نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
هل تصوَّرت يومًا خلال طفولتك أن تفارق عائلتك قسرًا، أو أن تذهب لتحتمي في الأدغال لتجد أنك أصبحت مُجنَّدًا ضمن صفوف إحدى العصابات المسلحة، لتخوض حربًا شعواء لا تعرف شيئًا عنها؟!
هذا ما حدَث بالفعل للطفل “آغو” بطل رواية “وحوش بلا وطن” للكاتب النيجيري أوزودينما أيويلا، الذي أجبرته الحياة على أن يتحوَّل من طفل هانئ يلهو ويتسامر مع إخوته في قريته الإفريقية البسيطة إلى طفل يبتعد عن أهله، إثر حرب أهلية مزَّقت بلاده، بين مَن نزح قسرًا، ومَن أصبح في عداد الموتى، لتُنتَزع منه طفولته، ويُجبَر على التدرُّب على فنون القتال العنيفة (كحمل البنادق والسكاكين). وخلال هذه المشاهد التي تقسو على قارئها، تتساءل: ماذا حدث إذًا لمَن عاشوا الأمر، لا مَن قرأ عنه فحسب؟
أولًا: أهمية رواية “وحوش بلا وطن”
تكمن أهمية هذه الرواية في محاولتها تسليط الضوء على ظاهرة غير إنسانية شائعة الحدوث في القارة الإفريقية (ومناطق أخرى من بلدان العالم، لكننا نُركّز هنا على إفريقيا وفقًا للرواية)، ألا وهي تجنيد الأطفال خلال الصراعات المسلحة التي تَعصف باستقرار عددٍ ليس بالقليل من بُلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كمقاتلين يحملون السلاح ويقتلون الأبرياء، ويترعرعون بين الأدغال وعجلات الشاحنات والمقاعد الخشبية التي لا تخلو من شظايا مؤلمة.
تحاول الرواية خلق هذا السرد على لسان الصبي “آغو” الذي فَقد عائلته، وانتُزعت منه طفولته الهانئة، ومعه يتَّسع سرد الطفل ليصف ما يُعانيه وسط الميليشيا التي يفتح عينيه ليجد نفسه أحد أعضائها، بل اليد اليمنى لقائد التنظيم الذي يستغلّه بشتَّى صنوف الاستغلال الممكنة، حتى يظن الصبي بل ويتأكد أنه بات وحشًا، على نحوٍ رسَّخ لديه فكرة أنه لا يُمكنه التعامل مع مَن حوله، بل لا يستحق ذلك، حتى بعد نجاته من الجماعة المسلحة، فهو لم يَعُد بعد الآن طفلًا بريئًا، بل قاتل جزار ارتوى ظمؤه بدماء الكثير من الأبرياء.
جدير بالذكر أن الرواية فور صدورها لاقت استحسانًا واسعًا، منذ إطلاقها بالإنجليزية في باكورة أعمال الكاتب النيجيري أوزودينما أيويلا عام 2005م، وحتى مع صدور النسخة العربية في عام 2024م، كما أنها تحوَّلت إلى عرض مسرحي، وفيلم درامي حربي أمريكي (بطولة الممثل الإنجليزي الشهير إدريس إلبا في دور قائد الجماعة المسلحة، والطفل الغاني إبراهيم أتاه في دور الصبي المجند آغو)، صدر الفيلم في عام 2015م، وحاز على جائزة NME لأفضل فيلم في عام 2016م.
كما حمل الفيلم اسم الرواية Beasts of No Nation، التي حصلت هي الأخرى على عدة جوائز كان أبرزها جائزة لوس أنجلوس تايمز للكتاب Los Angeles Times Book Prize. لكن رغم الحفاوة التي قُوبِلَ بها الفيلم، إلا أنه جاء مختلفًا من جهات عديدة، عبر ما طرأ على بعض الشخصيات والأحداث من تعديلات، ارتآها صُنَّاع العمل، لدواعي الحبكة الدرامية المطلوبة لطبيعة العمل الفني والجانب الترويجي له.
ثانيًا: حول المضامين الواردة بالرواية
تحاول رواية “وحوش بلا وطن” تبصير القارئ بما يُعايشه الأطفال الذين يتم تجنيدهم في صفوف الجماعات المسلحة بإحدى بلدان غرب إفريقيا (لم يتم تحديد البلد على وجه التحديد)، عبر عدة مراحل ومحطات قبل وبعد التجنيد، نعرضها وفقًا للنهج الآتي:
1- طفولة هانئة قبل اندلاع الحرب الأهلية
يستعيد هنا الطفل “آغو” بطل الرواية ذكرياته مع عائلته، بدءًا من تعلُّمه القراءة مبكرًا على يد والده الذي كان يعمل معلمًا، ومراقبته لأُمّه التي كان يحبّها كثيرًا، ويجلس في المطبخ ليشاهدها وهي تغسل الأطباق، وهي التي كانت تناديه بالأستاذ، لشَغَفه الكبير بالكتب وأولها الكتاب المقدس، الذي كان يداوم على قراءته بصحبة والدته.
كما يتذكر “آغو” مَدرسته، وكيف كان يدرس مع زملائه الأكبر منه لنبوغه الدراسي، وكيف كان يُنظّم وقته بين الدراسة واللعب والذهاب للكنيسة وقضاء وقت مع أُسرته، لكنَّه يعود ليُذَكِّر نفسه أن ذلك كله كان قبل الحرب، وأن كل هذه الأمور تلاشت وصارت كالأحلام، ليجد نفسه منفصلًا عن الحياة التي عرفها قبل بدء الصراع؛ حياة أصدقاء المدرسة، والخدمات الكنسية، والوقت مع عائلته. بينما يتذكر بوضوح هذه الأوقات المشمسة، يستمر واقعه اليومي في الانحدار إلى وحشية لا يمكن التكيُّف معها، وخوف من مستقبل محفوف بالمخاطر لا يُوصَف، إلى حد فقدان الذات، ليصبح وحشًا بلا مأوى، بلا أهل وبلا وطن.
2- سيكون كل شيء على ما يرام؟
بعد أن تنقلك الرواية لانضمام الطفل لتلك الجماعة المسلحة الناشطة بإحدى بلدان غرب القارة الإفريقية، وتسرد لك حياته الأليمة هناك، هو وعشرات الأطفال، وبعد أن يتعرَّف قائد التنظيم الإرهابي على الفتى “آغو”، يسأله عن عائلته، فيقول: إنه لا يعرف عنهم شيئًا، وأنه اختبأ في الأدغال وركض في هذا الطريق دون أن يعرف شيئًا آخر، ليطلب منه القائد البقاء معه وأنه سيعتني به، وأنهم سيقاتلون سويًّا العدو الذي أخذ والده. مُؤكّدًا له أن كل شيء سيكون على ما يرام.
وهكذا فجأة، دون مقدمات، أصبح الفتى جنديًّا، يرى كل الجنود حوله يحملون البنادق والسكاكين ويطيعون القائد في كل ما يُصدره من أوامر، كما أنهم يقولون لي: (على لسان الفتى آغو) “كُف عن القلق… قريبًا سيأتي دورك، وستعرف ما هو الشعور الذي ينتابك حين تقتل شخصًا ما، ثم يضحكون عليَّ ويبصقون على الأرض بجوار قدمي”.
يفكّر “آغو” في كل الأشياء التي يتعلّمها هنا كجندي، فيتعلم المسير، يسارًا يمينًا، يمينًا يسارًا، كما يتعلم كيف يختبئ في الأدغال، وكيف يبقى ساكنًا حتى لا يتمكن أحد من تحديد مكانه، وكيف يمشي قدمًا أمام الأخرى حتى لا يسمعه أحد، وكذلك الركض والقفز والتدحرج على الأرض وترديد كل أغاني الجنود أثناء المسير والعمل، وفي ذهنه أن يتصرف مثل الرجال الكبار الذين يظهرون في الأفلام يحملون السلاح ويَبْدُون أقوياء. وخلال ذلك كله تنتابه الحسرة ويشعر بالآسى لما لَحِقَ به، ويفكر في بيته، وأمه وأبيه وإخوته، ويدرك أن لا من شيء سيكون على ما يرام.
3- “يا إلهي!! لقد قتلتُ إنسانًا”:
في محطة أخرى من حياة الطفل الصغير تنقل لك الرواية عددًا لا حصر له من الصراعات النفسية التي يمر بها “آغو”، ويعايشها خلال هذه الأجواء شديدة القسوة بعد تجنيده، فيهمس لنفسه قائلًا: “يا إلهي!! لقد قتلتُ إنسانًا”؛ وذلك مع وضعه للسيف لأول مرة على رأس أحد المدنيين المخطوفين على أيدي الميليشيا التي تُجنّده قسرًا، مُهدّدين إياه بأنه إن لم يفعل ذلك سيظن القائد أنه جاسوس. لكن رغم ذلك يردد في داخله لست فتًى شريرًا، لست فتًى شريرًا، أنا جندي، والجندي لا يكون شريرًا عندما يقتل؛ “أقول هذا لنفسي لأن على الجنود أن يقتلوا ويقتلوا، لذلك إذا كنت أقتل فأنا لا أفعل إلا الصواب، ويردد أغنية “يا جندي يا جندي.. اقتل اقتل اقتل، هكذا أنت تحيا، هكذا أنت تموت”.
لكن رغم ذلك يشعر بأنه فتى شرير، مُحدِّثًا نفسه: “كيف يمكنني أن أكون فتى شريرًا؟ وأنا الفتى الذي كان يعيش حياة مثل حياتي ويخشى الرب ويقرأ الكتاب المقدس طوال الوقت”.
4- التحكم العقلي “غسل الأدمغة” للجنود الأطفال:
تصف الرواية على لسان “آغو” كيف يتم التحكم العقلي بهؤلاء الأطفال من أجل تنفيذ المهام المطلوبة منهم كالقتل والسلب والنهب، فيقول لهم القائد: “إننا سنهجم على إحدى القرى، فيقول الطفل: أين هي القرية؟ ومَن نحن حتى ننهبها؟ ولكنه يسأل رغم أنه قد يتم ضربه، ثم يسألهم القائد إذا كانوا يكرهون العدو، وفي كل مرة يجيبون نعم. ويقومون بالخبط عل الأرض وأحيانًا بالقفز في الهواء. يسألهم إذا كان العدو يقتل أُمّهاتهم وآباءهم ويحرق منازلهم، ويجيبونه بهدوء: نعم؛ لأن جميعهم يُفكِّرون في الأماكن والأشخاص التي تركوها من ورائهم. وهكذا يتم إعدادهم وشحذ هممهم، إضافة لاستعداد البدني من خلال التدريبات القتالية التي يخضعون لها يوميًّا، من أجل تنفيذ المهام الموكلة لهم، من قتل للمدنيين وسطو على القرى، وغيرها من متطلبات لتحقيق مصالح الجماعة المسلحة.
5- صعوبات إعادة الإدماج:
بعد أن تتعمَّق الرواية في كل ما يمرَّ به الجنود الأطفال خلال الصراعات والحروب في إفريقيا، من مآسي وانتهاكات، ينسدل الستار عن هذا الفصل من حياة بطل الرواية؛ ليبدأ فصل جديد قد يبدو أفضل، لكنَّه أكثر صعوبة، مرحلة يخرج فيها الطفل وأقرانه من قبضة الجماعة المسلحة، ليذهب إلى مكان أكثر أمانًا تحت سيطرة الدولة والمنظمات الدولية؛ لحمايتهم وإعادة تأهيلهم من جديد في المجتمع.
لكنك تتلمس مع نهاية الرواية صعوبة -وليس استحالة- إعادة إدماج هؤلاء الأطفال مرة أخرى؛ فالأمر يستغرق وقتًا طويلًا ليتعافوا، ولو بشكل جزئي، من الفظائع التي عايشوها، مثل “آغو” الذي يحكي كيف يجد صعوبة في التواصل مع الأخصائية الأمريكية التي تم تعيينها لمساعدته هو وزملائه لمواجهة ما مرّوا به، خاصةً مع شعوره بأنه لم يعد طفلًا، قائلًا: “أخبرها -أي الأخصائية- أحيانًا بأنني لا أحكي لها الكثير؛ لأنني أعرف أشياء من المروِّع قولها، رأيت أشياء فظيعة أكثر مما رآه ألف رجل، وقمت بأشياء فظيعة أكثر مما قام به ألفا رجل، وإن قلت هذه الأشياء فسأحزن كثيرًا، وستحزن هي كثيرًا، أودّ أن أكون سعيدًا بكل ما أراه في هذه الحياة، أود أن أكون سعيدًا فحسب”.
ثالثًا: رؤية تقييميّة
يُلاحظ القارئ لرواية “وحوش بلا وطن” -رغم براعتها في نقل المعاناة الإنسانية لحياة الجنود الأطفال خلال الصراعات والحروب الأهلية في إفريقيا- عشوائية السرد وبساطة اللغة، وتكرار بعض الجمل أو المفردات خلال بعض أحداث الرواية؛ كقول بطلها “آغو”: “لستُ فتى شريرًا. لستُ فتى شريرًا. أنا جنديٌّ، والجندي لا يكون شريرًا عندما يقتل. أقول هذا لنفسي لأن على الجنود أن يقتلوا، ويقتلوا، ويقتلوا”.
وكذلك التنقل كثيرًا في أحداث الرواية بين الماضي -حياة الطفل وسط عائلته- وحياته الآن كجندي وسط المتمردين المسلحين، على نحو بارز وشائع خلال صفحات الرواية. إلا إنه رغم ذلك، تعود لتدرك أن للأمر مبرره ووجاهته، بل إنه كان ضروريًّا، وذلك بالنظر إلى أن هذه الرواية يتم نقل أحداثها على لسان طفل أبعدته الحرب عن إكمال حتى المرحلة الابتدائية من تعليمه، التي كان قد بدأها للتو، بما يجعلك تغفر لهذا الصبي تلعثمه أحيانًا، وتكراره لبعض المفردات في أحيان أخرى، وكذلك تخبُّطه بين الحاضر والمستقبل، واستدعاء الماضي والحنين له، والتنقل المفاجئ فيما بين الماضي والحاضر، في أوقات كثيرة من الرواية.
من ناحية أخرى يدرك القارئ والمتابع لظاهرة الجنود الأطفال في إفريقيا، أن هذه الرواية رغم صدور النسخة الإنجليزية الأولى منها، منذ حوالي 20 عامًا (نوفمبر 2005م)، إلا أنها لا تزال حاضرة وبقوة، مع استمرار ممارسات تجنيد الأطفال في الكثير من بلدان القارة الإفريقية حتى الوقت الحالي، التي تؤكدها التقارير الدولية؛ كتقرير للأمم المتحدة صادر عام 2021م كان قد سلَّط الضوء على غرب ووسط إفريقيا باعتبارهما المنطقتين اللتين سجلتا أعلى معدلات تجنيد الأطفال في إفريقيا، وعليه لم يكن مفاجئًا أن يتم ترجمة نسخة عربية من الرواية ذاتها، ليتم إطلاقها في العام 2024م، لتشعر أنها كُتِبَتْ للتوّ وليس قبل عشرين عامًا، لاستمرارية الظاهرة في القارة حتى الآن.
لكن من المُهِمّ التأكيد على تفشّي الظاهرة في بقاع أخرى من العالم، إلا أن الرواية تُركّز هنا على القارة الإفريقية وتتخذها مسرحًا رئيسًا لاستكشاف مثل هذه الممارسات، في قارة يقع حوالي 40% من سكانها تحت سن 16 عامًا، بما يَعنيه ذلك من وقود مستمر للجماعات المسلحة التي تعتمد على تجنيد الصغار كمحاربين في صفوفها، ومِن ثَمَّ استمرار الظاهرة.([1])
خاتمة:
في الأخير تحاول الرواية أن تُقدِّم إطلالة إنسانية خالصة، وإن كانت مؤلمة، على ظاهرة تجنيد الأطفال خلال الصراعات المسلحة، وكل ما يعانيه الجنود الأطفال من فظائع لا يتحملها حتى الشخص البالغ؛ من خلال تجسيد ما يعايشه “آغو” في بلد بغرب إفريقيا -لم يتم ذكر تحديدها بالرواية كما ذكرنا سلفًا ربما في إسقاط مقصود أن دولًا عدة بالإقليم تعاني الظاهرة ذاتها-، تعصف بها الحرب الأهلية، لترى بعد ذلك كيف تتحول حياة هذا الصبي رأسًا على عقب أو لِنَقُل كيف تنال الحياة منه وكيف تُحوِّله هذه الأجواء المروّعة من طفل بريء متشبّث بحضن أمه وأبيه، يحاول أن يلهو بقدر ما تعطي الحياة له، إلى عضو مقاتل بإحدى العصابات الإرهابية شديدة الخطورة، يطارده موت والده على أيدي المسلحين، ليصبح عُرضة للطبيعة بوجهها الشرس؛ يعيش وسط النيران، يُطلق الرصاص ويحمل السكاكين، ويفعل كل ما يُطلب منه من أعمال وحشية، لم يكن ليتخيل قط أن يراها أمامه، لا أن يكون هو القائم بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر النسخة العربيّة للرواية:
أوزودينما أيويلا، حيدرة أسعد (مترجمة)، وحوش بلا وطن، (الشويخ الصناعية الجديدة وبغداد: منشورات تكوين، الطبعة الأولى، يوليو 2024م).
مصدر النسخة الإنجليزيّة للرواية:
Uzodinma Iweala, Beasts of No Nation, (New York & London: HarperCollins, November 8, 2005).
([1]) Naomi Haupt, Keeping the spotlight on Africa’s child soldiers, defenceWeb, Jan 15, 2025, Accessible at: https://2u.pw/VKN35DEY