توظّف إثيوبيا قوّتها الاقتصادية النسبيَّة في منطقة القرن الإفريقي لصالح تعزيز دورها الإقليمي بشكل متصاعدٍ، وتفادي مزيد من الضغوط الداخلية على النظام الفيدرالي القائم، كما تعزّز بشكل واضح دورها السياسيّ والأمنيّ في الإقليم، بالشراكة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، بأدوار اقتصادية تظل قائمة في الإقليم على نموذج “مثالي” منذ عقود؛ بحيث تتولَّى أديس أبابا تنسيق عمليات التكامل الاقتصادي الإقليمي، وتشبيك عمل القطاعات المختلفة في المنطقة (لا سيما البنية الأساسية واللوجستيات والخدمات والطاقة)، بما يضمن تحقيق المصالح الإثيوبية ذات الأولوية، ويُدِرّ عائدًا سريعًا، وربما مُبَالَغًا في تقديره في أحيانٍ أخرى، يُسْهِم في تعزيز خُطَط الإصلاح الاقتصادي لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
الاقتصاد الإثيوبي: قراءة رسميَّة “انتقائيَّة”؟
احتفى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد -في خطابه أمام “مجلس نواب الشعب” منتصف أكتوبر 2020م- بنجاعة الاقتصاد الإثيوبي في السنة المالية المنتهية في 8 يوليو 2020م، مقدّرًا أن البلاد شهدت نموًّا اقتصاديًّا بنسبة 6,1% بالرغم من الضغط العالمي الذي فرضته تداعيات جائحة كوفيد-19، معتبرًا أن النسبة مشجّعة مقارنةً بالتوقع الاقتصادي العالمي، وإن تراجعت إلى 2,9% عن المتوقع في حينها، وبقاء الاقتصاد الإثيوبي صامدًا بالرغم من الجائحة([1]).
ولفت آبي أحمد إلى تجاوز الناتج المحليّ الإثيوبيّ للمرَّة الأولى حاجز المائة بليون دولار (107,4 بليون دولار)، مما قاد إلى زيادة نصيب الفرد من الدخل القومي إلى نحو 1000 دولار سنويًّا. حيث حقَّق قطاع الصناعة نموًّا بنسبة 9%، وسجل قطاع الخدمات نموًّا قدره 9,3%، فيما حقّق قطاع التعدين زيادة كبيرة قاربت الضعف (91%). كما حقّق القطاع المالي نموًّا بقيمة 10,2%، كما حقّق قطاع الزراعة، أهم قطاعات الاقتصاد الإثيوبي من عدة نواحٍ، زيادة 4,3%([2])؛ فيما توقعت نشرة حديثة لصندوق النقد الدولي عن توقعات النمو في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي أن يصل نموّ الناتج القومي في إثيوبيا عن العام 2020م إلى 1,9% فقط([3]).
ويمكن أن يفسّر هذا التضارب تزامن تصريحات آبي أحمد مع قرار الحكومة الإثيوبية باستبدال العملة الحالية (أوراق بقيمة 10، 50، 100، 200 بير)؛ أملًا في تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة؛ ترقُّبًا لتغييرات اقتصادية كبيرة في السنة المالية الحالية في إثيوبيا، ومن بينها: تغيير النظام النقدي الإثيوبي، وضمان تنظيم تداول العملة وتقنينه، وجعل السياسة النقدية أكثر كفاءة عبر دخول مزيد من الأموال في البنوك الإثيوبية([4]).
وربما قادت هذه السياسة المالية الملتبسة إلى اضطراب الأرقام التي عوَّل عليها آبي أحمد؛ إذ أقدم نحو 51 مليون إثيوبي على فتح حساب مصرفي جديد لهم، شهدت تدفق ودائع للمواطنين تجاوزت 37 بليون بير، إضافة إلى ضخّ الحكومة نحو 271 بليون بير من العملة الجديدة، منها 70% للقطاع الخاص وحده، وهو رقم يتجاوز معًا 10% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي الذي أعلنه آبي أحمد([5])، ويلقي شكوكًا حول دقّة الرقم مع التباس السياسات المالية الإثيوبية في هذه المرحلة، وما هو معروف عن الجهاز الإداريّ الإثيوبيّ بعدم دقَّة إحصاءاته تاريخيًّا.
وفي المقابل؛ تعمل إثيوبيا بقوَّة منذ تولّي آبي أحمد على تعزيز شبكة الشركاء الدوليين والإقليميين؛ لتمكينها من مواصلة العمل في مجموعة واسعة من أنشطة الإصلاح الاقتصاديّ؛ لا سيما مجموعة البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والدول الغنية وشركاء التنمية.
وتعتمد إثيوبيا على القروض والمِنَح الدولية بشكل ملحوظ في استمرار “النموّ الاقتصاديّ”، واعتباره الأوّل إفريقيًّا حتى نهاية العام 2019م؛ وتجلَّى هذا الدعم في تصديق البنك الدولي على تقديم 400 مليون دولار منحة من مؤسَّسة التمويل الدولية International Development Association (IDA) لإثيوبيا؛ لدعم جهودها لتحسين دخل سكان الحضر، وتعزيز شمول شباب الحضر في سوق العمل تحت مظلات أمان إنتاجيّ ومشروعات خَلْق فرص العمل. كما يُعزّز دعم مؤسسة التمويل وبقية شركاء إثيوبيا في رفع القيود المفروضة على الحكومة في أنشطة البنية الأساسية، والتنمية، والإنتاج الزراعي، وفرص العمل، وتحسين دخل أرباب الأسر، والتقدم التكنولوجي([6]).
لكن ما سبق لا ينفي تحقيق إثيوبيا نموًّا مهمًّا وإن ظل نسبيًّا بطبيعة الحال، ففي منتصف أكتوبر 2020م كشف صندوق النقد الدولي عن نظرته السلبية للنمو العالم عن العام 2020م بتوقع تراجعه بنسبة 4,4%، فيما يكافح العالم لمواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19 الأكثر سلبية على العالم في غضون قرن كامل تقريبًا. وتوقع البنك تحقيق إثيوبيا، ضمن قائمة دول إفريقية شملت بتسوانا، وغانا، وساحل العاج، وغينيا، وكينيا، وتنزانيا، نموًّا إيجابيًّا في العام 2021م([7]).
الاقتصاد الإثيوبي والدور الإقليمي:
تقوم النظرة الإيجابية التي تكتسبها إثيوبيا إفريقيًّا كدولة سريعة النموّ على دعم الاستثمارات العامة التي قادت طوال العقد الفائت إلى تحقيق هذا النمو السريع وتحسّن مستويات المعيشة؛ فيما قاد من ناحية أخرى إلى تصاعد الديون والثغرات الخارجية، فيما أكَّد متخصصون بصندوق النقد الدولي مطلع العام الجاري ضرورة إجراء الحكومة الإثيوبية لإصلاحات جذرية عاجلة لتصحيح اختلالات الاقتصاد الكليّ، وتيسير الاختناقات الهيكلية، ووضع أساس لنموٍّ مستدامٍ وشامل بقيادة القطاع الخاص([8]).
وكان الصندوق قد راجع في مايو 2020م نظرته للنموّ الاقتصادي في إثيوبيا من 6,2%، و6,1% للعامين 2019/2020م، و2020/2021م إلى 3,2%، 3,7% على التوالي. وأن التعافي الإثيوبي لن يبدأ إلا في الربع الأخير من العام الحالي 2020م مع بقاء النتاج المحلي الإجمالي الحقيقي دون توقعات ما قبل صدمة كوفيد-19 على المدى المتوسط([9]).
وبشكل عام؛ فإن إثيوبيا تسعى لتعزيز مكانتها الاقتصادية الإقليمية عبر ربط انفتاحها على فرص الاستثمارات الأجنبية مع مشروعات مشتركة مع دول الجوار لا سيما إريتريا وجيبوتي.
ويعمل إثيوبيون في الخارج على تأسيس بنكين تجاريين للعمل في إثيوبيا والمنطقة برأسمال يتجاوز 400 مليون دولار في الفترة المقبلة، مع ما تشهده البلاد من قفزة في تحويلات الإثيوبيين في الخارج من متوسط 4 بلايين دولار سنويًّا قبيل العام 2018م إلى متوسط 5.% بليون دولار في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
ومن القطاعات المهمة التي تشجّع إثيوبيا فيها الاستثمارات الأجنبية: قطاع الإسمنت؛ حيث تتّجه أديس أبابا لتقديم رُخَص إنتاج للإسمنت للعمل إلى جانب الشركة الحكومة “دانجوت للإسمنت” Dangote Cement؛ بهدف تلبية الحاجات المحلية واحتياجات دول الجوار. كما حُرّر قطاع الدعم اللوجستي جزئيًّا وَفْق التشريعات الاقتصادية الجديدة واشتراط عمل مشروعات مشتركة مع الشركات المحلية وغير مسموح بأن يملك المستثمرون الأجانب حصة تتجاوز 51%. وحرَّرت أديس أبابا قطاع الطاقة تمامًا باستثناء عمليات تصدير الكهرباء التي تحتكرها الحكومة لأسباب سياسية في المقام الأول([10]).
وقد بنى آبي أحمد مكانته الدولية في توقيت مبكر من تقلده مسؤولية البلاد على اتفاق السلام “التاريخي” مع إريتريا (يوليو 2018م) الذي لم يشهد إنجازًا حقيقيًّا لمخرجاته على الأرض حتى الآن، باستثناء استئناف الرحلات الجوية بين أسمرا وأديس أبابا، وإعادة العمل بخطوط الهواتف الأرضية بين البلدين.
وفيما يتعلق بالشقّ الاقتصاديّ كان من المتوقع أن يترتّب على الاتفاق مشروعات بنية أساسية ولوجستية واستخراجية مشتركة بين البلدين، مع توفُّر تمويل خليجي تم التعهُّد به في زخم الوصول للاتفاق. إضافة إلى التوقعات المبالَغ فيها منذ ذلك الوقت بقرب إنجاز تكامل اقتصادي إقليمي بين دول القرن الإفريقي وعمل إريتريا وإثيوبيا معًا على تسوية النزاعات الثنائية بين دول المنطقة([11])، مما يؤشّر على مقاربة إثيوبية برجماتية وغير عملية في آنٍ واحدٍ تجاه مسألة التكامل الاقتصادي الإقليمي في القرن الإفريقي.
التعاون الاقتصادي الإقليمي: المشروطيات وأزمة الوكالة الإثيوبية:
تداعت عقب اتفاق السلام الإثيوبي-الإريتري (يوليو 2018م) أنباء عن خطط تفعيل تعاون إقليمي وثيق بين دول القرن الإفريقي تقوده إثيوبيا، وتكررت زيارات ثنائية وقمم جماعية بين قادة دول المنطقة منذ ذلك الوقت، كان آخرها قمة ثلاثية بين إثيوبيا والصومال وإريتريا في يناير 2020م في أسمرا؛ حيث اتفق قادة الدول الثلاثة على خطة مشتركة للعمل الاقتصادي فيما اعتبره مراقبون خطوة إيجابية نحو استقرار القرن الإفريقي.
وكشف وزير الإعلام الإريتري وقتها عن ثلاثة أهداف رئيسة لخطة العمل المشتركة للعام الحالي Joint Plan of Action for 2020، وهي: ضمان السلم والاستقرار، وتطوير اقتصادات الدول الثلاثة، وتعزيز التعاون الإقليمي الشامل([12])، وحظيت هذه الخطوات بدعم لافت من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتأكيد على دور إثيوبيا في قيادة هذا “التحول”.
وفي الوقت الذي تواجه فيه إثيوبيا مشكلات اقتصادية هيكلية، كما يتّضح في قرار استبدال العملة الوطنية مؤخرًا -وطبع عملة جديدة في الخارج- لإعادة تمكين الدولة من القيام بمهامها بكفاءة معقولة، رغم ما لذلك من تداعيات سلبية متوقعة أبرزها تحقيق “نموّ وهميّ” يوجّه للاستهلاك الإعلامي؛ فإن أديس أبابا تسعى بكل قوة لتوظيف “برنامجها الاقتصادي” لتعزيز دورها الإقليمي عبر فرض مشروطيات خطيرة في علاقاتها مع دول مثل الصومال (تصل إلى انتهاك سيادة الأخير عسكريًّا واقتصاديًّا في شمالي البلاد، وفي المناطق الحدودية الجنوبية الغربية التي تشهد مؤشرات متزايدة على وجود إنتاج بترولي بها)، وتنسيق كامل مع إريتريا في المرحلة الحالية لتكثيف ضغوط أديس أبابا على إقليم التيجراي، وقمع توجّهه الانفصالي بتداعياته المتوقعة على الدولة الإثيوبية وإريتريا بدرجة مساوية تقريبًا.
غير أن التوتر الحالي الذي تقارب به إثيوبيا جارتها السودان، وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن الضرر الذي تُلحقه إثيوبيا بمصر (23 أكتوبر الجاري)، في أعنف انتقاد أمريكي رسميّ لإثيوبيا منذ عقود، والتحولات المرتقبة في الصومال نهاية العام الجاري ومطلع العام المقبل؛ ربّما يشير إلى أزمة مؤكدة لدور الوكالة الذي اضطلعت به إثيوبيا في تنسيق الأدوار الدولية والإقليمية في منطقة القرن الإفريقي، يعزّز ذلك التحديات الحقيقية التي تواجه الاقتصاد الإثيوبي في أكثر من قطاع لا سيما السياحة والخدمات والاتصالات، وانكماش الاستثمارات الخارجية المباشرة في الفترة الراهنة، وعلى المدى القصير.
[1] Ethiopia Registers 6.1% Economic Growth Last Fiscal Year – PM, All Africa, October 19, 2020 https://allafrica.com/stories/202010190824.html
[2] Ethiopia GDP surpasses $100 billion says PM Abiy, New Business Ethiopia, October 19, 2020 https://newbusinessethiopia.com/economy/ethiopia-gdp-surpasses-100-billion-says-pm-abiy/
[3] Victor Amadala, Kenya’s economy to grow by 1%- new IMF outlook, the Star, October 14, 2020 https://www.the-star.co.ke/business/kenya/2020-10-14-kenyas-economy-to-grow-by-1-new-imf-outlook/
[4] Bacha Zewdie, Ethiopia: The Proper Period to Measure the Impact of the Currency Change On the Economy, the Ethiopian Herald, October 20, 2020 https://www.press.et/english/?p=29186#
[5] Ethiopia Records 6.1% Economic Growth, Geeska Africa, October 19, 2020 https://www.geeskaafrika.com/ethiopia-records-6-1-economic-growth/
[6] Tsegaye Tilahun, Ethiopia: Grants Boosting Economic Reform, the Ethiopian Herald, October 8, 2020 https://www.press.et/english/?p=28580
[7] IMF Estimates a 3% Growth Contraction for Sub-Saharan Africa, Africa News, October 13, 2020 https://www.africanews.com/2020/10/13/imf-estimates-a-3-growth-contraction-for-sub-saharan-africa/
[8] IMF Executive Board Concludes 2019 Article IV Consultation with The Federal Democratic Republic of Ethiopia, IMF, Press Release No. 20/19, January 28, 2020 https://www.imf.org/en/News/Articles/2020/01/28/pr2019-ethiopia-imf-executive-board-concludes-2019-article-iv-consultation
[9] Brook Abdu, IMF revises growth projections amid COVID-19 crisis in Ethiopian, The Reporter, May 9, 2020 https://www.thereporterethiopia.com/article/imf-revises-growth-projections-amid-covid-19-crisis-ethiopian
[10] Samuel Getachew, Ethiopia further opens up sectors to diaspora and foreign nationals, the Africa Report, October 9, 2020 https://www.theafricareport.com/44673/ethiopia-further-opens-up-sectors-to-diaspora-and-foreign-nationals/
[11] Endale Assefa, Ethiopia: Towards Beefing Up Ethio-Eritrea Economic Cooperation, the Ethiopian Herald, October 15, 2020 https://allafrica.com/stories/202010150414.html
[12] Marianna Aslund, Horn of Africa Summit Consolidates Peace & Security, The Caravel, February 6, 2020 https://www.thecaravelgu.com/blog/2020/2/5/horn-of-africa-summit-consolidates-peace-amp-security