديه أدنى فكرة عما يتحدث عنه؛ “لن يتم تهديد إثيوبيا والإثيوبيين بمثل هذا البيان غير المسؤول. التاريخ سيعلم الجميع”.
كما أن وزير الخارجية الإثيوبي استدعى السفير الأمريكي في أديس أبابا، وطالب بتوضيحات حول تصريحات الرئيس ترامب. وقال جيدو أندارجاتشو: إنه أبلغ السفير مايك راينور أن التصريح الذي أدلى به ترامب كان بمثابة تحريض على الحرب بين إثيوبيا ومصر، ولا يعكس شراكة إثيوبيا مع الولايات المتحدة، وأنه غير مقبول بموجب القانون الدولي.
وقد ذهبت جماعات الأمريكيين من أصول إثيوبية إلى حدّ الدعوة إلى عدم التصويت لصالح ترامب في انتخابات الرئاسة بما يعني تفضيل المرشّح الديمقراطي جو بايدن.
والملاحَظ من ردود الفعل الإثيوبية والشعبية على تصريحات الرئيس ترامب فكرة العودة إلى التاريخ واستدعاء أمجاد الماضي؛ من خلال تجسيد قيم الاستثنائية الإثيوبية، وهو ما يدعم تشدد الموقف التفاوضي الإثيوبي الذي يُعْلِي من مقولات مِلْكِيَّة النهر وحقّ إثيوبيا المطلق في استغلاله وفقًا لمنظور الهيمنة المائية.
ثانيًا: الترويج للرواية المصرية التي تؤكد على حقوقها المائية، وأن مسألة الأمن المائي المصري تُمثّل خطرًا وجوديًّا ينبغي مواجهته بكل الوسائل الممكنة:
إذ على الرغم من عدم دبلوماسية تصريحات ترامب كعادته، وربما ارتباطها بشعور العظمة لديه الذي تجعله يرفض انسحاب إثيوبيا من صفقةٍ توسَّط فيها فإنها قد تبدو من أحد جوانبها نافعة.
لقد بات العالم يدرك اليوم خطأ النظرة الأحادية التي روَّجت لها إثيوبيا بخصوص شعورها بالمظلومية التاريخية، ورغبتها في استخدام السدّ لتحقيق التنمية.
لقد استخدمت النُّخْبَة السياسية الحاكمة في أديس أبابا –ولا تزال- فكرة أن المشروع لن يتسبّب في أيّ ضرر جسيم لدولتي المصبّ، بل سوف يحقّق فوائد للمنطقة، ويضمن حق إثيوبيا في التنمية.
وقد دأبت إثيوبيا على استخدام هذه اللغة في الترويج للمشروع على الصعيدين الإقليمي والدولي. يقول زيناوي في حفل الإعلان عن السد: “إننا مصمِّمُون على القضاء على الفقر في بلدنا.. العديد من الأصدقاء يقفون معنا؛ إن امتناننا لشركائنا في التنمية لا حدودَ له. قبل أن نحشد جهودنا للقضاء على الفقر، أعاقت قرون من الإفقار مسيرة تنميتنا، وغلَّت أيدينا عن ممارسة حقّنا في استخدام موارد أنهارنا”.
اليوم وبعد تصريحات الرئيس ترامب وتوكيده على وجود حلّ تفاوضيّ رفضته إثيوبيا بعد سنوات طويلة من النقاش والحوار حوله؛ يؤكد أن لقصة سدّ النهضة وُجُوهًا أخرى غير تلك التي تدَّعِيها إثيوبيا، وأن للمصريين حقوقًا مشروعة منذ آلاف السنين في مياه النهر الذي يُعتَبر شريان حياتهم.
ثالثًا: فشل الجهود الإثيوبية في التأثير على صانع القرار الأمريكي بشأن سد النهضة:
لقد حاولت إثيوبيا بشتَّى السبل تأسيس جماعة ضغط داخل الولايات المتحدة؛ للترويج لموقفها من سدّ النهضة.
ولم تقتصر جهود رئيس الوزراء الإثيوبي في استمالة الموقف الأمريكي لصالحه على شركات العلاقات العامة والمحاماة مدفوعة الأجر، ولكن على جهود الأمريكيين من أصل إثيوبي. ففي 23 يونيو 2020م أصدرت الكتلة السوداء (من أصل إفريقي) أو البلاك كوكس في الكونجرس بيانًا أشادت فيه بالسد الإثيوبي؛ باعتبار “أن له تأثيرًا إيجابيًّا في المنطقة”.
وقد أتى البيان الذي طالَب بدور أكبر للاتحاد الإفريقي بعد انهيار المحادثات التي رعتها الولايات المتحدة في فبراير الماضي بشأن ملء السد بناء على طلب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وجاء في البيان ما يلي: “تحثّ الكتلة السوداء في الكونغرس الولايات المتحدة وجميع الجهات الدولية الفاعلة الأخرى على احترام اتفاقية إعلان المبادئ الثلاثية لعام 2015م الموقَّعة بين مصر والسودان وإثيوبيا، والاستمرار في القيام بدور محايد، والسعي فقط للحصول على مشورة الاتحاد الإفريقي والدبلوماسيين على الأرض في المنطقة… على وجه الخصوص، يلعب الاتحاد الإفريقي دورًا محوريًّا من خلال التوكيد لجميع الأطراف عن أن الاتفاق السلمي المتفاوض عليه يفيد الجميع وليس البعض فقط في القارة”.
كما هو الحال عادة مع جهود الكونجرس في مثل هذه الأمور، لم تظهر رسالة البلاك كوكس من فراغ؛ إذ على مدى أشهر، كانت منظمتان تعملان لصالح إثيوبيا في واشنطن؛ هما: المجلس المدني الإثيوبي الأمريكي، وشبكة المناصرة الإثيوبية، تحاولان تصوير المطالب المصرية إزاء سدّ النهضة على أنها من ميراث الحقبة الاستعمارية، وهو الأمر الذي ترفضه إثيوبيا. وقد لفتت جهود هذا اللوبي الإثيوبي انتباه القس جيسي جاكسون، الذي كتب خطابًا إلى رئيسة الكتلة السوداء في الكونغرس كارين باس لحثّها على توجيه اللوم لمصر.
رابعًا: عدم وضوح الموقف السوداني:
جاءت نبرة رئيس الوزراء السوداني في حديثه للرئيس ترامب عن أزمة سد النهضة هادئة، وقال: إن بلاده تسعى للتوصل لحلّ وُدِّيّ.
من المرجَّح أن المدرسة السائدة في دوائر وزارة الري السودانية، والتي لم تتغير منذ زمن الرئيس المخلوع عمر البشير لا ترى في السد خطرًا وجوديًّا على السودان، بل ربما يكون له فوائد كثيرة مثل تنظيم الفيضان والحصول على الكهرباء الرخيصة.
كما أن الحكومة الانتقالية تحاول تصوير موقفها بأنه يُعبّر عن المصالح الوطنية للسودان، وهو ما يجعلها تقف على مسافة واحدة من طرفي التفاوض الآخرين مصر وإثيوبيا. وذلك على الرغم من حقيقة أن مصر والسودان يواجهان خطرًا مشتركًا مِن قِبَل بناء سد عملاق دون التوصُّل إلى اتفاقٍ.
ولا شك أنَّ التخلّي عن الشراكة الاستراتيجية المصرية السودانية يزيد الموقف الإثيوبي صلابةً وتعنُّتًا، وهو ما يجعل التوصل لتسوية تفاوضية أمرًا بعيد المنال.
وعلى أيّ حالٍ؛ فإن تصريحات الرئيس ترامب سوف تجعل الخيار العسكري على الرغم من صعوبته عامل ضغط على أطراف التفاوض لتجنُّب تكلفته العالية وغير المحتمَلة؛ هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ أخرى سوف يعلم الجميع أنَّ هناك حلاً تفاوضيًّا ممكنًا رفضته إثيوبيا لحاجةٍ في نفسها، وأن لمصر حقوقًا تاريخيَّة لا يمكن التفريط فيها بأيِّ شكلٍ، ولها أن تستخدم كافة السُّبُل للدفاع عنها.
والعجيب أن الاتحاد الإفريقي الذي أكَّد على مبدأ الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية لا يُحرِّك ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنيه!
وعليه يُصبح التحدي الأكبر ليس هو سدّ النهضة، وإنما ما بعده خلال العقد القادم.
سوف يصبح الهدف على المدى البعيد متمثلاً في وجود توافق عامّ على نظام قانوني لإدارة هذا المجرى المائي المهم. ويتعين ألَّا يضمن مثل هذا الاتفاق تسوية النزاع على حقوق استخدام المياه فيما بين الدول المشاطئة فحسب، بل ينبغي أن يساعد في تحديد وتعريف المفاهيم الأساسيَّة بشكل إجرائيّ يمكن قياسه؛ مثل الاستخدام المنصف والمعقول والضرر الجسيم، التي استخدمتها كلّ من مصر والسودان في انتقادهما لسدّ النهضة.
ثمة إطار إقليمي لإدارة نهر النيل قائم بالفعل متمثّل في مبادرة حوض النيل التي يدعمها البنك الدولي، بَيْدَ أنَّه من المتعين على دول أعالي النيل، وعلى رأسها إثيوبيا، العودة إلى هذا الإطار التعاوني، ومحاولة حلّ الخلافات التي دفعت كلاً من مصر والسودان إلى رفض التوقيع على اتفاقية عنتيبي، واستخدامها كنموذج لنظام قانونيّ ملزم في المستقبل.
هناك حاجة ماسَّة لتفهُّم ضعف مصر المائي؛ نظرًا لاعتمادها شِبْه الكامل على نهر النيل، وقد يُسْهِم هذا التفهُّم في وَضْع بروتوكول لإدارة المياه يمكن أن يُعزِّز إلى حدٍّ كبيرٍ الاستخدام المُنْصِف والمعقول مع التقليل إلى أدنى حدّ من الضرر الجسيم الذي يلحق بدولتي المصبّ.