نشرت مؤسسة “روزا لكسمبورج” البحثية الألمانية مقال رأي بقلم أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولومبيا “مارتن بارناي”، استعرض خلاله تاريخ وحاضر الفرنك الإفريقي كعملة لطالما جرى توظيفها كأداة استعمارية في خدمة المصالح الفرنسية في القارة الإفريقية، والتي فرضتها فرنسا في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين على أربع عشرة دولة إفريقية كانت مستعمرات لها، بالتزامن مع حركات التحرُّر والاستقلال عن الاستعمار الفرنسي للقارة الإفريقية؛ حيث ظلت فرنسا هي المستفيدة من ذلك الربط القائم بين العملة الإفريقية والفرنك الفرنسي.
لقد جَنَت فرنسا العديد من المكاسب والمزايا؛ إذ أحكمت قبضتها على اقتصادات هذه الدول، وتمكنت عن طريق الفائض التجاري لهذه البلدان من مُراكمة احتياطاتها من العملات الأجنبية في البنوك الفرنسية التي يمكنها بعد ذلك استثمارها في الأسواق النقدية الدولية، لتظل بذلك الاقتصادات الإفريقية غير مستفيدة جراء ذلك الربط.
ويستعرض الكاتب خلفية تدشين هذه العملة، والأطوار التي مرَّت بها، ومستقبلها في ظل إخفاق فرنسا الحالي في تحقيق استفادة مزدوجة تعود على الشعوب الإفريقية بفائدة ملموسة، فضلًا عن استعراض المناقشات الحالية بشأن الخيارات البديلة سواء بإلغاء الفرنك الإفريقي أم إصلاحه أم طرح عُملة بديلة.
بقلم: مارتن بارناي
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
في شهر نوفمبر الماضي، أعلنت تشاد انتهاء اتفاقيتها العسكرية مع فرنسا، الأمر الذي أدَّى إلى تداعي وسقوط أحد أقدم ركائز النفوذ الفرنسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وباعتبارها مركزًا لوجستيًّا للعمليات الفرنسية في منطقة الساحل؛ كانت تشاد تخدم باريس في الماضي كما فعلت هونج كونج مع بريطانيا، وظلت مَعقلًا رئيسيًّا في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، خاصةً عقب انسحاب فرنسا من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وسرعان ما حذت السنغال وساحل العاج، اللتان استضافتا أكبر وحدة متبقية من القوات الفرنسية، حذو تشاد، وأعلنتا أيضًا انسحاب القوات الفرنسية من أراضيهما. ومع هذا القطع للعلاقات العسكرية، تُوشك فرنسا أن تقترب من نهاية حقبة تاريخية بدأت في مطلع الستينيات مع التقرب الإستراتيجي الذي قاده شارل ديجول نحو الجنوب، عندما هدَّد استقلال الجزائر الوصول إلى احتياطيات النفط في الصحراء الكبرى.
لقد جاء قرار القيادة التشادية بمثابة مفاجأة للكثيرين؛ حيث كان “إيمانويل ماكرون” هو رئيس الحكومة الوحيد غير الإفريقي الذي حضر حفل تنصيب محمد ديبي 2024م، نجل الرئيس السابق الذي قُتِلَ في اشتباكات مع المعارضة عام 2021م.
وقد كانت علامات التغيير في إفريقيا واضحة؛ فقد غابت فرنسا، بشكل ملحوظ، عن عملية عسكرية ضد “بوكو حرام” على الحدود النيجيرية في نوفمبر 2024م. والواقع أن الانسحاب الأخير للقوات الفرنسية قد مثّل نهاية فعلية للقوة الأوروبية الصارمة في غرب ووسط إفريقيا. والآن توجد جهات فاعلة أخرى نشطة بقوة في المنطقة الواقعة بين موريتانيا والسودان؛ تشمل كلاً من روسيا والصين والإمارات العربية المتحدة وتركيا.
كما تفككت الشبكة المدنية الفرنسية؛ وتضم المستشارين الفنيين والمغتربين والمنظمات غير الحكومية التي بررت وجودها العسكري، وعملت في الوقت نفسه حلقة وصل في حالة التدخلات العسكرية. وفي الوقت نفسه، تفاوضت واشنطن، التي لا تريد أن تخسر حليفًا مهمًّا في مكافحة الإرهاب بالكامل، مع تشاد في الخريف بشأن عودة فرقة من القوات الخاصة بعد سحب أفرادها من البلاد في أبريل من نفس العام.
وفي الوقت الذي تراجعت فيه فرنسا، عمَّقت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي دائرة علاقاتها الاقتصادية في المنطقة. وتفوقت ألمانيا، إلى حد كبير، على فرنسا باعتبارها المصدر الرئيسي لمنطقة اليورو إلى إفريقيا، في حين كشفت هولندا عن “إستراتيجية إفريقيا 2023-2032م” الجديدة المُصمَّمة لإحياء الروح “الديناميكية” التوسعية عالميًّا لشركة الهند الشرقية (Vereenigde Oostindische Compagnie, VOC) بروح وعقلية استعمارية جديدة. كما سلكت إيطاليا طريقها الخاص مع خطة “ماتي”، وكذلك فعلت إسبانيا تحت ستار السيطرة على الهجرة.
وفي الوقت نفسه، تجد الدبلوماسية الفرنسية نفسها مُهمَّشة أكثر فأكثر في منتديات التعاون متعدد الأطراف. ويبدو أن منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام، الذي كان ذات يوم من اختصاص فرنسا، أصبح الآن محجوزًا للصين. وفي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أَحبط التحالف الصيني الروسي، عدة مرات، القرارات الفرنسية؛ وهو انتقام دبلوماسي لمناورات باريس في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية الليبية.
فشل سياسة ماكرون:
لقد تحمَّل الرئيس ماكرون عبء هذه المشكلات من أسلافه، ولم يبذل الكثير من أجل تمييز نفسه عنهم. لقد اتسمت فترة ولايته المبكرة بالفظاظة؛ حيث انحنى على خرائط الساحل بأكمامه مشمِّرًا، وكأن عملية برخان التي يبلغ قوامها 5000 جندي يمكن أن تقترب حتى من السيطرة على مساحة خمسة ملايين كيلو متر مربع. وفي النهاية شعر بأنه مُجبَر على استرضاء نظرائه الأفارقة؛ لقد اضطر إلى الاعتراف بمذبحة تياروي التي ارتكبتها القوات الفرنسية في السنغال عام 1944م، ونظَّم عودة الكنوز الثقافية المسروقة إلى بنين.
لقد فشلت محاولاته للوصول إلى مجتمعات الشتات الإفريقي من أجل أن يتمكن من حكم إفريقيا “مع الأفارقة” من باريس فشلًا ذريعًا. ولم يكن أنصار الرئيس الإيفواري المخلوع “لوران غباغبو”، أو معارضو الرئيس الكاميروني “بول بيا”، أو أتباع رئيس جمهورية الكونغو السابق “باسكال ليسوبا”، الذي توفي عام 2020م، مستعدين للتغاضي عن دعم فرنسا المستمر للحكام المستبدّين. إن تناقض ماكرون -حيث دعَّم سلالة ديبي في تشاد، بينما ندد بالمجلس العسكري في مالي-، لم يجعل الأمور تمضي إلا نحو الأسوأ.
وردّ ماكرون على موجة قرارات الانسحاب الأخيرة باتهام دول الساحل بـ”نكران الجميل، قائلًا: “لقد نسوا أن يشكروا فرنسا على التزامها بمكافحة الإرهاب [….] لولا نشر قوات الجيش الفرنسي في المنطقة، لما كانت أي من هذه الدول ذات سيادة”.
وعلى الرغم من نبرة تصريحاته القاسية، والتي أثارت ردود فعل غاضبة من زعماء تشاد والسنغال؛ فإن تعاملات ماكرون الخرقاء مع مالي دفعت البعض إلى الشك في أن باريس كانت تبحث عن ذرائع لتسريع وتيرة انسحابها. لقد تعارضت الطريقة التي أعلن بها ماكرون انتهاء عملية برخان في يونيو 2021م مع نيته تقليص التدخل الفرنسي قبل وقت طويل من تصاعد التراشق اللفظي مع الحكام المحليين. لقد أصبح العمل أُحادي الجانب من فرنسا غير مقبول بالنسبة لحلفائها الغربيين، مما جعل التكيُّف مع المبادئ التوجيهية الدولية أمرًا لا مفر منه.
بقايا الحكم الاستعماري: الفرنك الإفريقي
وعلى الرغم من كل ما يبدو باعتباره تراجعًا للنفوذ الفرنسي في إفريقيا؛ فإن أحد أهم بقايا الحكم الاستعماري لا يزال باقيًا بالفعل؛ وهو “الفرنك الإفريقي”، الذي يُنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره آخر رافعة مهمة للسيطرة على “الفناء الخلفي” السابق.
وقد صُمِّم الفرنك الإفريقي في ثلاثينيات القرن العشرين ليكون نظيرًا للجنيه الإسترليني البريطاني، ثم قُدِّم في عام 1945م، في نفس اليوم الذي صَدَّق فيه الرئيس “ديجول” على اتفاقية بريتون وودز. وقد تم ربطه بالفرنك الفرنسي، الذي تحوَّل فيما بعد إلى اليورو، وكانت قابليته للتحويل مضمونة من قِبَل وزارة المالية الفرنسية. ومع انتهاء الاستعمار، انقسمت منطقة الفرنك الإفريقي إلى منطقتين نقديتين، ولكل منهما بنكها المركزي الخاص: الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (ويُعرف الآن UEMOA)، الذي يضم ثماني دول ويتوافق إلى حد كبير مع غرب إفريقيا الفرنسية السابقة، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (وتُعرَف الآن CEMAC)، التي تضم ست دول من إفريقيا الاستوائية الفرنسية السابقة. واليوم، تضم هاتان المنطقتان 14 دولة يبلغ إجمالي عدد سكانها نحو 160 مليون نسمة. وهناك أيضًا جزر القُمر، التي يعتمد بنكها المركزي على نموذج مماثل.
ولكن ما يزال الصمود الذي يتمتع به فرنك الاتحاد المالي الإفريقي، الذي نجا من كل الاضطرابات السياسية بعد الاستقلال، لغزًا. ففي أوائل خمسينيات القرن العشرين، أشعلت نهاية الحكم الاستعماري الهولندي لإندونيسيا نقاشًا في فرنسا حول جدوى ممتلكاتها في الخارج. ولم يسلم الفرنك الإفريقي من التحديات. ففي كل من المغرب والهند الصينية، سارعت الدول المستقلة حديثًا إلى المطالبة بالاستقلال النقدي. وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، قطع “سيكو توري” علاقات غينيا بالاتحاد النقدي في عام 1958م، وعندئذ أمر “ديجول” جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي بإغراق البلاد بأموال مزيفة ردًّا على ذلك. وغادرت مالي منطقة الفرنك في عام 1962م، ولكنها عادت في عام 1984م، في حين أدارت مدغشقر وموريتانيا ظهرهما لها في عام 1973م.
ولعل الحالة الأكثر دلالة على ذلك هي حالة توجو: ففي عام 1962م حاول الرئيس “سيلفانوس أوليمبيو”، الذي درس تحت إشراف “هارولد لاسكي” في كلية لندن للاقتصاد، ثم عمل مديرًا في شركة “يونيليفر”، أن يفكك روابط بلاده بفرنسا. وبفضل إغراءات واشنطن ودعم مستشار نقدي ألماني، وضع “أوليمبيو” خططًا لإنشاء عملة وطنية هدَّدت بكسر منطقة الفرنك. وفي أوائل عام 1963م، عندما بدا الاتفاق وشيكًا، اغتيل “أوليمبيو” في انقلاب عسكري. وتكيَّف خليفته مع المبادئ التوجيهية التي وضعتها باريس، وأعاد “توجو” سريعًا إلى منطقة الفرنك الإفريقي.
اتحاد الفرنك الإفريقي باعتباره “العبودية الطوعية”:
بالنسبة للنقاد، تكشف هذه الحلقة عن الطابع الحقيقي لاتحاد الفرنك الإفريقي باعتباره اتحادًا قسريًّا تدعمه الذراع الطويلة لقوة النظام الفرنسية، التي تخدم مصالحها حتمًا. وعلى مدى عقود، جلبت منطقة الفرنك فوائد هائلة لباريس؛ أي الوصول الآمِن إلى المواد الخام المدفوعة بعملتها الخاصة، إلى جانب العائدات من ضوابط الاستيراد. سمحت قابلية التحويل غير المحدودة للشركات الفرنسية، بتصدير الأرباح المتولدة في منطقة الفرنك الإفريقي دون التعرض لالتزامات إعادة الاستثمار المحلية أو مخاطر العملة. وقد منحتهم معرفتهم بالنظام المالي الفرنسي ميزة تنافسية على المنافسين الدوليين. وعند الحاجة، يمكنهم الاعتماد على دعم القوات القوية لفوج المظلات الحادي عشر، الذي تم نشره بالفعل في حربي الهند الصينية والجزائر. لقد أصبح الحصول على العقود العامة الكبيرة في إفريقيا، المضمونة من خلال دوامة من العمولات والرشاوى، ركيزة أساسية للحياة السياسية في فرنسا. وتحديدًا، عملت شركة النفط “إلف”، مع شبكتها المشبوهة من الوسطاء الذين يستخدمهم أنصار “شارل ديجول” والاشتراكيون، كمُحرّك مالي مهمّ لنظام الحزبين في الجمهورية الخامسة.
كما يمكن تفسير استقرار العُملة أيضًا من خلال عوامل محلية؛ حيث أثبتت اقتصادات منطقة الفرنك قدرتها على الصمود نسبيًّا في فترات الأزمات -مؤخرًا أثناء جائحة كورونا-، وأبقت على ثقة الأسواق. كما يمكن أن تشكل تخفيضات قيمة العملة إشكالية لحكومات البلدان الأخرى، وهو ما يتضح من انتخابات عام 2024م في غانا؛ حيث عُوقِبَ الحزب الوطني الجديد الحاكم مِن قِبَل المتقاعدين والطبقة المتوسطة بعد انهيار عملة البلاد، السيدي (GHS)، في عام 2022م. فمنذ الاستقلال حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بلغ متوسط التضخم السنوي في بلدان منطقة الفرنك سبعة في المائة فقط، مقارنة بأكثر من 75 في المائة في بقية القارة. ومنذ تبنت فرنسا اليورو، كان الحد الأقصى ثلاثة في المائة. وقد دفع هذا الاستقرار غينيا الاستوائية وغينيا بيساو إلى الانضمام إلى اتحاد الفرنك الإفريقي، على الرغم من عدم وجود روابط استعمارية بينها وبين فرنسا.
أما بالنسبة إلى نخبة الكومبرادور -رجال الأعمال المحليين المرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالمصالح الاقتصادية الأوروبية أو الغربية–، فهناك مزايا واضحة لضمان قابلية التحويل للعملات، فهذا من شأنه أن يسمح لهم بتراكم الثروة في المراكز المالية الآمنة في منطقة اليورو. وفي الوقت الذي أدَّى فيه هروب رأس المال إلى التآكل النقدي للدول الأعضاء في منطقة الفرنك الإفريقي، يزعم المُدافعون عن العقيدة النقدية الاستعمارية أن استقرار النظام يحمي القطاعات الأكثر فقرًا في المجتمع، التي لا تستطيع الوصول إلى العُملات الأجنبية، من التأثيرات المدمّرة لموجات التضخم.
في المقابل، يصف المُنتقدون عضوية منطقة الفرنك بأنها “عبودية طوعية”، فيما تظل باريس هي المُحرّك للنظام؛ إذ تُجري التعديلات بحسب الضرورة، ولا تُقدم التنازلات إلا عندما يتطلب الأمر الحفاظ على النظام. وعندما تسبَّب انهيار “بريتون وودز” في عام 1971م في إثارة اضطرابات في بلدان منطقة الفرنك؛ ردَّ الرئيس “جورج بومبيدو” بشغل المناصب العُليا بموظفين أفارقة ،ونَقل مقار البنوك المركزية إلى داكار وياوندي، وهي التدابير التي لم تَرْقَ إلى مستوى دعوة الخبير الاقتصادي “سمير أمين” للعودة إلى العُملات الوطنية. وقد دعم نهج مماثل، ألا وهو، إصلاح الاتحاد النقدي لغرب إفريقيا في عام 2019م، والذي نُفِّذ على خلفية الوضع غير المستقر في منطقة الساحل والتوترات المتزايدة داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. وأنهى الإصلاح تمثيل وزارة المالية الفرنسية في اللجنة النقدية لغرب إفريقيا، وهي الهيئة الفعلية لصنع القرار في المنطقة، على الرغم من أن باريس تمكَّنت من الحفاظ على نفوذها في الهيئة. وفي الوقت نفسه، احتفظ بنك فرنسا بموقفه المؤثر في اللجنة النقدية لوسط إفريقيا.
إخفاقات فرنسا:
تتعلق الكثير من الانتقادات الموجَّهة إلى إدارة فرنسا لنظام الفرنك الإفريقي بإخفاقات فرنسا المزعومة في الوفاء بدورها كضامن للعُمْلة، وهو الدور الذي استُخدِمَ ظاهريًّا لتبرير مركزية العملة. وبلغت التوترات ذروتها أثناء أزمة الديون في ثمانينيات القرن العشرين. وأدَّت صدمتا أسعار النفط في سبعينيات القرن العشرين إلى اقتراض مفرط من جانب البلدان المستوردة للطاقة، في حين غمرت العائدات الفائضة من صادرات النفط البنوك الغربية وغذَّت ما يُسمَّى بسوق (اليورو دولار).
وفي منطقة الفرنك، مَوَّلت القروض الرخيصة توسيع جهاز الدولة ومشاريع البنية الأساسية الحضرية، وخاصةً في أبيدجان. وسَعَى الرئيس الإيفواري آنذاك، فيليكس هوفويه بوانيي، إلى “إضفاء الطابع الأوروبي” على العاصمة، وتأكيد تفوُّقها على داكار ولاجوس. ولكن تحوَّلت الأمور فجأة في أوائل الثمانينيات، عندما ارتفعت وتيرة الإنفاق على وتيرة سداد الديون الخارجية في أعقاب رفع أسعار الفائدة مِن قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وأدَّى تخلُّف المكسيك عن سداد ديونها إلى انهيار تدفقات رأس المال في عام 1982م. وتفاقمت الأزمة في منطقة الفرنك الإفريقي بسبب خفض الرئيس “فرانسوا ميتران” قيمة الفرنك الفرنسي، الأمر الذي تسبَّب في اتساع الفجوة بين الفرنك الإفريقي والدولار الأمريكي، مما أسفر عن زيادة العجز التجاري، وزيادة فوائد الديون، وإرغام باريس على إنقاذ اقتصاد كوت ديفوار المتردي.
وفي مطلع تسعينيات القرن العشرين، انخفضت حصة احتياطيات النقد الأجنبي التي أودعتها دول منطقة الفرنك الإفريقي لدى وزارة المالية الفرنسية إلى ما دون الحدّ المقرَّر وهو 20%. وبعد فشل برامج التكيُّف الهيكلي التي تبناها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خفَّضت فرنسا قيمة الفرنك الإفريقي بنسبة 50% في عام 1994م، على الرغم من المقاومة الشرسة من جانب رؤساء الدول والحكومات الإفريقية. ومن أجل تجنُّب تحمُّل المسؤولية عن ذلك شخصيًّا؛ اعتمد “ميتران” على مؤسسات إجماع واشنطن، وخاصة صندوق النقد الدولي ومديره آنذاك، ميشيل كامديسو، محافظ بنك فرنسا السابق. وقد ترك خفض قيمة الفرنك ندوبًا عميقة، وأظهر أن الاتحاد النقدي لم يكن قادرًا على الوفاء بوعوده الأساسية، وخاصة التكامل الإقليمي؛ حيث ركدت التجارة المحلية داخل منطقة الفرنك الإفريقي عند مستوى هزيل بلغ 15%، في حين تجاوزت 60% في منطقة اليورو. ولا تزال الدول الأعضاء تعتمد على تصدير المواد الخام مثل القطن، الذي تبيعه دول الساحل غير مُعالَج في السوق العالمية. ورغم أن نظام العُملة الإفريقية جعل من الأسهل على الشركات الفرنسية ممارسة الأعمال التجارية في المنطقة، إلا أنَّه قلَّص من القدرة التنافسية للصناعة المحلية مع الموردين النيجيريين والغانيين، الذين يستفيدون من مرونة السياسة النقدية.
وعلى مدار فترات طويلة، لم يخدم الفرنك الإفريقي إثراء مركز فرنسا بقدر ما كان يسيطر عليه، وخاصةً منذ فتح الانتقال إلى اليورو الباب أمام المنافسة الأوروبية. ورغم أن مصالح رأس المال الفرنسي في إفريقيا لا تزال كبيرة، فإنها تمثل الآن، إلى حد كبير، خليطًا جغرافيًّا وقطاعيًّا مُحددًا. لقد بدأ هذا التراجع في وقتٍ مبكر من ثمانينيات القرن العشرين، في نفس الوقت الذي ظهر فيه أحد أشكال “التشاؤم الإفريقي” بين النخبة الاقتصادية. وقد روَّج لهذا الشعور شخصيات متنوّعة مثل مؤيد الفصل العنصري “برنارد لوجان”، والصحفي السابق في صحيفة “ليبيراسيون” ستيفن سميث، الذي تحتفل به مؤسسة ماكرون الآن باعتباره زعيمًا لعرق المهاجرين الأفارقة “إلى أوروبا”. واليوم، لا تمثل التجارة مع بلدان منطقة الفرنك سوى جزء ضئيل من الاقتصاد الفرنسي؛ حوالي عشرة في المائة فقط من واردات ما يُسمَّى بالمواد الخام الإستراتيجية.
وعلى الرغم من أن العملة لا تُمثل فائدة كبيرة بالنسبة إلى باريس في الوقت الراهن، إلا أنها استخدمت نفوذها مرات عديدة للتدخل في الصراعات الإقليمية. وخلال الأزمة السياسية المطولة في ساحل العاج خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي بلغت ذروتها في تَجدُّد الحرب الأهلية عقب مرحلة الجمود في انتخابات عامي 2010 و2011م؛ دعم الرئيس “نيكولا ساركوزي” صديقه المُقرب “الحسن واتارا” ضد الرئيس آنذاك “لوران غباغبو”. وفي ذلك الوقت، هدَّد اتحاد غرب إفريقيا بتجميد وصول “غباغبو” إلى الحسابات الحكومية، في حين أغلقت البنوك الفرنسية فروعها في أيام الأسبوع، مما أدَّى إلى تعطيل دفع الأجور وزيادة الضغوط على النظام. وفي الآونة الأخيرة، كانت القيود النقدية المماثلة، إلى جانب عقوبات الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، كالسيف المُسلَّط فوق رؤوس الأنظمة الجديدة لتحالف الساحل -النيجر وبوركينا فاسو ومالي-؛ مما دفعها مؤخرًا إلى الانفصال عن (إيكواس). كما أن استخدام أدوات السياسة النقدية وسيلةً للضغط السياسي يثير مسألة تقرير المصير الإقليمي، فضلًا عن إثارة انتقادات مماثلة لتلك التي عبَّرت عنها الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، بشأن الدولار الأمريكي.
أولويات متباينة:
في غضون ذلك، تبدو التناقضات الداخلية غير قابلة للاستمرار على نحو مطرد. فقد أدَّى عدم الاستقرار السياسي إلى بزوغ جيل جديد من القادة الأفارقة الذين يُعارِضون الظُّلم الهيكلي للنظام، مُستفيدين من الانتقادات التي وُجِّهت إليهم في حِقْبة ما بعد الاستقلال. وفي يناير 2017م، أحرق الناشط الإفريقي كيمي سيبا -الذي كان ذات يوم شخصية مهمشة في المجتمع الفرنسي على الإنترنت، ولكنه الآن شخصية مؤثرة في التحريض المناهض لفرنسا في القارة الإفريقية-، ورقة نقدية بقيمة 5000 فرنك إفريقي أمام كاميرات التلفزيون في تجمع حاشد في داكار. وقد بلغت هذه الموجة من التعبئة، التي هزت بوركينا فاسو أيضًا ذروتها مع الفوز الانتخابي لحزب باستيف في السنغال في مارس الماضي، والذي خاض حملته الانتخابية بشكل رئيسي على أساس معارضته للفرنك الإفريقي.
وعلى الرغم من الدعوات المتجددة لإلغاء الفرنك الإفريقي؛ إلا أنه لا يوجد إجماع على ما ينبغي أن يَحلّ محله؛ سواء كان إصلاح الفرنك الإفريقي، أو إدخال العملات الوطنية، أو تدشين نظام جديد تمامًا لتحقيق التكامل الإقليمي.
إن الاقتراح البديل الأكثر واقعية حتى الآن هو (الإيكو)، وهي عُملة موحدة مشتركة لدول غرب إفريقيا. وقد تم طرحها في الأصل في ثمانينيات القرن العشرين مِن قِبَل الدول الناطقة باللغة الإنجليزية بقيادة نيجيريا للحد من النفوذ الفرنسي. ومنذ ذلك الحين، أصبح (الإيكو) أداة تستخدمها لاجوس لتعزيز التحالفات، وتأكيد دورها القيادي، سواء في مواجهة أبيدجان أو لموازنة الهيمنة الإستراتيجية الصناعية لجنوب إفريقيا.
لكنّ التحول إلى (الإيكو) يُثير تساؤلات شائكة؛ فهل ينبغي ربطه باليورو، أو بمجموعة من العملات الأخرى -مثل اليوان، أو الروبل، أو الدولار الأمريكي-، أم تركه لقوى السوق الحرة؟ كل سيناريو من السيناريوهات ينطوي على مخاطر زيادة الاعتماد على دورات اقتصادية متباينة. فهل تتولى نيجيريا، أكبر مُصدِّر للنفط في القارة، دور المُقرض الأخير؟
إن المراوغة مع مثل هذه الأسئلة عند تقديم المشروع يشير إلى خلاف ذلك. فقد كان من المفترض أن يحل (الإيكو)، الذي أعاد ماكرون وواتارا إحياءه كجزء من إصلاحات عام 2019م المذكورة أعلاه، محل الفرنك الإفريقي في اتحاد غرب إفريقيا بحلول عام 2020م؛ وهو الجدول الزمني الذي رأى المراقبون أنه تم رفضه سريعًا؛ لافتقاره إلى واقعية التنفيذ، وتم تأجيله إلى أجل غير مسمى بحجة أزمة كورونا. ورأى الكثيرون في هذا الدفع محاولة من باريس وأبيدجان للتقدم على الكتلة الناطقة باللغة الإنجليزية. وفي عام 2021م، عادت مجموعة “إيكواس” بمناقشة (الإيكو) وحددت عام 2027م كخارطة طريق جديدة. لكن التقدم في التنفيذ الفني كانت بطيئة الخُطى، ويبدو أن معايير التقارب المُقترحة بعيدة المنال بالنسبة لمعظم الدول الأعضاء في الاتحاد.
ورغم خطاب التضامُن بين بلدان إفريقيا، فلا تزال الانقسامات العميقة قائمة. ففي السنغال، تتأرجح الحكومة الجديدة بين الحفاظ على النظام القائم والانفصال التام. ويميل تحالف الساحل نحو التكامل الإقليمي الفرعي دون التخلي عن مبدأ العملة المشتركة. وهذا يعني أن النيجر وبوركينا فاسو ومالي- وهي ثلاث من أفقر بلدان العالم – سوف تواجه منافسة من العملة الإفريقية الموحدة أو من عملة (الإيكو) المقترحة.
وهناك أيضًا تباينات كُبرى بين الاقتصادات الإفريقية؛ بين بلدان الساحل التي لا تشهد سوى موسم جفاف واحد والدول الساحلية التي تشهد موسمين؛ وبين البلدان شبه الصناعية مثل السنغال أو كوت ديفوار وجيرانها الذين يعتمدون على صادرات السلع الأساسية. وتعكس المناقشات الحالية حول مستقبل اتفاقية الفرنك الإفريقي أيضًا التغير الاقتصادي الجاري في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فقد أدَّت الاكتشافات النفطية الأخيرة قبالة سواحل السنغال والاستكشافات الواعدة في النيجر إلى تحويل هذه البلدان إلى دول مُصدِّرة للسلع الإستراتيجية. وقد يؤدي ذلك التحول إلى تفاقم الدورات التجارية غير المتوازنة داخل منطقة الفرنك وإثارة التساؤلات حول مبدأ الاحتياطيات النقدية المشتركة. وقد تتحول بلدان مثل السنغال، التي كانت ذات يوم مستفيدة من النظام، إلى مساهمين صافين وترفض تمويل هيكل مشترك كانت تعتمد عليه حتى الآن.
إن الاستقرار الظاهري للعُملة يُخفي أيضًا حقيقة متقلّبة. وفي الوقت نفسه، تتغذَّى التنافسات الإقليمية على التوترات الجيوسياسية. فمنذ غزو روسيا لأوكرانيا، ورفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة، أدَّى هبوط اليورو مقابل الدولار إلى تفاقم عبء الديون المُقوّمة بالدولار على بلدان منطقة الفرنك. ونظرًا للعجز التجاري المستمر في منطقة الفرنك الإفريقي، يعتمد استقرار الفرنك على تدفقات النقد الأجنبي المنتظمة القادمة من أقوى أعضائها، مثل ساحل العاج في غرب إفريقيا، والدول الصغيرة المُنتجة للنفط في وسط إفريقيا، التي يظل فائض إنتاجها عُرضة لتقلبات الأسعار العالمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: