متوكل دقاش
أستاذ بجامعة البحر الأحمر. وباحث مهتم بالشؤون الإفريقية
تعيش إثيوبيا واقعًا مضطربًا، وتقف في محطة تاريخية ربَّما تكون فارقة بالنسبة إلى بقاء الدولة الفيدرالية. فبالإضافة إلى أزمة تأجيل الانتخابات وتفجُّر الأوضاع في إقليم أوروميا؛ فإنه لا تبدو الزفرات الحارَّة التي خرجت من صدر حكومة إقليم التيجراي عبر بيانها الأخير هي نهاية القصة.
فللقصة بقية، وسيناريوهات محتملة، ومسارات عدة؛ لكلٍّ منها ما يسندها في واقع مليء بالإشكالات والتعقيدات.
وتُعتبر الأزمة الحالية وحالة انسداد الأفق السياسي الماثلة نتيجة متوقعة؛ بعد الإجراءات التي ضمنت استمرار آبي أحمد وحزب الازدهار على سُدَّة السلطة، والتي اعتُبِرَت مِن قِبَل مُنَاوئيه انقلابًا دستوريًّا تحت غطاء قانونيّ جرى تسييسه بشكلٍ واضحٍ.
جذور المشكلة بين حكومة إقليم التيجراي والحكومة الفيدرالية:
بدأ أصل الخلاف بين إقليم تيجراي والحكومة المركزية بعد تسلُّم رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد السلطة في مارس (آذار) عام 2018م نتيجة ثورة شعبية قادتها بعض القوميات في مقدمتها قومية أورومو، ما أدَّى إلى استقالة رئيس الوزراء السابق هيلي ماريام ديسالين، وترشيح رئيس الوزراء الحالي المنتمي لهذه القومية.
وكان هذا التغيير السياسي بمثابة انقلابٍ أدَّى إلى تحجيم نفوذ قومية التيجراي التي ظلت متحكِّمة في السلطة منذ تولّي زعيمها رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي السلطة في مايو (أيار) عام 1991م، بعد إطاحته بنظام الرئيس الإثيوبي الأسبق منغستو هيلا مريام.
وعن ما تبع التغيير من أحداث وخلاف؛ يشير بعض المحلِّلين إلى أن فترة رئاسة آبي أحمد شهدت تطورات سياسيَّة؛ حيث شهدت تلك الفترة تغيُّرات مهمَّة طالت الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية -وهو الحزب الحكومي السابق-، كما أدَّى تأجيله للانتخابات القومية التي كانت مقرَّرة إلى توسيع الهُوَّة بينه وحكومة الإقليم([1]).
انتخابات ونُذُر حَرْب:
في التاسع من سبتمبر 2020م أعلنت حكومة إقليم التيجراي الإثيوبي استعدادها الكامل لإجراء الانتخابات الإقليمية السادسة في تيجراي، كما أرسلت خطابًا تحذيريًّا وُصِفَ بالخطير وغير المسبوق إلى البرلمان الفيدرالي الإثيوبي ومجلس الوزراء والأحزاب المشاركة في حكومة آبي أحمد؛ تُحَذِّر فيه مِن اتخاذ أيّ إجراءات وخطوات تستهدف شعب إقليم التيجراي وخياراته.
وهدَّدت في الخطاب -الذي تناقلته وسائل الإعلام الإثيوبية في الرابع من سبتمبر والتي وجهته إلى حكومة أديس أبابا- بأن اتخاذ أيّ إجراءات تستهدف إقليم التيجراي ستكون بمثابة إعلان حرب على الإقليم، وحمَّلت البرلمان الإثيوبي وآبي أحمد تبعات ما سيحدث في حالة التدخل، أو محاولة عرقلة إجراء الانتخابات الإقليمية المقرَّر إجراؤها في إقليم التيجراي.
وجاءت الرسالة التحذيرية في الوقت الذي دعا فيه البرلمان الفيدرالي إلى اجتماع طارئ في السابع من نفس الشهر؛ لاتخاذ قرارات مهمة بشأن مخالفة إقليم التيجراي لقرار الحكومة الفيدرالية، والمُضِيّ قُدُمًا لإجراء الانتخابات في وقتها المحدَّد.
وجاء في الخطاب الذي بعثت به حكومة إقليم التيجراي إلى الحكومة الفيدرالية بأديس أبابا أنه لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال إيقاف إجراء الانتخابات التي اعتبرتها حقًّا دستوريًّا كفله الدستور الإثيوبي للمواطنين لانتخاب مَن يحكمهم.
كما دعت حكومة التيجراي مواطنيها بالإقليم للاستعداد والتأهُّب للدفاع عمَّن يحاول سَلْب إرادتهم والتصدِّي لكافة أنواع التدخلات التي تَستهدف حرية وكرامة شعب التيجراي، كما دعا البيان كافة القوميات الإثيوبية إلى دعم ومساندة خيارات شعب إقليم تيجراي في الحرية والعدالة لكافة شعوب إثيوبيا، كما توجَّه البيان إلى المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لدعم انتخابات إقليم التيجراي والخيار الديمقراطي لشعب التيجراي، وإدانة كل محاولات التدخل والعرقلة التي تقوم به الحكومة الفيدرالية للتأثير على خيارات شعب تيجراي([2]).
وبالرغم من حالة الصمت التي قابلت بها الحكومة الفيدرالية إجراء الانتخابات التي أسفرت عن فوز جبهة تحرير إقليم تيجراي؛ إلا أنها أعلنت لاحقًا عن حزمة من العقوبات والإجراءات تجاه حكومة الإقليم، كما أعلنت عن عدم اعترافها بنتائج تلك الانتخابات.
تجدُّد الأزمة:
تشهد إثيوبيا احتقانًا سياسيًّا غير مسبوق بين الحكومة الفيدرالية وبين حكومة إقليم التيجراي. الخلاف بين الطرفين ليس جديدًا بالطبع، إلا أنه تفاقَم أكثر مؤخرًا على خلفية الخلاف على إجراء الانتخابات العامة في البلاد.
ففي حين رأت الحكومة الفيدرالية تأجيل الانتخابات، رأى إقليم التيجراي -الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي semi autonomous ضمن النظام الفيدرالي في البلاد- إجراء الانتخابات في موعدها.
وبالفعل أجرى الإقليم انتخاباته في موعدها، متجاوزًا تحذيرات الحكومة المركزية؛ الشيء الذي اعتبرته الأخيرة تمرُّدًا من حكومة الإقليم، وعطفًا عليه أعلنت بأنه لن يكون لها أيُّ علاقةٍ إداريةٍ (بيروقراطية) مع حكومة إقليم التيجراي.
بل وقرَّر البرلمان إيقافَ الميزانية المخصَّصة لإقليم التيجراي، وبدأ فعليًّا في إيقاف كافة الخدمات الفيدرالية التي يستحقّها الإقليم كعضو في الاتحاد الفيدرالي؛ ليتفاقم الخلاف من جديد، وتصل حالة انسداد الأُفُق السياسي إلى مداها الأقصى.
في مستهلّ هذا الأسبوع، أرسل رئيس إقليم التيجراي، رسالةً مفتوحةً موجَّهة إلى نحو سبعين رئيس دولة، يُحذِّر فيها من مخاطر تدهور الأوضاع في البلاد. والذي جاء فيه أن آبي أحمد يريد بناء نظام خنوع يُتيح له تحقيق طموحاته الديكتاتورية([3]).
وكانت مجموعة الأزمات الدولية قد حذَّرت في الفترة الأخيرة من تزايد مخاطر نشوب صراع بسبب الخلاف على موضوع إجراء الانتخابات بين الحكومة الإثيوبية والسلطات المحلية في إقليم تيجراي.
سيناريوهات ومسارات محتملة:
1- سيناريو المواجهة:
تصاعدت حدَّة المواجهة الإعلامية في الفترة الأخيرة بين حكومة إقليم التيجراي والحكومة الفيدرالية، وهي حالة قد تنتقل إلى مواجهة من نوع آخر -ربما مسلح- في حال بقي الجميع رهينًا للخطابات التي تُباعِد بين الطرفين.
ولا تبدو مقاربات آبي أحمد التي تنزع إلى إظهار قوة الحكومة المركزية، وسياساته الرامية إلى تضييق الخناق على حكومة التيجراي -عبر عَزْلها وتطويقها من جهة الجارة إريتريا- حكيمة بالقدر الذي يُضْعِف احتمالية المواجهة المباشرة.
2- سيناريو إضعاف سلطة الحكومة المركزية:
تُعتبر هذه المقاربة هدفًا أساسيًّا لعددٍ معتَبر من التنظيمات التي تميل إلى تقوية سردية الفيدرالية العرقية. فمنذ خروج الإيطاليين وعودة الحكم الوطني ممثلاً في حكومة الإمبراطور هيلا سيلاسي بُذلت جهود جبارة من أجل حكومة مركزية تبسط هيمنتها على الأقاليم كافة.
وهي جهود قامت على إيمان بصحة النبوءة السليمانية التي كفلت لبسطه حكم البلاد التي تعرف بالحبشة؛ والتي قامت بضم قسريّ لأقاليم وشعوب أخرى في ظل أحلامها التوسعية.
وقد استمر الحكم المركزي قويًّا إلى أن سقطت حكومة الدرق و(منغستو) بعد اجتياح ائتلاف الجبهة بقيادة (ملس زيناوي) للعاصمة أديس أبابا. وتحوَّلت بعدها الدولة دستوريًّا إلى نظام حكم فيدرالي ذي دينامية عرقية.
وفي ضوء الأزمة الحالية تتزايد المخاوف بشدة، ويطل شبح عودة قبضة الدولة المركزية. ولكن إشكالية المواجهة التي بين حكومة إقليم التيجراي والحكومة المركزية تزيد من احتمالية إضعاف سلطات الأخيرة (مستقبلاً) كمقاربة جديدة؛ تفاديًا لسيناريوهات أسوأ على شاكلة الانفصال كليًّا عبر ممارسة حق تقرير المصير الذي يكفله الدستوري الإثيوبي([4]).
3- تصاعد النزعة الانفصالية
يكفل الدستور الإثيوبي الذي وُضِعَ في أعقاب إسقاط نظام منغستو هيلا مريام حقَّ تقرير المصير لكل الشعوب الإثيوبية. وبالرغم من أن تقرير المصير يُعدّ مفهومًا مضبوطًا من الناحية القانونية والدستورية؛ إلا أنَّ ممارسته كحقّ يمرّ بكثير من التعقيدات السياسية.
وفي الحالة الإثيوبية؛ فإن التاريخ الطويل من الإحساس بالظلم والقهر والعداء تجاه مُؤسَّسات الدولة، يجعل كثيرًا من الشعوب تفكّر بصورة جادّة في مسألة تقرير مصيرها، وانفصالها، وحكم ذاتها بذاتها في ظل دُوَلها الخاصة.
وربما انخفضت حدَّة هذا الخطاب تدريجيًّا عند تطبيق نظام الحكم شبه الذاتي عبر الفيدرالية العرقية، ولكن في ظل الممارسات التي تقوم بها حكومة آبي أحمد، والتي تشبه ممارسات النُّظُم القديمة إلى حد بعيد؛ فإن عودة بروز هذه النزعة سيناريو ممكن، والتي أسمتها حكومة إقليم التيجراي في بيانها “الأفعال التمييزية والجنائية” التي تقوم بها الإدارة المركزية، والتي ربما تدفع حكومة إقليم التيجراي إلى إعلان الإقليم كيانًا مستقلاً ذا سيادة.
وقد أشار البيان أيضًا إلى “أنَّ النظامَ لم يعلن الحرب على الحكم الديمقراطي فحسب، وإنما بات يُهدِّد كذلك استمرارَ البلادِ كأمةٍ موحّدة”([5]). ليشير -ولو بشكل ضمني- إلى استعداد الإقليم للاتجاه إلى خيار ممارسة حقّ تقرير المصير -إن استمر عدم التوافق-، وبالتالي ربما الانفصال عن الدولة.
خلاصة:
ربما لا تقف السيناريوهات والمسارات المحتملة للأزمة بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم التيجراي عند الاحتمالات التي ذكرناها فقط؛ إذ إن هنالك سيناريو الحرب الأهلية أيضًا، والذي يُعَدّ ممكنًا في ظل تاريخ طويل من الشّكّ المتبادَل بين شعوب الدولة الإثيوبية. وذلك إذا ما استمر الحال على ما هو عليه؛ أي دون تبنِّي مقاربات وآليات تُجَنِّب الأطراف السياسية حتميةَ الصدام العنيف.
([1]) هاشم علي حامد محمد، هل يتجه إقليم تيجراي الإثيوبي نحو الانفصال؟، إندبندنت عربية سبتمبر 2020 الرابط: https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://www.independentarabia.com/node/150126&ved=2ahUKEwiWjPqj1d7sAhX1uXEKHeD3BdQQFjABegQIBBAB&usg=AOvVaw1pUbhFeJgj0AeScOP46BKP
([2]) المرجع السابق نفسه.
([3]) بيان حكومة إقليم التيجراي، ترجمة منصور سليمان، 27 أكتوبر 2020م.
([4]) محمود شاكر، إريتريا والحبشة، 1983م، المكتبة الإسلامية، بيروت.
([5]) مصدر سابق، الرابط https://www.facebook.com/profile.php?id=1127626693: